ما كان أحد يظن مجرد الظن أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي قادت الجماهير العريضة، وأحرزت على التوالي في الانتخابات البلدية في 12 جوان 1990، والتشريعية في 26 ديسمبر 1991 فوزا ساحقا لا ريب فيه بشهادة النظام نفسه المكلف بالسهر على نزاهة هذه الانتخابات.. أن تصبح بين يوم وليلة شماعة تعلق عليها كل الأخطاء، ويسند إليها أسبقية العنف والإرهاب، والتآمر على الجغرافيا والتاريخ. ولم يكن يدر في خلد قادتها أن ما تحقق من انتصار يصبح رمادا تدروه الرياح على أعتاب السجون، وفي الأحراش و الجبال. لقد كانت صدمة عنيفة ليس للجبهة الإسلامية للإنقاذ فحسب كأول متضرر من إيقاف المسار الانتخابي وحرمانها من ثمرة النصر..بل لكل الذين كانوا يراهنون على الانفتاح الديمقراطي المتمخض عن أحداث أكتوبر 1988 والمقرر في ما بعد في دستور 1989 . لأن الديمقراطية التي هبت ريحها على حين غرة وبغض النظر عما كان يقال أن الشعب لم يكن مهيئا لمثل هذه الديمقراطية .. كانت أملا كبيرا في نزع جلباب الأحادية السياسية التي ألبسته للمجتمع الجزائري جبهة التحرير الوطني.. ولهذا كان التسارع إلى تشكيل أحزاب على حسب ما ينضح به الواقع الجزائري من أفكار ومفاهيم، فوصل عدد التشكيلات الحزبية إلى ما يربو عن ستين حزبا.
الأحزاب الإسلامية على المحك…
فكرة إنشاء حزب إسلامي من قبل الحركيين الإسلاميين لم تكن مطروحة على الإطلاق إلا بعد أن تبين أبيض وأسود الخيط السياسي في الجزائر عندما سمحت أحداث05 أكتوبر1988 بإنشاء جمعيات ذات طابع سياسي وفق دستور فبراير 1989 ... وما أن فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أول انتخابات لها حيث استولت على أغلبية البلديات في الجزائر حتى بدأت القيادات الإسلامية الأخرى تراجع نفسها، وتنظر للمشهد الجديد من زاوية أنها أخطأت الحساب . كما باتت تحسب ألف حساب لهذا الحزب الإسلامي الذي استطاع أن يستقطب أنصارا لم تكن في الحسبان من عوام وخواص وحتى داخل المؤسسة العسكرية نفسها كما قال بذلك الزعيم الأول للجبهة الإسلامية للإنقاذ الدكتور عباسي مدني .. وخشيت على نفسها من النسيان الجماهيري والذوبان داخل زحمة الأحداث ،وإعجاب الناس بقوة هذا الحزب بعد أن أصبحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بديلا لكل التشكيلات الإسلامية التي كانت ترى بأن العمل الدعوي أجدى وأنفع من العمل السياسي للمجتمع ولو في الوقت الراهن. فطار محفوظ نحناح إلى وزارة الداخلية من أجل اعتماد حزبه حركة المجتمع الإسلامي حماس وتبعه عبد الله جاب الله عندما أحس بأن كل الكوادر التي كانت تعمل تحت جناحه انفرد بها هذا الحزب الجديد ومن بين هذه الكوادر ، رابح كبير ، المرحوم عبد القادر حشاني ، عبد القادر بوخمخم، وبعض القياديين لا يتسع المقام لذكرهم جميعا الآن.. فأسس حزبه النهضة الإسلامية . وجاء بعد هذين التشكيليتين الحزبيتين حزب الجزائر المسلمة المعاصرة بقيادة الدكتور السر بوني أحمد بن محمد و حزب الأمة بقيادة المرحوم يوسف بن خدة.
إن تسارع الأحداث بعد 12 جوان 1990 ودخول الجبهة الإسلامية للإنقاذ في إضراب مفتوح في جوان 1991 على قانون الانتخابات الذي خاطه رئيس الحكومة مولود حمر وش على مقاس حزبه جبهة التحرير الوطني كما نزع قبل ذلك كل الصلاحيات من رؤساء البلديات لجبهة الإنقاذ.. كي يصعب المهمة أمامهم، ويعرقل دورهم كمنتخبين في الوفاء بالعهود المقطوعة أمام الأنصار وأمام الذين زكوهم بالأغلبية من الشعب. بدأ الحديث في الكواليس على حل هذا الحزب. وقد تلقى الرئيس الشاذلي بن جديد الذي يلقب في الأوساط السياسية حاليا بأب الديمقراطية في الجزائر ومن دون منازع مكالمة هاتفية من الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا متران يطلب منه هذا الأخير بأن يحل هذا الحزب ويمسح له الديون .. فأجابه الرئيس الشاذلي بن جديد بأن التحزب حق الجميع يكفله الدستور وما دام أن الشيوعيين لهم حزب فكذلك للإسلاميين سيكون لهم نفس الحق. غير أن اعتقال قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ عباسي مدني و علي بن حاج على إثر أحداث إضراب جوان غير في المواقف السياسية وأقلب المفاهيم التي كانت السلطة الفعلية تلوكها وتدعو إليها. كما بدأ الشك يحوم حول صدقية السلطة الفعلية في إقرار الديمقراطية كإحدى آليات الحكم من جانب الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي أزداد نهمها أكثر في الوصول إلى مربط فرس الحكم في الجزائر وتمكين الحكم الإسلام بإقامة دولته القائمة على أساس العدل والمساواة في الحقوق والواجبات. وبدأت الأحزاب الإسلامية الأخرى – النهضة وحماس- تترقب الأحداث وتستفيد من الأخطاء كعدم استعمال خطاب فيه نبرة متشددة و استعمال العقلانية في ممارسة العمل الحزبي ريثما تتضح الأمور أكثر. وظهر للعلن الاختلاف المفاهيمي في خطابات علي بن حاج مع تلك الأحزاب الإسلامية التي قال عنها في العلن أنها تتذاكى غير أن النظام سيحطمهم أجمعين فلينتظروا دورهم بعد دور الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وبين المد والجزر تراوح الشعب بين منتظر في أن الحركة الإسلامية سوف تنقذه من براثن النظام الأحادي وتحقيق العدل الذي يقرءون عنه وبين يائس من القلاقل التي بدأت تطفو على السطح كمؤشرات لأزمة كبيرة لا تبقي و لا تذر.
المستفيد الأكبر..
المستفيد الأكبر من الظهور للعلن لم يكن بكل تأكيد الحركة الإسلامية، هذه الأخيرة التي قطفت الثمرة من دون أن تنضج وأرادت تقديمها للمجتمع الجزائري الذي لا يزال في طور التشكيل المفاهيمي من الجانب الإسلامي كثقافة وليس كعقيدة .. فلفظها لأنه لم يستسغها بالشكل المطلوب لأنه كان ينتظر الحل على عجل اليوم قبل غد. بل الذي استفاد من كل الإستعراض الإسلامي – لو صح أن نقول ذلك- المعادون لكل ما رائحته تقترب من الإسلام من شيوعيين واستئصاليين-دعاة الحل الأمني- علمانيين. لأنهم منذ ميلاد الأحزاب الإسلامية عموما وهم يتربصون بها ويدفعون بأنصار الجبهة الإسلامية على وجه الخصوص نحو الخروج عن المألوف القانوني ليصبحوا لقمة سائغة يسهل التهامها بالكيفية اللائقة. وقد حلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بفضل أخطاء لم تكن لتحدث لو كانت هناك بصيرة كما يعترف بذلك معظم قادتها ومن بينهم قائد الجيش الإسلامي للإنقاذ الذي يؤمن بضرورة الاعتراف بأخطاء الماضي ويحمل السقوط المروع للجبهة الإسلامية للإنقاذ لمسلكية القادة الذين غابوا في الخطاب الشعبوي لملتهب ونسوا التعبئة المستقبلية للجهود الخيرة . فكانت الطامة أن تمت المؤامرة التي دبرت بليل على الحزب الأمل و المنقذ ليس داخل الجزائر فحسب ولكن خارج الوطن إذ أصبح يعاني الأمرين ويشكو ضياع كوادره إما يالسجن وإما بالموت وإما بالتورط في أعمال العنف والإرهاب. و لكن حدث للجبهة الإسلامية للإنقاذ ما حدث لمن يتلقى ضربات في الخفاء على قفاه ، فيرد هو في العلن فيكون متلبسا وأفعاله شاهدة عليه.
ما للحركة الإسلامية في الجزائر وما عليها…
لا يمكن لأي أحد أن ينكر أفضال الحركة الإسلامية في الجزائر إلا مكابر أو متعنت جاحد. فالفضل يعود لها في تنظيم حركة الشباب داخل أطر تنظيمية إسلامية في المساجد.. كما يشهد العام والخاص أن فترة الثمانينيات إلى اندلاع أزمة الشرعية في 11 جانفي 1992 كانت فترة صحوة إسلامية حقيقية حيث عاد المجتمع برمته إلى حظيرة الإسلام النقي حتى قال المرحوم الشيخ محمد الغزالي الذي عاش فترة ليست بالقليلة بين ظهراني المجتمع الجزائري عن الشباب الجزائري إنهم ملائكة في العلم وفي الأخلاق..لكن ما يعاب عليها أنها تعجلت الثمرة وتسرعت في إعطاء مبرارت خنقها وضربها وعدم تبصرها بالعواقب الوخيمة. والنتيجة لهذا التسرع بادي اليوم في جنوح الشباب الجديد إلى المخدرات والأفعال المشينة نتيجة الفراغ الروحي والأزمة الاقتصادية الضاربة بوحشيتها في العمق.
إن الحركة الإسلامية في الجزائر وإن كانت صورة حقيقية عاكسة للمجتمع يصدق عليها ما يصدق على أي تشكيلة إصلاحية في الدنيا فإنها كانت حقا النبراس للحيارى من الناس لو فهمت التوقيت المناسب وموازين القوى والتحديات والمحيط الذي كانت تتحرك فيه.
بعد خروج قادة الإنقاذ من السجن .. فهل من بادرة أخرى
ليس مستحيلا أن تعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب له مكانته ضمن الخريطة السياسية الجديدة في البلاد.. لكن من الصعب المؤكد أن يعود له بهرجه الذي كان في التسعينات ،وهذه من المنطقية بمكان كما تنص عليه القوانين الطبيعية والحتمية التاريخية وكذا الحضارية… فالمجتمع طرأت عليه تغيرات وأصابته رجات التحول الفكري لأسباب كثيرة مرتبطة على وجه الخصوص بتداعيات العشرية التي جاءت على الأخضر واليابس، ومهدت للفعل الثقافي المندرج تحت تكاليف الأزمة وهو أن ثقافة الحزبية استُبعدت من الضمير الجزائري. وقد يكون حديث الدكتور عباسي مدني اليوم من كوالامبور عن الأزمة هو مجرد لا حدث من منظور العوام الذي لا يهمه سوى التعجيل بالحل الدقيقة قبل الساعة. لأن الشرنقة التي تخنقه اقتصاديا لا تسمح بسماع الحديث أكثر من رؤية الأفعال تنبش الأرض وتقيم عوده. إن البادرة التي يمكن أن تكون في سياق ما يجري على المشهد الجزائري بعد خروج القادة لإنقاديين هو وضع الأشياء على محكها وترتيب البيت ولو من خارجه. لكن من الصعب أن تكون هناك حلولا جذرية .. لأن الأزمة لا يمكن لها أن تختزل في كلمات تقال من منطلق فردي ليس إلا …..