انتصرت غزة. هذا هو ملخص مشهد الحرب الدامية على غزة، التي مر على بدايتها شهر ولم تنتهِ بعد.

وهذا الداخل الذي أعنيه قد يكون مقصودًا به داخل غزة نفسها، بمعنى أن أهلها المعرضين للخطر ليل نهار لا يلقون لهذا الخطر بالاً ويتمسكون بمشروع مقاومتهم ويلتفون حول حقهم في الدفاع عن أرضهم ومقدساتهم.

 

وقد يكون مقصودًا به داخل الحرب نفسها، بمعنى أنه رغم هذا العتاد الهائل والآليات العسكرية الحديثة للكيان الصهيوني في مقابل جيش غير نظامي ومعدات بدائية في غالبها من جانب المقاومة، إلا أن أسرع نظرة وأصغرها على آثار هذه الحرب على الجانبين ستنبؤنا بأن المنتصر هو غزة وأن الخاسر هو إسرائيل.

فعلى مستوى أهل غزة، يذهلنا هذا الالتفاف حول المقاومة، وهذا الالتحام بين المقاومين والأهالي لدرجة أن أهالي الشهداء والمصابين لم يضيعوا الوقت ولم ينتظروا كثيرًا حتى يقرروا أمع المقاومة هم أم ضدها؟ ولقد رأيت بنفسي أحدهم وهو واقف على قبر أخيه أو ابنه أثناء دفنه، ويقولها بكل جرأة: نحن مع المقاومة. ورأيت أخرى تنعى على العرب والمسلمين تخاذلهم وانصرافهم عن نصرة إخوانهم، وتعلنها صريحة: لا نريد منكم شيئًا، فسنحرر أرضنا بأيدينا.

 

هذا التأييد للمقاومة والتمسك بها يدل على أمرين: أولهما الطبيعة النفسية الفلسطينية التي صقلتها الحروب والاحتلال ومن ثم لم يصبح لهم خيار إلا المقاومة والمواجهة لأنهم قد أيسوا من المفاوضات العاجزة التي لا يزيد الاستمرار فيها إلا ذلاً للعرب وإلا تماديًا وإجرامًا للعدو. وثانيهما: أن المجاهدين والمقاومين قد أصبح لهم ظهر معنوي يشجعهم ويدفعهم للأمام ولإحراز مزيد من الانتصارات التي حتى لو كانت صغيرة ومتفرقة إلا أن لها صدى واسعًا إعلاميًا وتأثيرًا وضغطًا من جمهور الصهاينة على قادتهم.

وأما على مستوى الحرب، فحدث ولا حرج، حيث لم تحقق إسرائيل أي هدف من حربها هذه الشعواء؛ سواء كان القضاء النهائي على الأنفاق أو إزالة حماس من الوجود، وأخذت بدلاً من ذلك في تقتيل المدنيين بصورة جنونية وفي تدمير البنية التحتية من مرافق للمياه، والكهرباء، والمدارس، ولم يسلم من ذلك حتى منشآت الأمم المتحدة مثل الأونوروا.

 

وفي الجانب الآخر، جانب حماس، كأنك تتحدث عن جيش مدرَّب ماهر، خاض الكثير من الحروب حتى يصل إلى هذا المستوى المحترف من التكتيك، واللياقة، والقتالية.

 

فعلى سبيل المثال، فاجأت عناصر حماس العالم كله بقدرتها على التخفي والمناورة ومن ثم إطلاق الصواريخ رغم ما لدى العدو من رادارات وأجهزة كشف نهارية وليلية فائقة، واستطاعت الالتفاف وراء خطوطه وتنفيذ عمليات جريئة وسريعة من نقطة صفر ثم الرجوع بكامل القوة البشرية أو معظمها دون خسائر تذكر، واستطاعت كذلك لأول مرة في العالم العربي تصميم طائرات دون طيار بهدف التجسس والمراقبة، الأمر الذي لم يكن بحسبان أي متابع للشأن الفلسطيني، ومن ثم أرسل برسالة قوية للعدو ومن وراءه أن المقاومة بجعبتها الكثير الذي لم يظهر بعد والذي بإمكانه أن يخلخل موازين القوى وأن يغير المسار بعد ذلك.

 

وأخيرًا، هناك جانب آخر حققت فيه حماس والمقاومة انتصارًا نوعيًا، وهو يُعتبر امتدادًا ونتيجة للانتصارات السابقة، ألا وهو جانب التفاوض. فمن المعروف أن أي سيناريو لانتهاء الحروب يكون عن طريق جلوس أطراف النزاع إلى طاولة المفاوضات، وهي بالطبع لا تسير وفق العواطف أو المجاملات، إنما لها مؤثر واحد يتحكم فيها؛ إنه مؤثر القوة، فعلى قدر قوتك يكون تحكمك في سير المفاوضات، وعلى قدر ما تملك من أوراق الضغط تكون الدفة لصالحك.

وحماس والمقاومة بلا شك أصبحت تملك من أوراق القوة والضغط ما يؤهلها لفرض شروطها، وخير مثال على ذلك قائمة المطالب المشروط وقف إطلاق النار بتحقيقها، وهي قائمة لم يعتد العدو وأتباعه سماعها من قبل؛ كإنشاء ميناء غزة على سبيل المثال، ولذلك تراه يماطل كثيرًا في قبولها.

 

في النهاية، ستنتصر المقاومة بإذن الله، وستنكشف هذه الغمة عاجلاً أو آجلاً، وسيتبين للجميع أصحاب المواقف الرجولية من غيرهم.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية