اعتمدت الدول الكبرى فى سياستها تجاه منطقة الشرق الأوسط فى القرن الماضي على نظرية: أن القوة هي خير وسيلة للتعامل مع العرب. وذلك تمهيدًا لفرض أجندتها، وبسط نفوذها، وإحكام السيطرة على ثروات هذه المنطقة الغنيّة من العالم لضمان تحقيق مصالحها، وإرضاء غرورها الاستعماريّ. ومما ساعدها فى ذلك؛ ضعف انتماء الحكام العرب لأوطانهم، ومقدَّرَات شعوبهم الذين لم يأتوا بهم إلى كراسي الحُكم المغتصبة.
ولتنفيذ ذلك المخطط الشيطاني؛ بدأت الدول الاستعماريّة الكبرى، المتمثّلة فى (بريطانيا العظمى وفرنسا) آنذاك في العمل على اغتصاب المنطقة سياسيًّا وجغرافيًّا عن طريق احتلال الأرض، وصولاً إلى عقد المؤامرة العالميّة الكبرى التي هي بمثابة وصمة عار فوق جبين الضمير العالميّ فى العصر الحديث، والمعروفة بوعد بلفور في عام 1917م، والذي بموجبه حصلت الفرق والجماعات اليهودية المشتتة حول العالم على اعتراف الدّول الكبرى بحقهم الأخلاقي في إقامة وطن قوميٍّ لهم فوق الأرض العربية في فلسطين.
وقد أسفَر ذلك عن جعل منطقة الشرق الأوسط البقعة الأكثر سخونة فى العالم، بدءًا بحرب 1948م بين العرب وإسرائيل، مرورًا بالعدوان الثلاثيّ 1956م، ونكسة 1967م، وانتصار 1973م، وانتهاءً بحرب الخليج عام 1990م. وتلك كانت طريقة الإستعمار القديم.
أمّا حديثًا وبزوال ذلك الاستعمار البغيض نتيجة نشوب الحربين العالميّتين: الأولى والثانية، إلى جانب ظهور زعماء عرب شعبيين أبوا أن تبقى أراضيهم تحت وطأة وسطوة تلك الامبراطوريّات الغاشمة؛ ظهرت قوى كبرى جديدة تمثّلت فى الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتيّ السابق.
انتهجت هاتان القوتان سياسة إستعمارية جديدة، تعتمد على السيطرة والتحكم عن بُعد، باستخدام شتى وسائل الضغط، تارة بالعصَا وتارة بالجزرة، وبتفكيك الإتحاد السوفيتي السابق؛أصبحت أمريكا القطب الأوحد في العالم الذى يريد احتلال البلاد ونهب الثروات، وفرض الاملاءات على شعوب العالم عامةً، والشعوب العربية على وجه الخصوص.
وقد نجحت أمريكا في إستخدام حكام المنطقة ضد شعوبهم، لعقود امتدت من سبعينيّات القرن الماضي حتى العِقد الأول من القرن الحاليّ. وقد عمل أولئك الحكام على إرهاب العباد ونهب البلاد، إضافةً إلى تنفيذ سياسات أمريكا الامبريالية في المنطقة وحماية الكيان الصهيونيّ الغاصب.
ظلّت هذه السياسة مستمرة حتى انتفضت الشعوب، وانقضّت على عروش الحكم لتذيل الكراسي من تحت أقدام الطغاة، ليتهاوى الحُكام العرب واحدًا تلو الآخر، ولم تستطع الولايات المتحدّة بجبروتها حماية أيّ منهم، بل اضطرّت إلى الاعتراف بالثورات العربيّة، وحق الشعوب في اختيار من يحكمها، وفرض الديموقراطيّة الحقيقية على الطريقة التي يرتضيها مواطنو تلك البلاد.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل ستستطيع الدول الكبرى، والولايات المتحدة تحديدًا بإعتبارها القطب الأوحد أن تتكيّف مع الواقع العربي الجديد ما بعد الربيع العربيّ، وسقوط أغلب الطغاة ممًّا سوف يعمل حتمًا على رفع يدها عن المنطقة ولو بشكل مرحليّ؟
أعتقد أنه إذا نجحت الثورات العربية في تخطّي العقبات والمؤامرات التي تُحاك لها في الداخل والخارج، واستطاعت أن تأتٍ بحكّام وطنييّن يهدفون إلى النهوض بأوطانهم، وتحقيق الحريّة والديموقراطيّة الحقيقية لشعوبهم؛ قطعًا سيضطرّ الغرب أن يخضع لهذا الواقع الجديد والتعامل مع الدول العربيّة بطريقة مغايرة تمامًا لما سبق، وتغليب المصلحة والتعاون المشترك.
فلن يكون هناك حينئذِ خيار أمام الغرب إلا أن يُعيد النظر فى سياسته تجاه المنطقة؛ لتتواءم مع إرادة الشعوب التي قالت كلمتها، وأكدت أن الزمن لن يعود إلى الوراء مرة أخرى، بل لابد لهذه الأمة أن تحصل على حقّها المسلوب؛ حيث أنها تعد بوصلة للسياسة العالمية، ومركزًا للتأثير الدوليّ.
التدقيق اللغويّ لهذه المقالة: أفنان الصالح