لو نرجع إلى الوراء قليلا قبل الإعلان الرسمي عن هدنة مقررة من طرف الجيش الإسلامي للإنقاذ بزعامة مدني مزراق في الفاتح أكتوبر 1997 .. نجد أن الاتفاق الذي بموجبه قد تم بين الطرفين المتصارعين .. الجيش الشعبي الوطني والجيش الإسلامي للإنقاذ كان محاطا بسرية تامة من كلا الجانبين .. بل أن النظام الجزائري آنذاك لجأ إلى حيلة ذكية جدا كي لا يحدث تشويش و ينفي أي اتصال مع هذه المجموعات المسلحة.. والتي كان يصفها بالخارجة عن القانون والمجرمة والمتعطشة للسلطة . .. هذه الحيلة متمثلة في توزيع ملصقات في ربوع الجمهورية الجزائرية تظهر صور المسلحين الذين كانت السلطة تطلق عليهم لقب الإرهابيين،وتطلب من كل مواطن يعثر على واحد من هؤلاء نظير مكافأة مالية.. بيد أن الحقيقة كانت عكس ذلك. لأن السلطة الفعلية قد أبرمت اتفاقا وبصفة نهائية مع مدني مزراق الذي كان رأسه مطلوبا بالملايين.. وحددت معه اليوم الذي يعلن فيه عن هدنة من كلا الجانبين – كانت الهدنة من كلا الجانبين غير أن تيارا إسلاميا موجود الآن على الساحة أفسد الحسبة لشيء في نفسه وأشاع الأمر بهتانا أن الهدنة كانت من طرف واحد فقط- وقبل الإعلان عن الهدنة كان قد تم إطلاق سرا ح الدكتور عباسي مدني كفاتحة خير،وكإبداء حسن النية من طرف السلطة الفعلية.. من أجل الشروع رسميا في إعلان وقف العمل المسلح.
الإستئصاليون صرعى حمى المصالحة الوطني!!!
رضا مالك رئيس الحكومة الأسبق في عشرية الدم والبارود..و صاحب نظرية على الرعب أن يغير معسكره.. لم يكن ممانعا في تقبل الوئام المدني مادم أنه يلزم الجماعات المسلحة فقط على النزول من الجبل دون حقوق مدنية أخرى..وربما الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أشرك رضا مالك و كل الطيف الإستئصالي في بلورة قانون الوئام المدني ليكون شاهدا على نفسه بعد ذلك.. وكذلك ليغلق هذا الملف المستعصي بما أن الإستئصاليين جميعهم ضد الحل الودي للأزمة الجزائرية وضد أي حوار مع التيار الإسلامي.وعلى خلفية مبادرة الشيخ عباسي مدني الذي يكون قد فاجأ الجميع بما أطلق عليه بمبادرة من أجل حل للأزمة الجزائرية.. يكون الإستئصاليون قد شعروا بالخطر المحدق بهم خصوصا وأنهم يرفضون أي تفاهم بين الجزائريين مما يسهل عليهم البقاء على التعفن وعلى فوضوية الساحة .. لأن وجودهم مرتبط بتعفن الوضع.. وديمومة حالة اللاسلم.وبما أن المبادرة التي يقول عنها عباسي مدني أنها مبادرة تهم جميع الجزائريين لم تَرُق التيار الذي يحبذ إبقاء الأمور على فوضويتها.. وسيسعى الإستئصاليون بكل ما لديهم من قوة من أجل وأد هذه المبادرة وهي في المهد حتى لا تكبر وتصبح بعبعا يلتهم وجودهم وسياستهم المبنية على الشتات وتفريخ القلاقل والظلمة.
عباسي مدني بين النظام والسلطة..
