لقى بعضهم في نفس سيِّد البيت الأبيض الأمريكي الراهن جورج والتر بوش أنَّه نبي فعلا لا توهّما ، وأنه قد اختير لمهمة رسولية خاصة تنافس مهمة الرسول بطرس أو لعلها قد تزيد قليلا في هذا العصر المنكوب بالجزء الأكبر من منظريه الخائبين ونظرياته الخائبة ، فانطلق هذا يتقمّّص الدور هنا وهناك ، وكنا توقّعنا منذ أسبوعين أو يزيد في مقال سابق "محاولة رائعة وشكرا ماليزيا "أنَّ الوقت قد حان لقيام أصحاب هذه النظريات من هؤلاء النفر عينهم ومراكزهم الإستراتيجية ذاتها ومحافل التأثير في السياسة الأمريكية نفسها ، أن يعمدوا لطرح التعديل الملائم على ما قدّّموه عقب الفشل الذريع الذي منيت به مراحل التطبيق الأولى لنظرية التاريخ الواقف أمام أقدام البنتاغون تحت رهبة أداة الضربات الإستباقية والحرب الجوّالة مدخلا ً للأمن الأمريكي وأمن العالم .
وكان للمقاومتين العراقية والفلسطينية وبامتياز واقتدار الدور الأبرز في تقطيع الوقت أمام هذه الجهات المنظِّرة والمفكِّرة ومن ثم َّ تعجيل التعديل لعلَّ ذلك يفيد في رسم أفق ما تحتاجه بلا شك وعلى جناح السرعة واللهفة إدارة ذات الدورة الرئاسية في البيت الأبيض للخروج من الكارثة الإستراتيجية التي رعتها مؤخرا ومنذ أن صدَّقت الرسول بوش في رسالته الجديدة في صورة القائد الضرورة والمنقذ الحتمي من أمام العدو المفترض الذي صنعته بنفسها على مقاس رغبتها وغرضها ، ترى ما الفرق بين القائد الضرورة بوش والقائد الضرورة فلان في دولة من دول العالم المتهم دوما ؟ أو ليس هو ذات النهج الذي ما انفكَّت تأخذه هذه على بعض قيادات العالم الثالث الذين ما خرج طموحهم خارج أقاليمهم على أي حال ومنها القيادات في العالم الإسلامي المستعدى أواخر القرن المنصرم ِ وجوبا ؟.
نزعم بدايةً أن بوش نبيُّ الديموقراطية هذا في عين محبيه ومتشيعيه ومن هم من مشغّليه أو محابيه هو في واقع الأمر لم يعدو أن طبَّق حرفيا إيحاءات الوجه والوجه المقابل الصهيوني في التفكير السياسي الصهيوني في كلّ مرة ، أي أنه وباختصار قد استبدل اليوم الشعار القديم الجديد "العصا والجزرة " بسابقه المبتكر " من معنا ومن ضدنا " ولا سيما بعد أن ثبت أنَّ سابقه من شعار رعاة البقر المكشوف والليكوديين " من معنا ومن ضدنا " كان هو الوبال بعينه على أصحاب التنظير الإستراتيجي الأمريكي من عصبة بقايا المدرسة الواقعية السياسية الريغانية كما يصنِّفهم البعض والتي يمثلها في الجانب التنفيذي المباشر كلٌ من نائبه ديك تشيني ووزير دفاعه الأرعن رونالد رامسفيلد ، وطبعا في هذه النبوة الجديدة أو المعدَّلة انتصر أصحاب القفازات من العماليين على أصحاب القبضات العارية من الليكوديين.
لقد غدت النظرية المعدَّلة والقائمة على انتصار وجهة نظر أمثال دانيال وولفوويتز وغيرهم هي أقرب إلى الوصفة السحرية التي تعتقد إدارة بوش أنها ستنتج التغيير الحتمي وستشكِّل رافعة مناسبة لها فجأة ً من مستنقع الوحل الذي ألقت به نفسها و أمريكا ومن تبعها من أنظمة (تصويت تحت الطلب) فيه ، وحسبما هو متوقع فقد أثارت عدة وسائل إعلامية دولية وعربية هذا التعديل وقيمته قبل أن تشتعل النقاشات والتحليلات من حوله ، وكانت الفرصة لإعلان ذلك في إخراج خاص والذي أراد له بوش أن يكون كذلك وعبر مشهد المسرحي مستغلاً الاحتفال الخاص بصندوق وقف الديموقراطية والعام العشرين على تأسيسه وفي إيحاء يظهره وكأنه في قيمة التعديل الثاني على الدستور الأمريكي المانح للحريات والمبشر بالعدالة الاجتماعية والحقوق الفردية سيما وأنه يرى نفسه قد بات حاكما للعالم بأسره .
يحسن التذكُّر أنه قد أطيح بكلُّ تلك المكتسبات السابقة والتي كان قد حققها المواطن الأمريكي سابقا عبر عدة أجيال فجرى الانقضاض عليها وإجهاض أغلبها بحجة الحرب على الإرهاب ، وفي الوقت الذي يكون فيه راعي الإرهاب الأول هو من تسبب عبر سياساته الحمقاء وغير المتزنة والمتتبعة لتفكير استراتيجي مظلم ، هو ذات الإدارة التي تقف اليوم لتحاول تسويق هذا التعديل في تفكيرها وكأن شيئا جديدا قد حدث تصبح الصورة أكثر إزعاجا وتلفيقا ، ومع ذلك على العالم وبالذات منطقة الشرق الأوسط أن تستمع بآذان صاغية وقلوب متلهِّفة لما تقوله الإدارة اليوم ، طبعا هناك منطق غريب وعجيب ومصادفة ليست مصادفة ، بل هي مقابلة قصد بها نوعا من الإيحائية البعيدة ، ومع كل ذلك لا نرى فيما قاله السيد بوش ولا فيما أعلنه فتحاً جديدا ولا نرى فيه أيضا نوايا جديدة على الإطلاق .
لقد أدرج بعض المحللين سمة الجدَّة في هذا التعديل المعلن على لسان بوش في عدة زوايا ونتيجة لمحصلة ما دار من تحليلات ونقاشات لهذا الموضوع يمكن أن يتم حصرها حسبما أثير في أربع نقاط رئيسة وهي كالتالي :
أولاً : أن الإسلام لا يتعارض مع الديموقراطية
ثانياً : أن الديموقراطية عملية تدريجية
ثالثا : أن الديموقراطية تتحقق برغبة المواطنين والشعوب لا فرضا
رابعا : أن حرية الشعوب هي الطريق لتحقيق الديموقراطية والسلام وهي ضمانة الأمن الأمريكي والدولي
وعند إجراء تقييم سريع سنجد أن المدخل الذي حاولت إبرازه بعض الجهات في المنطقة هو البند الأول الذي قدَّمه بوش في حديثه عن عدم تعارض الإسلام والديموقراطية تحديدا قبل أيِّ بند ٍ آخر ومع ذلك دعنا نرى ما قدَّم بوش وما هو قائم على الأرض ، لا شكَّ أن المرء سيأخذه العجب وهو يستمع إلى هذه الفكرة التي يستوي مثلها ويقابلها في موروثنا بالقول " حق أريد به باطل " ، أما من زاوية أخرى فيبرز السؤال : -ترى هل كان يلزم كلُّ هذا التجيش للعالم بأسره ووضعه على حواف الأزمات الدولية واختلاق أكثر من بؤرة مواجهة لا زال معظمها مفتوحا مع ما صاحب كلّ ذلك من كوارث لتصل إدارة بوش إلى هذا الفهم ؟ والإجابة قطعا لا وطبعا هناك أكثر من سؤال سنجد أن محصلتها تقول بأنَّ الاختيارات التي سعت إليها إدارة بوش عقب سبتمبر وأحداثه كانت أشبه بخيارات الأطفال أصحاب إعاقات التذكُّر .
نعلم أنَّ في فهم بوش وأصحاب التعديل حينما يتحدثون عن عدم تعارض الإسلام والديموقراطية قد ترسَّخ مثال واحد هو الدولة التركية وأنهم يسعون إلى تعميم هذا النموذج ليكون المقياس الذي تقاس به مدى نجاعة الناتج عن تطبيق هذا التعديل تاليا ، ولكن إذا كان هذا هو المثال المقصود فقد كان هذا المثال واقعا حقيقيا حتى قبل أحداث سبتمبر وبعده فما الذي تغيّر حقا ً ؟ والأهم أن هذا المثال المنظور لم يكن محصلة لما حدث ولما نتج أي بمعنى آخر أنه لم يدخل عنصرا في عملية توصّل إدارة بوش له بل كان موجودا طيلة الوقت هناك ، مثل ذلك يعني أن النتيجة ما كانت نتيجة بل يعني ما هو أخطر يعني تحديدا أن الأمر لا يعدو اعتبار مصير العالم بأديانه ومذاهبه وثقافاته مجرَّد لعبة يختار أصحاب النظريات في أمريكا منها متى يعادون هذا ومتى يجعلونه خطرا على كل شيء ومتى ينفون عنه ذلك تماما ؟
لكنَّ السياسة شيء والبعد الإستراتيجي شيء آخر لإعلان مثل هذا ، فالواقع أن الإسلام ليس هو المحرِّك السياسي على الأقل في الغالب الأعظم من الدول الإسلامية وبالتالي فإن البعد البنائي في منظومة الدول ليس هو ربما المقصود مباشرة بل ربما كان المقصود يقع في البناء الاجتماعي لهذه الدول ذاتها ، ومما لا شكَّ فيه أن التقليد القديم في نظام الحكم الإسلامي على مستوى الدول هو نظام الشورى وهو في الواقع أقوى ضابط لفكرة الحرية في المشورة والوصول إلى خلاصة الرأي للمجتمعات ولأنظمة الحكم وهو بهذا يرقى فوق مجرَّد الديموقراطية المقننة ، ولكنَّ هذا الإسلام الاجتماعي لم يكن هو في الأساس إلا الشمّاعة التي حاولت إدارة بوش تعليق كلِّ مخاوفها وفشلها عليها مسبقا ومن المفيد أن نذكِّر إدارة بوش والحالة هذه أن تجييش هذا الإسلام الاجتماعي ضد أمريكا كان دوما صناعة أمريكية .
وإذا كان الإسلام كدين لا يتعارض مع الديموقراطية فما مبرِّر الحملة المسعورة على هذا الدين في كلِّ مكان في إدارة بوش ومن حولها ؟ وهل نتوقع تالياً أنَّ إدارة بوش ستعمد إلى إقالة كلِّ من تهجَّم على هذا الدين ومن حاول أن يسفِّه شأنه وشأن معتنقيه في الولايات المتحدة تحديدا ؟ وإذا كانت هذه الإدارة ستسعى لاستخلاص طريق واضح يسترشد بهذا الجزء من التعديل في نظريتها فهل تراها تاركة هذا الدين ومنطقته ومن يعتنقه أيضا بديموقراطية يتعرّفون هم بأنفسهم على طريقة إقامة هذا التوافق بينهما ؟ وإذا كانت هي تاركة هذه الشعوب التي تعتنق هذا الدين لحريتها وديموقراطيتها الخاصة والنابعة أصلا من ثقافتها هي وبعيداً عن محاولات النسخ المكربن للتجربة الأمريكية ذاتها فلماذا هي لا زالت تشنُّ حملاتها المغرضة على عدد من الدول الإسلامية بدءا بالمملكة السعودية ومروراً بماليزيا قبل الانتهاء بسوريا مثلا ؟
لن نوافق على المرور مرور الكرام على هذا الجزء تحديدا من التعديل المعلن والمبشَّر به بل نصرُّ على الوقوف مطوَّلا عند هذا الجزء تحديدا لأن ما سيتبعه سيكون خادما له لا سيَّدا عليه ، وعلى ذلك فإن على إدارة بوش أن تعلن إعتذارا صريحا عن كلِّ حملات التشهير والإدانة والسب والتحريض التي تقصَّدت النيل من هذا الدين أولا ومن معتنقيه وشعوبه ثانيا وبعدها تكون إدارة بوش وأمريكا بعامة قد فقدت العدوَّ الذي شنَّت حربها ضده ، ويكون لزاماً عليها في ذات الوقت أن تعمد إلى إصلاح كلِّ ما أفسدته سابقا حينما وجَّهت حرابها نحو هذه الشعوب وهذا الدين ، أما مسألة اللعب على الحبلين والكيل بمكيالين وإعلان شيء وتطبيق شيء آخر فهذا لن يكون غريبا على هؤلاء ولكنه بعد هذا الإعلان لن يكون سهلا أيضا عليهم تجاوزه وكأن لم يكن .
