1- الدرس الثقافي والتاريخي في الحراك العربي.
إذا كانت من حيلة قد انطلت على العرب المعاصرين فلن تكون غير السقوط كضحية أو فريسة في براثن وهم الإعلام المعولم والموجه والهدام في الآن نفسه، والذي يشكل في الحقيقة من حيث التأثير والتوجيه قوة طيعة في خدمة الدوائر الاقتصادية والسياسية العالمية المعاصرة، وريثة الاستعمار أو الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، الشركات العابرة للقارات ولوبيات الطاقة وصناعة وتجارة السلاح. على أساس أن صراع المصالح قد أرخى بظلاله المعقدة أمنيا وعسكريا على ضفة البحر الأبيض المتوسط ودوله وثقافاته من مصر وليبيا وتونس. والمغرب وما أدراك ما موقعه الطوبوغرافي وأهمية مناعته الأمنية والسياسية في المنطقة: أي مفترق طرق القارات الخمس في اتجاه أوربا، أفريقيا وآسيا.
هل هي الصدفة أم إرادة النسف مع سبق الإصرار والترصد في استهداف دول عربية شرقية ومغاربية؟ أم أن ما يقع هو امتداد طبيعي لما كان يعرف تاريخيا بجدل الاحتلال والمقاومة، والذي له علاقة مباشرة بالصراع التاريخي والحضاري بين الغرب الاستعماري الإمبريالي والوطن العربي؟ والواقع هو أن نظمه التقنية والمعلوماتية الجهنمية قد كرست حركية ارتباط جهات أو فئات محلية بقوى خارجية تشتغل بالوكالة ميدانيا لخدمة مصالحها. وإلا كيف نفسر تطورات الحركة "الاحتجاجية بالحسيمة" بالمغرب والهالة الإعلامية المهولة التي ترافقها في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا إلى فضائيات عربية مأجورة؟ وعليه لا يمكن إلا أن نسلم منذ البداية بأن كل الدول العربية مستهدفة في وحدتها وسيادتها في زمن عولمة الذي يؤثثه تدليس الصورة الإعلامية للتطبيع مع كل ما يهدد الإنسانية من عنف وقتل. فإذن لا أحد يستطيع أن ينفي حجم الدمار والتلاشي الذي لحق روافد وأسس الحضارة العربية والذاكرة الإنسانية؛ من عراق وبلاد الشام بسبب ورم ما يسمى "داعش" في العالم العربي.
وتدرك كل النخب الثقافية والسياسية العربية أهمية الإعلام وبعض القنوات في صناعة ثورات رقمية لعبت فيها الصورة دور الحدث "الثورة"، بيد أن عمقها وصفاتها لم تعكس على مستوى الممارسة العملية تطبيقات الثورات الديمقراطية الحديثة ( الثورة الفرنسية، الإنجليزية والأمريكية). بحيث إن غياب صراع الطبقات عوضه اندفاع شباب غاضب على الأوضاع، اندفاع رافقه دس نشطاء على رؤوس الأصابع لتنظيم وتأجيج احتجاجات كبرى في الساحات العربية العمومية؛ من تونس إلى مصر إلى ليبيا ثم سوريا واليمن. إلا أن المكتسب الجديد "حدث إقالة حكام الاستبداد" تحول إلى مؤامرة، نتجت عنها تداعيات اجتماعية تجزيئية ( العلمانيون/الدينيون) أنصار الحرس القديم/ التبعيون الجدد) واهتزازات سياسية وأمنية خطيرة في مصر مثلا. وعليه تفيد الملاحظة والمتابعة أن هذا "الحدث التاريخي" ثورات الربيع العربي ستلتف عليه "التنظيمات السياسية الإخوانية أو السلفية" بإيعاز من الإدارة الامريكية، التي توسمت فيهم خيرا وبديلا للإسلام السياسي العنيف والمتطرف، تحت ضمانة الوصاية التركية الآيلة للاستبداد: إنه شفط غاشم لانتخابات لا تجمعها بالممارسة الديمقراطية بالمعنى الحديث الا الخير والإحسان، إنما آمن الإسلام السياسي بالديمقراطية كآلية للوصول للسلطة، وبعد ذلك الانقلاب على منطقها وفلسفتها الحديثة جملة وتفصيلا.
لنخلص في هذا التحليل المتصل "بخطف الثورة" وأحلام الشباب العربي باسم الديمقراطية الغاشمة التي تقود اليوم إلى الفتنة الكبرى من دون أي شك، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال نماذج عربية، وقد فقدت توازنها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالفوضى المتواترة والمدعمة بالسلاح وأدوات الفتك المذهبي أو العقدي. ولعل أوضح مثال على ما نقول هو ما قدم لبعض نشطاء " المسلمون الديمقراطيون" على الأرض من تكوين وتدريب معلومياتي جد متطور، وما قاموا به من أدوار في خلق المادة الإعلامية "الثورية" لتوجيهها وفق رؤى مدبري الشأن الكوني.
2- قراءة في احتجاجات "الحسيمة بالمغرب" في ضوء مشروع العروي الإصلاحي من خلال المثقف والدولة.
وعليه نريد أن نشرك معنا القارئ العربي والمتتبع الأجنبي في نقاش جاد منهجيا وحوار عميق نظريا بدلالة تجربة دول ما بعد الربيع/الوطن العربي الجريح سياسيا وتاريخيا، في مقاربة "الحركة الاحتجاجية بالمغرب الأقصى"؛ بحيث يلاحظ المتتبع للشأن المغربي أن كلا من الدولة والمجتمع قد حققا خلال 16 سنة الماضية طفرة دستورية وإصلاحات مؤسساتية، ومشاريع اقتصادية ذات طبيعة صناعية استثمارية (الشركات الأسيوية من كوريا واليابان ثم رونو والصين)، على أساس أن أهم المشاريع ضخامة مدينة محمد السادس "بطنجة" التي بلغ حجم الاستثمار فيها أكثر من 15 مليار دولار، وتطوير معتبر للبنيات التحتية (طرق سيارة، موانئ، ترامواي، إضافة إلى توسع العمران والأنشطة الفلاحية). والواقع الحق هو أن هذه التحولات الكمية لم تأخذ بجدية "المسألة الاجتماعية" التي ازدادت حدتها بفعل ارتفاع نسبة التضخم وارتفاع معدل البطالة، وتراجع مداخيل وأجور العمال المغاربة المهاجرين بحكم الإفلاس الاقتصادي الأوربي، الذي كان منعشا للاقتصاد والمجتمع المغربيين. من جهة أخرى لم يواكب الأزمة أي بديل سوسيو ثقافي لحماية المجتمع من الإيديولوجية المفارقة للواقع، أما من الناحية السياسية فقد ند المغرب المعاصر عن المقاربة الاستئصالية، وتحمل تبعات فلسفة التداول السلمي على السلطة، والذي تمثل في تمرين ما يسميه المهندس الإعلامي السابق "لحسن كرام" الذراع السياسي لجماعة "الإصلاح والتوحيد"، أي حزب العدالة والتنمية على الممارسة الديمقراطية للشأن العام، والذي يمكن أن نعتبر تجربته كانت مسكونة بالتقوى السياسية أكثر من الفاعلية الاقتصادية والإنتاجية (الاستدانة الخارجية التي ترهن السيادة الوطنية، والرفع من الأسعار أو تحريرها أو الخصم من أجور الموظفين والاهتمام بالتوازنات المالية والهم الانتخابي الكمي أكثر من الحوار الاجتماعي والتعبئة الوطنية، ومع ذلك يمكن اعتبار المغرب قد كسب رهانات أو مكتسبات يمكن تلخيصها في "الإجماع الوطني، الوحدة الترابية، البناء الديمقراطي التدريجي".
غير أن تناسل الأحداث المرتبطة "بالحسيمة" التي وجهتها في البداية مطالب اجتماعية واقتصادية، وهي وقائع ذات أصل سوسيولوجي طبيعي، يمكن أن تقع في أي دولة نامية خرجت للتو من الاستعمار وهي في خضم بناء الدولة الحديثة، كما أنها وقائع إيجابية من الناحية الاجتماعية لتعيد ترتيب العلاقة ما بين الدولة والمجتمع؛ بحثا عن الحلول الموضوعية والقمينة بإيجاد التوازنات المناسبة تفاديا لما يمكن أن ينتج عن توظيف المجالات الجغرافية والاجتماعية في صراعات حزبية ضيقة من أخطار، يمكن أن يتربص بها أعداء الوحدة الترابية لتوظيفها لمصالحهم المغرضة. لكن المثير للاستغراب هو إرادة التصميم المغالى فيها للمزايدة والرفع من سقف الاحتجاجات لأهداف يظهر أنها مجهولة، ونقصد بذلك توجيه الاحتجاجات من حيث التوقيت والتغطية الإعلامية، المتصلة بـ "صناعة الحدث" ليتحول إلى قضية أو مادة إعلامية تتلهى بها المواقع التواصلية في تجاهل تام للدولة؛ الشرعية والسيادة والإقليم واللغة.
فلنفكر ببرود وعقلانية في الثوابت البنيوية في كل حركية أو حراك أو احتجاج: القضية، القيادة والأسلوب.