هناك فارق كبير بين السلطة والنظام لدى عباسي مدني .. فالسلطة جهاز لا يحكم ولا يملك سلطة القرار عكس النظام الذي يملك السلطة التقريرية وإليه يرجع كل شيء في ما يتعلق بالقرارات المصيرية للدولة.و قد أخطأ عندما لم يعط تفسيرا لما قاله كون المبادرة موجهة للسلطة التي لا تحكم على الإطلاق.. لا للنظام لأن هذا الأخير مجرم ويصنع الموت ولا يصنع الحياة . وقد ذهب بعيدا في تشبيه النظام بالأفعى التي لا يمكنها أن تلد بيضة دجاجة .و مبادرته هذه إذا كانت موجهة للسلطة فقط دون النظام..والسلطة لا حول لها ولا قوة فمعنى ذلك أن المبادرة مآلها الفشل وتكون مرفوضة بل لا معنى لها .. لأن فاقد الشيئ لا يعطيه .ومن الأحرى أن تكون المبادرة موجهة للنظام الذي يملك سلطة الحل والربط .. وبما أن النظام مجرم في نظر عباسي مدني فإن عليه أن لا يقلق نفسه في بلورة هذه المبادرة لأنه من تحصيل حاصل مرفوضة جملة وتفصيلا شأنها شأن مبادرة عقد روما في 1995 في سانت إيجيديو.
المبادرة نزعة فلسفية من عباسي؟
قد تكون مبادرة عباسي مدني التي تنطوي على ثلاثة محاور ..كما ذكر تم الإفصاح عن المحور الأول وهو ما تعلق بالشق المبني على حسن النية ابتداء.. مثل العفو الشامل على كل المساجين السياسيين والمفقودين الأحياء المشتتين في الدول الأخرى.. ورفع حالة الطوارئ.ويقول عباسي مدني عن مبادرته التي أرسل مسودة منها للسلطة دون النظام .. كما أبلغ كل الأطياف السياسية الموجودة على الساحة السياسية في الجزائر بمحتوى المبادرة أنها بدأت تجد صدى طيبا.بيد أن الجهات التي أعلمت ويهمها أمر المبادرة تبقى مجهولة.. بل ذهبت جهات في السلطة الفعلية،وفي المعارضة نفسها إلى إعلان نفيها التام لتلقيها أي مسودة تخص المبادرة التي أطلقها عباسي مدني ناهيك عن فحواها.وهنا يطرح سؤال جوهري من كان يقصدهم عباسي مدني بمبادرته.. فهل هم من لا يعرفهم أحد إلا هو شخصيا .. وكيف هم هؤلاء المقصود ون بالمبادرة التي تهم كل الجزائريين دون تَمَيٌَّز.. فمن المفروض بما أنه قد تم الإفصاح عن مبادرة أن يسم الأطراف بالاسم ليضعهم أمام مسؤولياتهم التاريخية ..لأن الشعب الجزائري الذي ينافح عليه عباسي مدني بمبادرته تلك مل الطلاسم والحبكة الفلسفية .. فهو يريد الملموس والعمل الذي يكون تحت الشمس.فمطلوب من عباسي مدني كي تجد مبادرته حظوة ويكون لها الشأن الكبير.. وتكلل بالنجاح.. أن يحدد بالاسم من هي تلك الأطراف في السلطة التي راسلها .. ومن هم من المعارضة الذين اطلعوا على فحوى المبادرة، ولو من دون تبيان لمحاور هذه المبادرة مادامت علمية تتم في جو علمي . لأن الشعب الجزائري يعرف جيدا أن العبرة بالنتائج.. والحقيقة تتجلى عندما يحين حينها.
لماذا العجلة ؟.. فلننتظر....