أما بقية العناصر المعلنة فتفترض أن تسحب الولايات المتحدة هذه الجيوش الجرَّارة من المنطقة وأن تترك لهذه الشعوب وحدها خيارها الحرّ الذي ستتكفل هي به في تحديد أولوياتها وتدرُّج انتقالها إلى الديموقراطية التي تريد وبالشكل الذي تريد طالما أن لها حرية اختيار هذا الأمر وحرية التدرُّج في الانتقال إليه وعبره وعندها فقط سيكون الاستنتاج الذي توصلت إليه هذه التعديلات بكون حرية الشعوب هي مفتاح السلام والديموقراطية وتاليا تحقيق الأمن الأمريكي بل وأمن العالم وقيام أقوى وأمتن أواصر السلام العالمي حقيقة مؤكّدة ، وحتى تبدأ إدارة بوش في التطبيق السليم فإن على إدارة بوش أن تحقّق أول هذه الحريات التي تستطيع هي بيدها أن تقرِّرها الساعة وفورا بانسحابها من العراق وبدفع الكيان الصهيوني المغتصب على الانصياع لقرارات الشرعية الدولية وتمكين الشعب الفلسطيني من حريته .
وحتى لا نغرق في التفاؤل فإن ذات الخطاب وما تلاه عقب التوقيع على قانون الأموال الخاصة بكلفة الاحتلال الأمريكي قد ضمَّ ما يعتبر الناقض المباشر لكلِّ هذه القضايا بحيث غدا التعديل وضده معا في خطاب واحد في سمع السامع وله بذلك أن يقرِّر بنفسه أيهما يختار ، إذ كيف يمكن فهم ما أعقب ذلك من تهديد مبطن لمصر وضرب من تحت الحزام بانتقادها ديموقراطيا وهي التي لم يشفع لها كونها أول الموقعين على اتفاق الصلح مع العدوّ الصهيوني ؟ وإذا كان ذات الخطاب قد أشاد بالكويت والأردن لأن فيهما برلمانا منتخبا فلماذا كانت عملية انتقاد مصر وهي التي برلمانها وأحزابها قائمة أصلا وبغض النظر عن صدقية التمثيل ؟ وقيل ذلك كلِّه كيف يتوجب فهم قول بوش عن القيادة الفلسطينية المنتخبة ديموقراطيا وبرقابة دولية وأمريكية أصلا أنها ليست شرعية رغم أنها ذات القيادة التي اختارت طريق السلام كخيار استراتيجي ؟ يبدو أن الجري خلف ما سيصدر عن هؤلاء ليس أكثر من إضاعة للوقت .
بوش وإدارته كانا يريان حتى عهد قريب أن الشرعية تكمن فيمن هو معنا وتنحسر عمن هو ضدنا – أي إدارة بوش – حتى لو كانت قد تحققت عبر مسار ديموقراطي تام وسواء أكانت تدين هذه الشرعية بالإسلام أم بغيره ويمكنك التطبيق على الوضع في كل من فنزويلا وفلسطين ، أما اليوم فإدارة بوش تتنكَّر لذات الإعلان الذي ترويه وفي ذات اللحظة عندما تطرح شعارا جديدا يقول أن الشرعية تتحقق فيمن يعمل للديموقراطية عبر رؤيتنا لها وبالتالي فيمن هو معنا ! هل هنالك أي فرق في المسألة ؟ إن المحصلة هنا واحدة في كلِّ الأحوال وهي تختصر دوما بمثال الوصول للأذن من أيِّ الطريقين وعليه تكون كلُّ بذور التفاؤل التي نثرها عدد من المهللين والفرحين هنا وهناك في منطقتنا قد يبست قبل أن تنثر وماتت في يد الباذرين .
والخلاصة التي يؤكدها الواقع والحقائق أنَّ النظرية التي تصدر عن مراكز البحوث الأمريكية وتعديلاتها في مسألة الديموقراطية والحرية والسلام دوما تضع أمامها المصلحة الأمريكية ولو على حساب هذه القضايا وهي بذلك إنما تصبح في محصلتها وسيلة من وسائل التدجين لا أكثر ولا أقل ، وحينما تكون وتيرة الشعور بغرور القوة في أعتى مراحلها تأتي هذه النظريات في صورة فجَّة ومباشرة ودون أدنى اهتمام بتزينها وتزويقها قبل محاولة التسويق وينبري عتاة اليمين الأعمى المتصهين في رعاية خطى التنفيذ والسهر على ابتزاز الإرادة الدولية للنزول عند هذه الرغبات وهذه النزوات ، وحينما تنخفض وتيرة القوة في مواجهة عوامل المقاومة الصلبة وتأخذ العملية مسارها في إيقاع الخسائر بالأحلام والأوهام الأمريكية يتم استبدال هذه النظريات بالقفازات وبالأسلوب الصهيوني الذي مارسه طويلا حزب العمل بالذات وتغدو تاليا هذه النظريات وتعديلاتها ليس سوى الفخ .