إن أي مختص ومعنى بالإستراتيجية الحديثة يعي تمامًا أن هناك تدافعًا مفاهيميًا كبيرًا موجود في حقل الإستراتيجية العام، هذا التدافع المفاهيمي أدى بدوره إلى خلط الأوراق مع بعضها، وتشويه جوهر الإستراتيجية وروحها، وجعلها تغرق في محيط كبير من المفاهيم التي شوهت السمة الروحية لها، وهذا الأمر الذي جعلني أكتب هذه الرؤية التحليلية للإستراتيجية والفهم الخاطئ لها بدلالة التخطيط.
لماذا هذا التدافع المفاهيمي؟
- شهدت الحياة بشكل عام قفزة نوعية كبيرة جدًّا في كافة مفاصل البشرية، وهذه القفزة نستطيع القول أنها طفرة أصابت العالم بأسره، وجعلت من المفاهيم التي كانت تسود في القرن التاسع عشر وما قبله ذات بعد جامد ستاتيكي ولا يمكن تعميمه -نسبيًّا- على الواقع الآن وعلى طبيعة الحياة الحالية وما شهدته البشرية من تطورات خصوصًا في القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين؛ بسبب اختلاف طبيعة الأشياء عمومًا، الأمر الذي أدى إلى تطور العلوم كافة، وهذا التطور جعل من التخصصات العلمية الصرفة والعلوم الإنسانية تتداخل على بعضها ويحصل تلاقح مفيد من جانب وتشويه مضر للمفاهيم من جانب آخر. ما بين هذه العلوم، العلمية الصرفة والعلوم الإنسانية،الأمر الذي أدى إلى حدوث خلل في المنظومة المفاهيمية لكل علم، بحيث نرى انشقاقات كثيرة تحدث ما بين العلوم، ووصل الحال الآن إلى دراسة تفاصيل التفاصيل لكل علم وهوشيء جيد؛ لأنه يؤدي إلى الدقة والتعمق في تفاصيل الحالة التي هي موضع الدراسة، بعد أن كان الفرد في زمن ما طبيبًا ومهندسًا وشاعرًا ورجل دين.. إلخ، أما الآن فقد انتفت هذه الأمور بعد القفزة الكونية الكبيرة ووصول العالم إلى تكنولوجيا النانو، والتعقد الكبير الذي أصاب الحياة البشرية بفعل التكنولوجيا.
- من بين كل هذا وذاك أخص حديثي وأحصره في العلم الذي أدرسه وهوعلم الإستراتيجية، ولي وجهة نظري الخاصة في هذا الشأن، حيث أن أساس كل علم هواتباعه لمبادئ وقواعد وأسس يقف عليها ويسلكها ويطبق قوانينه عليها، وذلك اعتمادًا على التنظير الفكري والتأطير المعرفي، والإستراتيجية لم تخرج عن هذه الأسس ولم تهمل أي جزء منها، بل على العكس من ذلك نرى أن علم الإستراتيجية هوبحد ذاته يقوم على التأكيد على هذه الدقائق ويدعوإلى اتبعاها لكي يخرج الفعل الإستراتيجي بعد ذلك بصورة مشروع قائم على أساس المعالجات العلمية والالتزام بمعاير التنظير والتأطير الفكري، ويمكننا أن نتلمس الفكر التنظيري للإستراتيجية من خلال النتاجات الفكرية لهذا العلم، وما حققته هذه النتاجات من تطوير مهم في كافة بوتقات الحياة. الفهم الخاطئ للإستراتيجية بدلالة التخطيط: لاحظت مؤخرًا أن الكثير من الذين حاولوا الكتابة في مجال الإستراتيجية وتفصيلاتها وتشعباتها الطويلة والعريضة، هذا الحقل الهائل والكبير الذي يصعب الكتابة به لغير المختصين، لاحظت أنهم يتناولون الإستراتيجية على أنها خطة بعيدة المدى أوأنها خطة بشكل عام بغض النظر عن مداها وحدودها الزمنية يعمل على تنفيذها لتحقيق أهداف منظمة أومؤسسة ما، وأن مثل هذه الكتابات أراها قد أصابت حقل الإستراتيجية بترهل مفاهيمي كبير أدى إلى خلط المفاهيم حتى على الدارسيين الجدد لهذا الحقل وأنا منهم في مرحلة من المراحل السابقة، بحيث أضحى هناك اتجاه كبير من قبل (المختصين الطفيليين الجدد) في مجال الإستراتيجية والتخطيط والتخطيط الإستراتيجي، والذين يتناولون الإستراتيجية على أنها خطة بعيدة المدى تسعى المؤسسة إلى تحقيقها.
