ما من شك أن ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر قد أحدثت تغييرًا كبيرًا -وإن لم يكتمل بعد-، بل وانقلابًا فى المفاهيم العامة للسياسة وإصطلاحاتها المعروفة لدى الساسة المخضرمين محترفى اللعب بالألفاظ من أجل توجيه الرأي العام إلى ما يصبون إليه من أفكار لحساب مآربهم الخاصة وغير المعلنة. من يتصور أن الثورة قد انتهت أو أن ما تم إنجازه هو ذروة ما يمكن لها أن تحققه؛ فهو واهم وغير مدرك تمامًا لما يطفو على سطح المشهد السياسي والاجتماعي في الشارع الآن، والذي يمكّن لمن لديه ولو قليلاً من القدرة على قراءة المشهد الراهن واستقراء الأوضاع، وإلقاء نظرة سريعة على التاريخ الثوري للشعب المصري، وماذا كان يفعل بمن كان يستبيح حقوقه عند نفاد صبره المعهود.
وفي ظني أن الثورة قد نجحت في الإطاحة بالرؤوس الكبيرة، وبقيت الرؤوس الصغيرة -أذناب النظام السابق- التي خرجت من جحورها مكشرة عن أنيابها تريد بث سمومها فى شرايين المجتمع، في محاولة منها لرد الجميل لأربابها بإجهاض حلم المصريين فى تحقيق الحرية والعدالة ورسم خريطة سياسية واجتماعية ودستورية جديدة، تعبر عن الهوية الحقيقية لكافة أبناء الشعب المصري العظيم. فمن يتصدرون المشهد الآن من المتحولين متسولي الشاشات والظهور المتكرر والممل عبر الفضائيات؛ يخرجون علينا كل يوم وليلة بوجوه قد سئمناها، يطلقون نظرياتهم الخبيثة المستوردة من هنا وهناك، البعيدة كل البعد عن هويتنا وموروثنا الثقافي؛ لطمس معالم هذا الموروث شكلًا ومضمونًا. فترى هذا علماني، وذاك ليبرالي، وآخر شيوعي، وكأن مصر كانت بلا هوية وجاءوا هم على أنهم جهابذة العصر، وأصحاب الفكر السياسي العميق دون غيرهم؛ ليختاروا لها هويتها! فهم يُنصبون أنفسهم أوصياء على هذا الشعب في رسم طريقه وتقرير مصيره، لا يدركون أن نظرية الوصيّ قد سقطت بسقوط "مبارك" وأعوانه. فلن يسمح هذا الشعب أبدًا بإيداع مستقبله في يد أحد غير مخلصي هذا الوطن من أبنائه الأوفياء الزاهدين فى اللهث وراء المناصب واعتلاء الكراسي الزائلة! فبدلًا من أن يتآمروا على الشعب؛ أولى لهم أن يصطفوا إلى جانبه، حيث أثبتت الثورة أن الشعب هو الباقي أبدًا، وأن الخونة لابد من فضحهم وإقصائهم هم وأتباعهم، فليس من العقل أن يلعبوا نفس الدور وينتهجوا ذات السياسة التي تحطمت تحت أقدام الثوار فى ميدان التحرير. وانطلاقًا من هذه النقطة أشعر في هذه اللحظة بفيض عارم من المشاعر الدافئة التى تجتاحُني حينما أذكر ميدان التحرير الذي أصبح بمثابة تاج فوق رؤوس المصريين لما له من رمزية ثورية يتغنى بها العالم الآن من أقصاه إلى أقصاه مبهورًا بتحضرها الشديد، وسلميتها غير المسبوقة. وقد بات الميدان قبلة الثوار الدائمة حال رغبتهم فى التعبير عن استيائهم أو رفضهم لشيء ما.
أعود ثانية لأقول أن الثورة قد أسقطت رأس النظام فقط وبقي جسدُه يُحرك ذيله يمينًا ويسارًا بل في جميع الاتجاهات حالمًا باجتذاب الرأس مرة أخرى، والمتمثل في عودة السياسة القديمة، مستخدمين فى ذلك الإعلام بشتى أنواعه، خاصة المرئي منه لقدرته الفائقة على توجيه الرأى العام، لا سيما البسطاء من الشعب ممن ليس لديهم وعيًا كافيًا بدهاليز السياسة وسراديبها المظلمة والشديدة العمق. ويعلم الجميع أن كثيرًا من الفضائيات مُسيس، ومُوجه من قبل القائمين عليه ممن لهم صلة قوية وغير معلنة بأذناب النظام السابق. ولكن ذلك لا يُعد تحليقًا في آفاق التفاؤل حين أقول أن الثورة ستستطيع القضاء الكامل على ما تبقى من جسد النظام السابق رغم كل ما يحاك لها من مؤامرات في الداخل والخارج وإن طال أمدها. فهذا دأب الثورات دائما؛ تمر بعثرات ومنحنيات تعلو وتهبط إلى أن تتحقق الأهداف وتستقر الأمور.
من يطالع تاريخ الثورات العالمية، كالثورة البلشفية فى الاتحاد السوفيتي السابق عام 1917، أو الثورة الفرنسية مثلًا، التي استمرت قرابة العشر سنوات (1789-1799) وخلفت وراءها آلاف الضحايا، وفي نهاية المطاف حققت أهدافها التي قامت من أجلها وقضت على الملكية المطلقة -مع الفارق بالطبع في أهداف هاتين الثورتين مقارنة بأهداف ثورة الخامس والعشرين من يناير-؛ يجد أن هذا أمرًا طبيعيًّا مألوفًا في أدبيات الثورات الإنسانية فى مواجهة الظلم على مر العصور. فعلى الجميع عدم القنوط من أن الثورة حتمًا ستحقق أهدافها كاملة وسط كل هذا الزخم من المؤامرات التي تحاك، أو ما يطلق عليه الآن إعلاميًّا (بالثورة المضادة) التي تقودها طائفة كبيرة من فلول نظام "مبارك"، مستخدمين في ذلك البلطجية والخارجين على القانون، وبعضًا من الآلة الإعلامية الموالية لهم والتي تمارس أيضًا هي الأخرى هذا النوع من الثورات المضادة، ولكن فى ثوب الحرية والديمقراطية المزعومة على طريقتهم.
مصر ليست فريسة سقطت ليلتف حولها الذئاب من كل جانب طامعين فى نهش جسدها قطعة قطعة كما يتصورون؛ وإنما هي وحش استفاق من سُباته الذى طال، ليلتهم كل من يريد الاقتراب منه، أو الانقضاض عليه فى أي لحظة من الزمان.