منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية المسماة بالجرف الصامد والانتهاكات ضد القانون الدولي الإنساني لم تتوقف؛ بدءًا من قصف المباني السكنية، والمساجد، والمستشفيات، ومقرات منظمات دولية وإنسانية مثل مقر الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة ومدرسة الأونروا. وعقب ذلك تم تسجيل إدانة واسعة لهذا العمل غير المسؤول من قبل دول عرفت بموقفها الملتزم بمساندة إسرائيل. إضافة إلى ذلك، فإن الاستهداف الواسع للأحياء السكنية نتج عنه أن معظم الضحايا من المدنيين، وهذه الملاحظة التي سجلها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تُعتبر إضافة لشهادات فردية من أطباء أجانب وعاملين ضمن منظمات دولية وإنسانية. نفس الأمر حدث في الضفة؛ إذ زادت وتيرة الاعتقال العشوائي خلال الفترة الأخيرة خاصة مع انتفاضة القدس في أيام رمضان الأخيرة.

والسؤال المطروح هنا: لماذا استمرت إسرائيل في تصعيدها وانتهاكاتها ضد غزة؟ على الأرجح هذا يعود إلى عدة أسباب أهمها البيئة العربية المنقسمة على نفسها بسبب الموقف من الإخوان؛ فيبدو أن هناك دولاً بدأت تتبنى نظرية أن الإخوان المسلمين أشد خطورة من الاحتلال الإسرائيلي، وهو الأمر الذي انعكس على مواقفها السياسية وخطابها تجاه ما يحدث في غزة، إذ اكتفت بالتنديد باستهداف المدنيين دون أن تنتقد العملية نفسها وهدفها المتمثل في القضاء على المقاومة، هذا ما منح إسرائيل مساحة للتصرف وفق أهوائها؛ فلا عواقب لعدوانها على المستوى العربي ولا انتهاكاتها حتى من الدول التي أدانت العدوان لأن لدى القادة الإسرائيليين إدراكًا راسخًا بأن معارضتها لن تتجاوز العبارات البلاغية، أيضًا الموقف الأولي الذي اعتمدته السلطة الذي تميز بالارتباك والتردد أعطى انطباعًا بأن المصالحة لا تتجاوز آثارها حكومة الوفاق الوطني في حين أن الانقسام عميق فيما يتعلق بأساليب التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم لم تكن تتوقع أن تلجأ السلطة لاحقًا لإدانة أعمال إسرائيل أو القيام بأي إجراءات معادية لها. وعلى المستوى الداخلي، فإن ارتفاع شعبية نتنياهو بعد إعلانه عن بدء العملية البرية وضغوط العسكريين واليمينيين المتطرفين قد ساهما في زيادة التصعيد، والتركيز على الجانب الأمني، وإهمال الجانب السياسي والعواقب القانونية لهذه العملية، فإسرائيل لا تبدو مبالية وهي تمضي قدمًا في عمليتها رغم الخسائر المالية والبشرية والضغوط الأمريكية لإيقاف إطلاق النار ورغم صورتها المشوهة في الرأي العام العالمي بسبب ما ترتكبه من جرائم واعتداءات. وقد قامت إسرائيل مؤخرًا باستدعاء 16 ألفًا من جنود الاحتياط وأعلن قادتها عن نية تعميق اجتياحها البري حتى القضاء على الأنفاق نهائيًا، كما بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية تستعرض عدة سيناريوهات لخروج إسرائيل من هذه العملية العسكرية التي تحولت إلى حرب استنزاف، حسب محللين إسرائيليين، من الصعب الحديث فيها عن حسم عسكري من أي نوع. ومن أهم هذه السيناريوهات هو لجوء إسرائيل إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار يضع المقاومة أمام الأمر الواقع ويسحب شرعيتها بشكل نهائي لنزع سلاحها في حالة مشابهة للقرار 1701 الذي أنهى حرب لبنان عام 2006. ويعد هذا السيناريو أسوأ من قرار احتلال غزة بالكامل لأن خرق الفصائل الفلسطينية للقرار لن يضعهم في مواجهة إسرائيل فقط بل في مواجهة مجلس الأمن والولايات المتحدة الحليف الأصيل لإسرائيل، إضافة إلى أنه سيقضي نهائيًا على الشكل العسكري للمقاومة، وعلى الأرجح سيتم اعتبار التنظيمات والفصائل التي تلجأ لذلك تنظيمات إرهابية. وفي حال اصطدم مشروع القرار بعقبات جدية تحول دون إقراره من مجلس الأمن، ستلجأ إلى خيار ثانٍ هو صياغة مشروع قانون دولي بالتعاون مع الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وغيرها من دول المجلس الصديقة بهدف صنع حلف ضد المقاومة، بحيث لا تبقى إسرائيل وحدها بل ستجر دولاً أخرى لتقاسم تكلفة الحروب القادمة التي تدرك إسرائيل أنها تصبح أشد إيلامًا في حال فشلها في أهدافها الحالية، إضافة إلى توفر دعم سياسي غير مشروط في مواجهة فصائل المقاومة كلها. كل ما سبق يعتبر أنباء سيئة للفلسطينيين، في حال تحقق هذه السيناريوهات. لكن في المقابل هناك محاولات في الجانب الفلسطيني لتحميل إسرائيل مسؤولية عدوانها الوحشي في غزة، خصوصًا أن السلطة وفتح قد تغيرت مواقفها إلى الاتجاه المخالف على وقع انتهاكات إسرائيل المستمرة منذ بدء العدوان وأصبحنا نسمع من قيادييها آراء مشابهة لما تقوله قيادات حماس، كما أن كتائب فتح تشارك في المقاومة في غزة جنبًا إلى جنب مع الفصائل الأخرى، كما أن السلطة تنوي الانضمام لميثاق روما تمهيدًا للانضمام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ومن جانب أخر ارتفعت أصوات حقوقيين ومسؤولين في منظمات دولية بأنها ترتكب جرائم حرب وتنتهك الاتفاقيات الدولية. وأفضل ما يمكن فعله في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية هو رصد جهود لتوثيق جرائم وانتهاكات إسرائيل واللجوء إلى المؤسسات المعنية لمحاكمة إسرائيل وقادتها في أي وقت، خصوصًا وأن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم. وأبسط مثال ناجح على ذلك هو إدانة عاموس يارون في مذابح صبرا، وشاتيلا، وإسرائيل بالإبادة الجماعية من قبل محكمة كوالالمبور لجرائم الحرب.

 التدقيق اللغوي: أنس جودة عبد التواب.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية