إن النصوص المتعلقة بحقوق الإنسان عرفت تطورا عبر الزمن بدءا بإعلان حقوق الاستقلال الأمريكي عام 1776 و وثيقة إعلان حقوق الإنسان و المواطن التي أقرتها الجمعية التأسيسية الفرنسية عام 1789 وصولا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة في سنة 1948. و لعل من خاصيات مفهوم الإنسان و حقوقه أنها قضية إنسانية عالمية تلامس هموم و طموحات الإنسان في عصر أخرج فيه الفرد من مدار الوجود الإنساني إلى مدار الوجود الطبيعي المسخر لحية و نمو المدنية من المنظور الغربي. و هي في واقع الأمر مدنية أرست أسسها بعد استئصال وجود حضارات و تهميش شعوب سواء في إفريقيا أو أسيا أو أمريكا.
و هكذا مرت البشرية في العصر الحديث بمرحلة الاستعمار في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر خدمة لهذه المدنية و توفير شروط اتساعها و هيمنتها. و في القرن العشرين كانت شرعة حقوق الإنسان و ذلك لمحاولة تجاوز ما لحق بجزء من البشرية من جرائم لا حصر لها و من عتو و ظلم. علما أنه مازلنا نلاحظ في أحيان كثيرة لغة حقوقية مفرغة من مضمونها الفعلي و الحق, إذ قد توضح في أكثر من مناسبة أن هذه اللغة الحقوقية تنهض بدور فعال في حجب و تغطية الأبعاد العميقة للاختلالات التي يعيشها العالم في محاولة لإضفاء طابع توازني على هذا الوضع.
و لعل اللغة الحقوقية ساهمت بشكل كبير في ستر الجانب المظلم للنظام العالمي السائد. و هذا يدعونا إلى التساؤل التالي : فهل نموذج الإنسان الذي بلورته شرعة حقوق الإنسان موجود فعلا على أرض الواقع؟ و هل يمكنه أن يوجد فعلا اعتبارا للمسارات التاريخية التي عرفتها البشرية إلى حد الآن؟
و الداعي إلى هذا التساؤل هو أن شرعة حقوق الإنسان كانت غالبا تطرح كسبيل للانعتاق و التحرر من الواقع المرير الذي هو في واقع الأمر إلا نتاج لتطور المجتمعات التي بلورت في أحضانها تلك الشرعة.
أليس الإنسان الغربي هو الذي نهب و قهر على امتداد قرون بقية العالم؟ كما أن مفهوم الإنسان و حقوقه ليس مقصوران على الثقافة الغربية, إذ أن هناك مجتمعات سبقت الغرب بقرون في تعاملها مع هذه المسألة, فلماذا سعى الغرب مؤخرا إلى تحويل إشكالية حقوق الإنسان إلى هدف إنساني؟ فإذا كان الغرب قد صاغ منظومة حقوق الإنسان منذ قرنين, فان البشرية سبق لها أن عرفت مضمون هذه المنظومة, و يكفي في هذا المجال الاستشهاد بالمنظومة العقائدية الإسلامية في هذا المضمار, رغم أن هناك بنا شاسعا بين مضمون تلك المنظومة و الواقع الحالي للمجتمعات الإسلامية.
و يظل التساؤل المركزي هو هل أتت فعلا شرعة حقوق الإنسان بشيء جديد؟
من المعلوم أن النسق الغربي الحالي لحقوق الإنسان بدأ طريقه مع فجر القرن السادس عشر الميلادي, و كان آنذاك المجتمع الأوروبي في طور تشكيل الدولة-الأمة في ظل الملكية المطلقة المتحالفة مع كبار التجار. و آنذاك عملت تلك الدولة على نهب بقية العالم و استئصال شعوبه و حضاراته لتدعيم قواعد سلطتها. و كانت الطبقات المسحوقة تشكل القاعدة البشرية لجيوش الغزو و الاحتلال. و يفيدنا التاريخ فيما قامت به الجيوش الأوروبية طوال الفترة التاريخية الممتدة بين القرن السادس عشر و القرن الثامن عشر من عمليات ابادة و إفناء ملايين البشر بأمريكا و أسيا و إفريقيا. و عبر هذا التعدي الصارخ انتقلت أوروبا من موقع التهميش على المستوى العالمي إلى موقع المهيمن المسيطر المتحكم في قدر العالم. و تأكد هذا الدور أكثر مع نشأة الدولة القومية. و آنذاك كان مفهوم حقوق الإنسان محصورا على الإنسان الأوروبي, إذ أن حق الحياة و الوجود كان منزوعا من شعوب بقية العالم. و هكذا تركزت القوة بأوروبا على حساب تفكيك باقي الحضارات و تصفية و جودها البشري و الثقافي و إلحاقها بالمركز (أوروبا آنذاك). و ظل الحال كذلك إلى أن برزت خريطة جديدة للعالم معلنة عن ميلاد قوى سياسية و اقتصادية فتية ( شمال أمريكا ) و برز إعلان الحقوق الأمريكي عام 1787 مع توحيد الأمة الأمريكية و استقلالها عن التاج البريطاني, و هذا ما انطوت عليه كذلك وقائع الثورة الفرنسية سنة 1789 وبذلك أصبح مفهوم الأمة هو المرتكز الأساسي.
و إذا كانت النزعة القومية تمجد الأمة و تعطيها الأولوية فإنها تستحضر الفرد و المجتمع بقوة لتنفيذ السياسات المبلورة. و لقد شكلت القومية العنصر الأساسي في صيرورة تكوين الدولة بأوروبا, و الحربين العالميتين الأولى و الثانية كانتا تعبيرا صريحا عن دور القومية في بناء الدولة الأوروبية, إذ أنها اخترقت البنى السياسية و الاقتصادية و الفكرية. و تأكد هذا المسار مع سيطرة العلمانية, وبذلك عرف الغرب مسارا صعب على باقي العالم أن يسايره فيه. و في هذا الإطار شكلت شرعة حقوق الإنسان أحدى التعبيرات التاريخية لهذه الصيرورة.
و تعاملا مع هذه الصيرورة أضحى الكثيرون حاليا يرون أن المجتمعات البشرية أحوج الآن ما تكون إلى عقيدة التوحيد و ما تنطوي عليه من رؤية كفيلة بأن تعيد الأمور إلى نصابها الذي فطرت عليه. وبذلك تكرس تكريم الإنسان, و هذا حسب هؤلاء يكفي لتجاوز الخلل العقائدي المتحكم في بنى النسق الغربي سواء تعلق الأمر بحياة الجماعة أو مكانة الفرد و دوره ضمنها. و في هذا الصدد ينادي البعض بقوة إلى اعتماد المنظومة الإسلامية اعتبارا لكون الشريعة الإسلامية الحقة أفردت لكل شأن من شؤون الحياة الفردية و الجماعية منظومة متكاملة من المبادئ المتناسقة ضمن نهج شامل و متكامل.