- هذا الأمر أدى بدوره إلى تضييق المحتوى الروحي للإستراتيجية وجعلها أسيرة لمفهوم خنق أداءها الفعلي وجعل منها جسدًا بلا روح، وقامت بتقطيع أطرافها وشل حركتها الديناميكية عندما تم حصر الإستراتيجية في التخطيط والتخطيط الإستراتيجي، بمعنى أنهم ضيقوا على أنفسهم وعلى الكثيرين من المهتميين من بعدهم هذا المفهوم الواسع للإستراتيجية وجعلوه محصورًا بالتخطيط والتخطيط الإستراتيجي الذي يعد في الحقيقة مرحلة اساسية من مراحل الإستراتيجية نفسها وليس كلها، والتي تبدأ بالتفكير وتمر بمرحلة التحليل والتخطيط والتنفيذ والتقييم والتقويم الإستراتيجي، وأشبه هذه الفئة من الدخلاء والمتطفلين على علم الإستراتيجية والذين أرفض أن أطلق عليهم كلمة مختصين، بالذي يقول أن هذه الغرفة في هذا المنزل هي أكبر من المنزل نفسه! أي ما أعنيه هنا كأنهم عندما يعممون التخطيط والتخطيط الإستراتيجي على أنه إستراتيجية بحد ذاته، هم بذلك يحجمون من دورها دون علمهم بمحتواها الروحي.
- أخص بالحديث هنا مجموعة من الذين يبحثون في مجال التخطيط والتخطيط الإستراتيجي والذين يعنون بتطوير الموارد البشرية والإدارة الإستراتيجية، الذين هم بالأساس متخصصون في أمور أخرى كالهندسة والطب والزراعة والفيزياء والتاريخ والجغرافيا وحتى الاقتصاد -على الرغم من اقترابه الكبير من الإستراتيجية بحيث يعد أداة من أدواتها الرئيسية والحيوية- وغيرها من العلوم الأخرى، التي ساعدت في تشويه المفهوم الجوهري لروح الإستراتيجية وللإستراتيجية نفسها، بحيث أن هذه الفئة لديها الكثير من الأطروحات التي أصابت الفعل الإستراتيجي بعملية الترهل المفاهيمي في تحديد المحتوى والوعائي والتنظيري لجوهر الإستراتيجية. والذي أستطيع أن أقوله في هذه الفئة أنهم يمتلكون الموهبة والفن ولكنهم لا يمتلكون العلم نفسه، والموهبة لوحدها لا تكفي، والعلم لوحده أيضا لا يكفي، فأساس كل حقل يبتغي النجاح في وظيفته الذي أنشئ لأجلها هو أن يعتمد على المبادئ والأسس العلمية وفن البراعة والمهارة في أداء هذا العلم، أي أنها عملية تزاوج ما بين أشياء فطرية تولد مع ولادة الإنسان وأشياء تكتسب من خلال الاحتكاك في أطر البيئة المعاشية والحياتية العملية ومع الدراسة العلمية الأكاديمية للحقل العلمي. ومن خلال هذا الطرح أقدم مفهومي الخاص للإستراتيجية على أنها: علم وفن وضع الأهداف وتوظيف الإمكانيات اللازمة المتاحة وغير المتاحة خلال فترة زمنية معينة قابلة للزيادة والنقصان لتحقيق هذه الأهداف، مع الأخذ بنظر الاعتبار كافة المتغيرات والعوامل المتعلقة بالبيئة الإستراتيجية نفسها وخضوعها لمراحل أساسية مفصلية لا يمكن تجاوزها وهي التفكير والتحليل والتخطيط والتنفيذ والتقييم والتقويم. وهذا المفهوم للإستراتيجية يرسم الخطوط العريضة للفكرة الذهنية التي تدور في عقل ومخيلة المنظر الإستراتيجي الذي يبحث في (الكيف) التي تفصل تفاصيل الفعل الإستراتيجي وتبحث في دقائقه الدقيقة و(الكيف) هنا تختلف كثيرا عن (الماذا) حيث أن هناك فرق كبير بين العبارتين الآتيتين: كيف تفعل قبل أن تفعل؟ وماذا تفعل قبل أن تفعل ؟ حيث أن (الكيف) تفصل التفاصيل للفعل الإستراتيجي على العكس من (الماذا) تبحث في الجزء السطحي للفعل الإستراتيجي، وهنا جوهر الإستراتيجية وجوهر الاختلاف بين المختص الفعلي في مجال الإستراتيجية والدخيل المتطفل الذي ينظر في الإستراتيجية، حيث أن المختص والدارس لحقل الإستراتيجية بصورته الأكاديمية يبحث في (الكيف) على العكس من الدخيل على هذا الحقل الذي يبحث في الماذا عندما يحصر الإستراتيجية بالتخطيط والتخطيط الإستراتيجي. وإذا ما قمنا بسؤال أحد الأشخاص بالقول له (ماذا) ستفعل غدا صباحًا؟ فسوف يجيب بأنه سوف يذهب إلى الجامعة لحضور المحاضرة ومن ثم يعود إلى المنزل فور انتهائه، ونلاحظ هنا السطحية في تفاصيل الفعل، وإذا ما سألنا السؤال مرة أخرى ولكن بصيغة أخرى وهي (الكيف) أي (كيف) ستفعل ذلك غدًا؟ سوف يجيب ويقول سوف أستيقظ الساعة السابعة صباحًا، وسوف أرتدي ملابسي الفلانية، وأنتظر الحافلة التي سوف تقلني إلى الكلية في نهاية الشارع، من ثم أصل إلى الكلية الساعة الثامنة إلا ربع، ومن ثم أدخل المحاضرة الساعة الثامنة، وأخرج منها الساعة العاشرة، وبعدها أذهب لتناول شيء في نادي الكلية، ومن ثم أعود للمحاضرة الثانية وأدخلها الساعة الحادية عشرة، وأخرج منها تمام الواحدة وأغادر الكلية الواحدة والنصف، وأركب الحافلة الساعة الثانية ظهرًا وأصل المنزل الثانية والنصف. هنا نلاحظ من خلال المثال التوضيحي السابق عدة أمور، منها أن (ماذا) أجابت على السؤال بصورة سطحية جدًّا بحيث لم تتفصل بدقائق الفعل على العكس من (كيف) التي كانت دقيقة في تحديد دقائق الفعل، ومن هنا نستنتج أن الإستراتيجية تبحث في (الكيف) التي تقوم على أساس تحديد الخطوات المستقبلية للفعل الإستراتيجي نفسه، وتحديد مفاصله بشكل مفصل بحيث لا تهمل أي جزء منه؛ لأن إهمال أي جزء من الفعل الإستراتيجي يؤدي إلى إحداث خلل في المنظومة الفكرية للفعل نفسه، وعلى العكس من (الماذا) التي نرى أنها تناولت الخطوط العريضة للفعل ورسمت له مسارًا عامًّا مستقبليًّا، وهنا أستطيع أن أشبه (الكيف والماذا) بمنهجين من مناهج البحث العلمي والأكاديمي وهما المنهج الوصفي والمنهج التحليلي، حيث يتناول الأخير تفاصيل الظاهرة ويدرس أسبابها ويبحث في أعماقها وتطوراتها وكيف حدثت ولماذا حدثت ومتى حدثت، على عكس المنهج الوصفي الذي يدرس الأجزاء السطحية والخارجية للظاهرة ولا يبحث في تفاصيل تفاصيلها.
- أخيرًا يمكنني القول أن الإستراتيجية أصيبت بعملية ترهل كبير نتيجة لدخول بعض المتطفلين الذين شوهوا هذا العلم وجعلوا منه أسيرًا لرؤاهم الضيقة والمحدودة، والتي أتت من خلال موهبة غير ممزوجة بدراسة أكاديمية علمية لهذا الحقل، بحيث أن مرض هؤلاء الجماعة انتقل الى بعض المختصين في العلوم السياسية والإستراتيجية نفسها، بحيث أنهم قاموا بتبني هذه المفاهيم الدخيلة والترويج لها، وهذا السبب في رأيي الشخصي هو الذي جعل بعض المختصين -أيضًا- ينفون صفة العلم عن الإستراتيجية، وجعلهم يترددون ويخافون من إطلاق صفة العلم على هذا الحقل، وكما حدث سابقًا مع حقل علم السياسة بشكل عام، حيث أنه إلى الآن هناك بعض المختصين بالسياسة ممن ينفون عنها صفة العلم بسبب التطفل الكبير الحاصل عليها من باقي العلوم الأخرى.
التدقيق اللغوي لهذه المقالة: هبة البشير