نستطيع أن نقول أن العجلة أخذت الدكتور عباسي مدني في أنه قال بمشروعه .. والحكمة كانت تقتضي بأن يتريث قليلا ويتكتم على هذا المشروع .. خصوصا وأنه مشروع كبير جدا ويمس أطراف لها مصالح .. وبما أن الأمر اليوم أصبح شائعا والمبادرة هي في جوف الدكتور مدني ومن قال أنهم خبراء.. فلننتظر إذن الأيام القادمة فلعلها تأتي لنا بما لا نعلمه.. وبما هو متشوق إليه الشعب الجزائري الذي يتوق إلى الحل السلمي الدائم.قد تكون مبادرة عباسي مدني موجودة حقا في نظر الجميع .. كما تستطيع أن لا تكون ولو في نظر خصومه.. بيد أن الرجل مهما كانت المعطيات وما يقال وما سيقال.. يبقى له وزن في زعزعة استقرار الإستئصاليين.. وعلى كل حال فهو جزائري ومجاهد له الحق في كل ما يقول.. وما يفعل ..
بصراحة.. ما أجملها .. علمانية...
الغرب عرف التألق الحضاري ..وتقدم الصفوف العلمية ..واستطاع أن يسخر الكون من أجل معاشه ..عندما اختار بعقله طريق اللادينية والعلمانية- اللائكية في المغرب العربي- ولو لا ذلك الصدام بين رجال الكنيسة ورجال العلم الذي أفضى إلى قلب الموازين ..ورجح كفة العلم ..لبقي الغرب إلى اليوم يعاني اضطهاد الدين الكنسي ..الذي كان يقتل ويحيي باسم السماء ..وباسم الحاكمية الدينية المطلقة ..وباسم الجلباب المقدس للرهبان .
فالقرون الوسطى هي من أحلك القرون عند الغربيين .. وقد سميت أيضا بالعصور المظلمة ..لأن العقل الغربي عاش خلال هذا الزمن ظلاما دامسا .ويوم كان الغربي يظن أن العلم خطيئة آدم الأولى ..كان القرآن ينزل في شبه الجزيرة العربية ..حاثا على استعمال العقل
في التفكير .. والتدبر.. والبحث في أدق الأمور.ويوم كان الرجل الغربي يرفع رأسه نحو السماء فلا يعرف هل الشمس ثابتة أم متحركة ..كان القرآن الكريم ينزل ليقول { والشمس تجري لمستقر لها دلك تقدير العزيز العليم } .
إن العلمانية كانت البلسم الشافي ..من جبروت الكنيسة لأوروبا قاطبة ..والثورة الفرنسية التي حددت مسار أوروبا الحضاري ..ورسمت مستقبلها السياسي ..وفتحت آفاقا واسعة للفرد الأوروبي كي يذهب بعقله بعيدا …من أجل بناء الكيان الذي كبلته أفكار رجال الدين ،والكهنوت.
فإذا كانت أوروبا بلغت ما بلغته بفضل " حربها على الدين " فهل بوسعنا نحن أمة الإسلام أن نحذوا حذوها ونتبعها شبرا بشبر..حتى الو دخلت جحر الضب دخلنا وإياها ؟
هل تحقيق المعجزة العملاقة في شتى المعارف يكون بنفس الأدوات التي استعملها الفرد الغربي أم هناك تطبيق آخر ..وأدوات أخرى ؟
إن أقلية دعاة العلمانية عندنا يرفضون النقاش العلمي إذا تعلق الأمر بحرية الاختيار بين ما يليق بنا كأمة لها ثقافتها الخاصة ..وبالتالي ما يتوافق مع عقيدتنا .. وبين ما لا يليق بنا كأمة لها من المخزن العلمي ..والرصيد الحضاري ما يجعلنا نرفض كل ما هو دخيل على حياتنا ..
فالعلمانيون عندنا يريدوننا صورة طبق الأصل للفرد الغربي ..باختصار تكون حياتنا كحياة الغربيين من جانب واحد هو الحيواني الصرف ..وحتى قضية الحجاب – سندخل المعركة بإذن الله مستقبلا في هذا المضمار- مبنية على هذا المنطلق العلماني الغربي المقيت.
لنفرض أننا قبلنا وعن طواعية هذه العلمانية التي تنفي كل ماله صلة باللون الأخضر وبالمعتقدات الإسلامية ..واستقبلنا مشروع هذه الأقلية بالأحضان فهل بوسع هؤلاء بلوغ الأوج الاقتصادي الذي ننشده نحن كخير أمة أخرجت للناس، وتحقيق نمو اقتصادي جد معتبر كما هو موجود في الدول العلمانية الحقيقية ..؟ هل بوسعهم دفع المجتمع برمته نحو الرفاهية كرفاهية الغرب العلماني ؟ هل بوسعهم تكسير الجمود العلمي الذي أصبح السمة البارزة لدى العقل العربي ؟ أم أن هؤلاء دعاة العلمانية التي تنطلق فقط من الرؤية الفلسفية والدينية الغربية والمجون الغربي الذي أصبح يتحرج منه حتى الغربيون أنفسهم لما له من انعكاسات خطيرة على حياتهم وعلى مستقبلهم.لو كان العلمانيون الأعراب يناضلون من أجل بعث حضارة من رقادها و تسخير البر والبحر لصالح الأمة و اكتشاف المجهول من الدَُّرَر.. لقلنا مرحبا ..
ومليون مرحبا .. ولكن كل هذا للأسف ليس في برنامجهم .. ولا في عقلهم ..ولا في قلبهم .. وأنى لهم صراحة ذلك .. وهم دعاة الفتن ..والعري .. والاندماج .. والتلكؤ بلغة أسيادهم في الغرب.الغرب العلماني حضارته تحيا بالديموقراطية التي تنظم حركة مرور السياسات
المختلفة وتتنفس بالرئة العلمية التي اكتسبتها بفضل الدم..والدموع من معركتها ضد الدين المسيحي المحرف .
إننا نناشد العلمانيين أن يخرجوا من تحت الخيمة التي منها يبرمجون ويحكمون إلى الساحة وتحت ألوان الشمس .. لأن الخفاء ما عاد يجدي ..
ولا يخلق التمويه وسنكون معهم إذا ضمنوا لنا عيشة رغده ..ورفاهية تحيي الأمل في نفوس الحيارى وتلغي الأفكار القاتمة التي غالبا ما أدت بأصحابها إلى الانتحار .. كما يضمنوا لنا تحريك عجلة الاقتصاد المعطلة مند مدة .. وإقامة قواعد الصناعة الثقيلة و الخفيفة ..
وفتح أبواب العزة العربية الإسلامية التي خذلتها الأيام الماكرة ..ولكن كل هذا لن يكون على أيدي هؤلاء .. لأن التركيبة النفسية تأبى أن يكون هؤلاء دعاة بناء وتشييد فما عرف عن العلمانيين أنهم قدموا خيرا لصالح الأمة في يوم من الأيام ..
...وإذا كان العلمانيون لا يتحرجون و لا يستحون عندما يصرحون مرارا أنهم مع الديمقراطية على الطريقة الغربية ..ولكن شتان بين الخرفان والماعز فهل الديمقراطية الغربية تسمح للعلمانيين كي يقفوا في وجه أي مشروع مخالف فهل وجدنا العلمانية الغربية تشجع على تزوير الإنتخابات.. مثلا .. وتطبل وتزمر للأجنبي .العلمانية الغربية جميلة ورحيمة وفيها الخير الكثير أما علمانية القلة الأعرابية فهي قبيحة ومتسلطة ..وفيها الشر الكبير ويا حبذا لو نجد علمانية مثل علمانية الغرب ..يكون القانون فيها هو الحاكم والكفاءة هي المعيار والعلم هو المهيمن .ولكن ما عسانا نقول إذا كان قدرنا ..إلا أننا نبقى نردد دائما ..ما أجمل الغرب ..وما أجمل علمانيته.. وبكل صراحة