بريق الثورة الجزائرية الذي خطف الأبصار وأضاء الطريق للكثير من دول العالم الثالث وحركات التحرر لعدة سنوات بعد الاستقلال ، سرعان ما بدأ ينطفئ في عقد الثمانينات، ولم يفلح القائمون على أمر الجزائرأن ينقلوا النجاح الذي حققته الثورة إلى ساحة "الدولة المستقلة" لسبب بسيط وهو أنهم لم يطهروا "الجهاز الجديد" من الانتهازيين واليساريين ودعاة الفرنسة والادماج، ولم يستمروا في تجسيد مقررات "بيان نوفمبر" بعد أن استعانوا بالتجارب الوافدة غير الصالحة.. والنتيجة فشل ذريع في كل السياسات ، وصراع مستمر بين الدولة والمجتمع، ظهرت تجلياته أكثر خلال أحداث أكتوبر 88، ومازالت فصوله وحلقاته مستمرة إلى يوم الناس هذا.. لقد أحدثت إنتخابات 91 بعد فوز "الجبهة الاسلامية المحظورة" بشكل ساحق ، أحدثت دويا هائلا،وصل صداه الى جهات عديدة، وأعطى الانطباع على الرغبة الكبيرة في التغيير، والإصرارعلى رمي السيستام المتآكل "المتعفن" في البحر، والعودة إلى التواصل مع خط الشهداء وروح نوفمبر، لكن الانقلاب المشؤوم على الإرادة الشعبية أعاد ترتيب أوراق السيستام السابق وكرسه أكثر من أي وقت مضى..
مورست- تحت واجهة مكافحة الارهاب- سياسة تجفيف الينابيع، فحوصر الأئمة في المساجد بقانون ملئ بالعقوبات، ورهب الصحافيون بقوانين الردع.. وحلت الجمعيات الخيرية.. وأسقطت الطابوهات.. وأبعدت اللغة العربية، وسنت قوانين لتغريب المدرسة الجزائرية.. وهاهو الدورالآن يطال "الأسرة" لتخريب البيت الجزائري، والإيتيان على قواعده ليسهل إدماجه وتذويبه في تيار العولمة..
لقد أحدثت عمليات الافراغ الحضاري التي مورست لأكثر من عقد من الزمن اهتزازات هائلة في الهوية والشخصية الوطنية الجزائرية ، وأتاحت الجاهزية لكل أشكال المسخ والفسخ، ومقابل ذلك أهدرت حقوق المواطنة بشكل غير مسبوق تحت ذريعة التحولات نحو إقتصاد السوق .. فتم طرد مئات الآلاف من العمال وكذا تحرير الأسعار، ووضعت على كاهل المواطن أعباء فاقت طاقته.. وهكذا غدا الشعب فقيرا في دينه ودنياه.. ممسوخ الهوية، ينتحر أفراده من الجوع، ولا نسمع من السياسيين إلا خطابات محتشمة تدعوالى قيام الجمهورية الثانية-التي ستقوم على العدل والمساواة والحرية والكرامة الانسانية- وانهاء السيستام المتعفن الذي أوصل البلاد إلى الإفلاس والىالخراب..
ماذا لو تحرك المخلصون من الوطنيين والإسلاميين ودافعوا عن حقوق الشعب الروحية والمادية.. أكان الوضع يصل إلى ما نحن عليه..؟ لا أعتقد..
إذا لم يتدارك هؤلاء الأمر الآن ويبادروا إلى فعل شيء لانقاد ما يجب إنقاده، فإنهم شركاء في مسؤولية الانهيار والتعفن الذي تتخبط فيه البلاد.. وحق لقطعان الاستئصال والتغريب حينئذ أن يمسكوا بزمام الأمر، ويتحكموا في مقدرات البلاد والعباد ، لأن الطبيعة تأبى الفراغ..