المحاكمات الأخيرة لأقطاب نظام مبارك والتي تذيعها القنوات الفضائية المصرية تعيد بقوة الحديث عن العدالة الانتقالية وما وصلت إليه في مصر، خاصة وأن الحياة السياسية المصرية عرفت منعطفات شديدة الأهمية بعد الثورة من المرحلة الانتقالية إلى فترة حكم مرسي إلى نظام 3 يوليو الذي ما يزال مستمرًّا إلى الآن بعد أن حظي بغطاء شرعية انتخابية .

العدالة الانتقالية كمفهوم سياسي وأخلاقي وقانوني ظهرت بعد موجة التغيير السياسي التي اجتاحت أوروبا الشرقية في التسعينيات من القرن الماضي مع أن أشكال من العدالة الانتقالية كانت موجودة عمليًّا في تجارب سابقة مثل الثورة البلشفية والفرنسية، وكان هدفها الرئيسي تسوية الموروث السابق من الانتهاكات بهدف بدء صفحة جديدة مع نظام يحترم حقوق الإنسان والتصالح مع تاريخه، إضافة إلى تعزيز الثقة في قدرة النظام القائم على تحقيق العدل والالتزام بالقانون .

 

في الحالة المصرية بدأ أول أشكال تحقيق العدالة في شكل قصاص ثوري عنيف من خلال مهاجمة المتظاهرين مقارّ الشرطة الأمر الذي أدى إلى حالة انفلات أمني بعد الإعلان عن نزول الجيش الشوارع، ثم توالت المطالب في مظاهرات حاشدة إلى محاكمة مبارك ورؤوس النظام السابق و تطهير الحياة السياسية ممن أُطلق عليهم "الفلول". وتضم هذه الفئة سياسي ومثقفي ونخبة النظام التي كانت تدور في فلكه، لكن عمليًّا لم تترجم هذه المطالب لاحقا في قوانين أو قرارات سياسية مثل الحالة الليبية التي تم فيها تطهير أجهزة الدولة من أنصار القذافي .

واستمر الأمر حتى بعد تولي مرسي الرئاسة وبعد عزله حتى المحاكمات التي أُجريت ضد بعض القيادات الامنية كانت تتناول الانتهاكات التي حدثت خلال الثورة مثل قتل المتظاهرين ولم تصل إلى أبعد من ذلك في الفترة الزمنية، لكن لاحقًا تم تجاهل مطالب قدمتها بعض هيئات المجتمع المدني إدراج نص قانوني في الدستور الحالي يتناول العدالة الانتقالية تمهيدًا ليكون هناك قانون خاص بها أسوة بتجارب لدول عرفت ثورات مماثلة مثل تونس .

وقد عرفت العدالة الانتقالية – المفهوم النظري – في مصر إشكاليات جديدة أشدها كانت بسبب الصراع مع الإخوان المسلمين وهي كالتالي: أولًا: استمرار انتهاكات حقوق الانسان بعد الثورة مع ارتفاع وتيرتها في الفترة التي عقبت عزل مرسي من اعتقالات وقتل، ثانيا استعمال الاعلام كأداة لتصفية الحسابات السياسية _بعد 3 يوليو_ ضد من النشطاء والسياسيين الذي لا يمكن متابعتهم قضائيا ، اذ تكاثرت بشكل طفيلي جملة من البرامج التلفزيونية اضافة الى متابعات في الصحافة المكتوبة التي تهاجم وتشكك في مصداقية مثقفين و نشطاء ثورة يناير، كما كان الاعلام ايضا استخدم كأداة لتلميع صورة النظام السابق اذ ظهرت تسريبات لحوارات الرئيس السابق حسني مبارك يتحدث فيها عن فترة حكمه متناولا بعض القضايا الشائكة ومقدما تصريحات جديدة اعادته مرة اخرى في شكل لائق للمشهد السياسي .ثالثا تم استعمال اسلوب التطهير ضد الاخوان المسلمين في المؤسسات الامنية من بينها اكاديمية الشرطة بهدف تغيير بنية المؤسسات الحساسة في البلاد في حين لم يحدث ذلك مع الفلول، رابعا وضع حزمة من القوانين هدفها الاقصاء السياسي حيث تم اعتبار تنظيم الاخوان جماعة ارهابية وتم حل حزب الحرية والعدالة ، خامسا استعمال الجهاز القضائي بكثافة ضد النشطاء ومناضلي الاخوان بشكل تعسفي من بينها احكام الاعدام الجماعية التي تعد امر مستحدثا على تقاليد العدالة المصرية التي كانت تطبق الاعدام كحالة استثنائية في مقابل تساهلها مع اقطاب النظام السابق .

الاجراءات السابقة التي اتخذها النظام المصري لإعادة تنظيم الحياة السياسية وتغيير موازين القوى عقدت ملف العدالة الانتقالية وزادت من قضاياه ، السؤال المطروح بقوة لماذا عرف هذا الملف هذه الانتكاسة ؟اهم الاسباب يمكن تلخيصها في مايلي : اولا تأثير القوى الثورية كان محدودا في صياغة الواقع السياسي المصري ، دور العامل الثقافي في تثبيط جهود النخب ومؤسسات المجتمع المدني فثقافة التعسف في المؤسسات الامنية اقوى من ثقافة حقوق الانسان الوليدة ، اضافة الى تأثير الحسابات السياسية فالنخبة الحاكمة تسعى الى توطيد نفوذها وتعتبره اولوية على تحقيق العدالة .

كان المأمول في الحالة المصرية هو اعتماد المحاكمات لتسوية القضايا الجنائية جنبا الى جنب مع المصالحة السياسية التي تضمن مشاركة جميع الاطياف السياسة مع وضع اطار قانوني يبين اليات تطبيق العدالة الانتقالية ومداها الزمني اضافة الى وضع وزارة حقوق انسان لضمان ان لا تحدث انتهاكات مماثلة ، لكن ذلك لم يحدث ولا توجد مؤشرات تدل انه سيطبق قريبا .

 

 

 

 

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية