تمرّ المملكة العربيّة السعودية في الظرف الراهن بأزمة دقيقة و خطيرة للغاية قد يؤدّي عدم التحكم في مسبباتّها إلى إنتشار الزلزال الأمني في الخريطة السعوديّة من أقصاها وإلى أدناها ولا أحد يتمنى على الإطلاق أن يحدث هذا في أرض الحرمين .
وتذكرّني الأحداث التي عرفتها المملكة العربية السعودية ببدايات الأحداث في الجزائر حيث كان الرسميون الجزائريون يتوقعون أنّ الحريق الذي أعقب إلغاء المسار الإنتخابي الذي فازت فيه الجبهة الإسلامية للإنقاذ في كانون الأول – ديسمبر 1991 محدود ويمكن التحكم فيه . وعندما كنت أكتب في الصحافة الجزائريّة عن قرب تحوّل هذا الحريق المحدود إلى براكين حقيقية تأتي على اليابس و الأخضر في بلد المليون شهيد كان البعض يتهكم على هذه النتيجة ويعتبرها تضخيما إعلاميا أبعد ما يكون عن الواقع الجزائري , و أكدّت الأحداث الجزائريّة أنّ الفتنة التي بدأت في الجزائر بحريق هنا وحريق هناك أنّ عدم قدرة السلطة الجزائرية على التعامل مع هذه الفتنة كان أبرز سبب لإتسّاع الحريق و إمتداده إلى كافة الولايات الجزائريّة , كما أنّ لجوء السلطة إلى خيّار المواجهة والإستئصال والعصا الفولاذيّة والغليظة و إغلاقها لكل أبواب ومنافذ الحوار مع خصومها كان أبرز سبب لإدامة الأزمة الأمنية في الجزائر والتي لم تخرج لحدّ الساعة من عنق الزجاجة .
وحتى لا تتكررّ الأحداث الجزائرية وجب على القيادة السعودية كما المعارضة السعودية كما جمهرة أهل العلم والصلاح والإصلاح في المجتمع السعودي الإلتفات إلى مجموعة أمور أراها ضرورية لوضعّ حد للأزمة المدفونة في رمال الحجاز والتي قد تطلّ برأسها في أي لحظة مهددّة أمن الملكة العربية السعودية في كل أبعاده.
فالقيّادة السعودية يجب أن تتحلّى بالحكمة في مواجهة هذه التحديّات وأن لا تغلّب الخيار الأمني على الخيار الحواري , ولا الخيار الإستئصالي على الخيار التصالحي , ويجب أن لا تأخذ كل الإسلاميين الناشطين في أرض المملكة والمحبين لدينهم وحضارتهم بجريرة ما فعله بعض الأشخاص المتأثرين بفكر تكفيري معيّن , ففي أرض المملكة العربية السعوديّة جمهرة كبيرة من أهل العلم والفقاهة و الإعتدال الذين يملكون رجاحة العقل و رقيّ المنطق والذين بإمكانهم مواجهة فكر الغلو الذي وجد أرضا خصبة في معظم البلاد العربية والإسلامية , ولعلّ أتباع هذا الفكر قد فقدوا رصيدهم بالكامل في الشارع السعودي عندما إستهدفوا الأطفال والكهول والمدنيين وهو ما ترفضه كل الشرائع والأديان ناهيك عن الشريعة الإسلامية السمحة , وعلى القيادة السعودية و خصومها الذين لجأوا إلى خيّار المواجهة الأمنية أن يعلموا أنّ هذه المواجهة تتقاطع مع الرغبة الأمريكية الباطنة والظاهرة بتمزيق السعودية و تعطيل مسيرتها و تجميد المشروع الإسلامي الحضاري فيها و جعلها تحترق وبإحتراق مركز العالم الإسلامي وأرض الحرمين ستتنكّب مسيرة العالم الإسلامي جملة وتفصيلا , وهنا يجب على القيادة السعودية أن تدع رجالات الإصلاح و المعوّل عليهم في هذه الأمور والذين أمتحنوا سابقا في دينهم وعقيدتهم ليلعبوا الدور الترشيدي والتوجيهي المطلوب خصوصا وأنّ الكثير من الشباب الذي حملوا السلاح ضدّ المملكة العربية السعودية يقرّون بأن هؤلاء ثقاة ومن أهل العقل والحجى .
وإعتماد قيادة المملكة على خيّار الحوار والمصالحة يجّر إلى مجموعة تبعات منها إطلاق سراح من لا يزال معتقلا من السنّة والشيعة في القطيف والدمّام والأحساء , وإقامة جسور تواصل مع كل الناشطين وربما الندوة التوافقيّة التي دعا إليها الأمير عبد الله بن عبد العزيز و شاركت فيها شخصيات سنية وشيعية كانت تشكلّ منطلقا لإقامة حوار حقيقي بين كل ألوان الطيف في المملكة العربية السعوديّة , وهذا الإنفتاح على قوى الداخل يجب أن يعقبه إنفتاح على قوى الخارج أيضا وتفهم ما يريده اللاجئون السعوديون في الخارج , لأنّ التجربة العراقية وغيرها علمتنا أنّ الإرادات الدولية كثيرا ما تنسج علاقات تستخدمها عند الحاجة مع هذا الكمّ الكبير من المعارضين في الخارج .
وعلى القيادة السعودية أن تعي أن عامل الوقت مهم للغاية فكلما أسرعت في خطواتها بإتجاه المصالحة الشاملة وأوجدت الأرضية لهذه المصالحة كلما أسرعت في إطفاء الحريق وبسرعة وهو المطلوب , لأنّ إتساع رقعة الحريق لن يأتي على أمن المملكة العربية السعودية فحسب بل على كيانها الإقتصادي و مستقبلها وهو ما تنتظره بفارغ الصبر إرادات دولية تعتبر المملكة العربية السعودية ينبوع الإسلام الذي سبب أزمات لها كما تعتقد هذه الإرادات .
وعلى المعارضة السعودية العسكرية أن تدرك أنّها بدأت بداية خاطئة و بدأت بمحاربة السلطة من خلال محاربة المجتمع والآمنين في أرض المملكة العربية السعودية , صحيح أنّ بعض الذين حملوا السلاح قد تحملوا كل المشّاق والعذابات في الزنزانات لكنّ الإسلام علمنا التفريق بين المصلحة الخاصة والمصالح الكبرى للإسلام والمسلمين .
و هنا لابد أن يلعب رجالات الفقاهة والإصلاح والتقوى في المملكة العربية السعودية دورهم في توعية بعض المستعجلين في تحقيق المراد الحضاري الإسلامي بأساليب خاطئة , وفي هذه الحالة الصبر مطلوب إلى أقصى درجة .
و إذا تقاطعت فعالنا مع الرغبات الأمريكية علينا أن نجمّد فعالنا لتفويت الفرصة على الأمريكان الذين يريدون تمزيق العالم الإسلامي شرّ ممزّق و تحديدا الجزء الذي يشكلّ قلب العالم الإسلامي و هو أرض الحرمين.
لا شكّ أنّ أي مسلم غيور على دينه وأمته يهمه أن تنطفئ الحرائق في العالم العربي والإسلامي في الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا والأردن والسعودية والسودان وكل الأقطار في أقرب الآجال لأنّ أهم مقوّض لحركة التنمية والتطور هو اللاإستقرار , و أهم محرض للقوى الإستعمارية للقدوم إلى جغرافيتنا هو اللاإستقرار أيضا .