1_القضية: قلنا إن الاحتجاج حق مكفول دستوريا في حدود الإمكانيات المسموح بها، والتي لا تتعارض مع مصالح المواطنين وحقوقهم وهيبة الدولة. وإذا ما أخذنا الأسرة باعتبارها النواة الأولية للمجتمع هل يوجد فيها إجماع حول الإرادات والرغبات لعناصرها؟ هل يمكن نقل الصراع والتناقض من الأسرة إلى المجتمع؟ وهل يمكن اعتبار العلاقة ما بين الأفراد والجماعات تعاونية أم تنافسية صراعية داخل الدولة؟ إنها بنية الصراع الطبيعية من الناحية السوسيولوجية بين الأفراد والمجموعات، والتي تحتم حسب كارل دوتش توفر مركز ثقل قوي اسمه "الدولة" للحفاظ على التوازن بدل الفوضى، والعمل على تطوير آليات الفعل المؤسساتي لمعالجة المسائل الاجتماعية فيما يخص تضارب مصالح التشكيلات الاجتماعية والمجالات الترابية. فإذا ما سادت الفوضى التي يقول عنها العروي في موقفه من الدولة إنها تقدم الحال على المآل، الفرد على المجتمع، الاستهلاك على الإنتاج، وهو الأمر الذي يعقد اختراق النظام العقلاني لخلايا المجتمع ونفسانية الفرد. فإذن القضية هي مطلب اجتماعي واقتصادي يستوجب من الجميع إعادة النظر في المشكل بطريقة ذكية تتفادى النبش في الماضي والعرق أي مظاهر الهشاشة الثقافية والسياسية. وفي هذا السياق ينبه العروي إلى مسألة غاية في الأهمية من خلال حواره مع كل من علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد في موضوع "كيف ولدت الوطنية وهل هي إلى زوال" (إن الدولة الوطنية، عموما تواجه مخاطر تفكك تحت ضغط عوامل أجنبية قد تتدثر في "أيديولوجيا حقوق الإنسان".
2-القيادة: فيما يخص قيادة الاحتجاجات نشير إلى أنها عفوية، لا يوجد وراءها مثقفون لديهم مشروع أو مستوى قيادي حقيقي. أي أنها تفتقر إلى المثقف المغربي، الذي أعاب عليه العروي تقاعسه وتواريه بسبب أنه وريث المكافح أو المعارض ضد الاستعمار، وهو ما ينكشف بوضوح في استثمار "رمزية" المقاوم الوطني المغربي "عبد الكريم الخطابي" في خطاب الاحتجاج، ليتحول إلى مكافح ومعارض للدولة الحديثة فيما بعد، أي أنه أصبح يكرس عادة مكتسبة وقد رسخها التقليد الفرنسي في المثقفين المغاربيين على الخصوص. ولذلك يعتبر أن الموقف السلبي من الدولة العصرية مرده إلى موقفه الواضح من خلال مؤلف "مفهوم الدولة": ( إن وصف واقع الدولة الإسلامية سهل لكنه لا يفي بالغرض، لا بد من إدراك المادة الخام التي بها وعليها تجري السياسة، أي نفسانية الفرد، فكرته عن الحكم والدولة، كل هذا ناشئ عن تربية لا تقوم بها الدولة وحدها، بل لا تقوم حتى بقسمها الأكبر، المسؤولون عنها هم الأب في البيت والإمام في المسجد والشيخ في الزاوية"، ويمكن أن نضيف الزعيم الهووي بلغة فتحي المسكيني وعلاقته المشبوهة بالتقنية، والذي يشترط الأسلمة كأساس مسبق للقبول بالدولة الحديثة.
3-الأسلوب: وهنا يكمن مربط الفرس، أي من هذا الذي يمتلك الحق والمشروعية في أجرأة أشكال الاحتجاج؟ سيما وأن الفضاء الثقافي متعب ومهجور، تعبث به غربان الهوية الجاهزة، وقيم الموت والقتل "الشهادة". وتمضي الأمور دون أي اكتراث للتاريخ المغربي الطويل العريض الذي شكل موقعا طبوغرافيا منفتحا لعدد هائل من الثقافات والجذور الاجتماعية، في سلم وطمأنينة عامة بالرغم من استفزازات الأجنبي. إن ما يحكم المغاربة اليوم هو ما يسميه إرندت "إرادة العيش المشترك". من ينكر أن المغرب الجغرافي والتاريخي كان مستهدفا منذ القدم بسبب موقعه وثرواته من لدن ( الرومان، الإيبريين، العثمانيين، الحركة الأوربية الإمبريالية؟ وإلا كيف نفسر كون المغرب اليوم -حسب العروي في أحد حواراته- أصبح جزيرة مطوقة؟ من يستطيع أن ينفي أن حركة المقاومة المغربية كانت معلمة تاريخية من حيث شراسة المقاومة في الدفاع عن التراب المغربي السليب؟ من يدحض أن المقاومة بالريف فرضت تحالفا إسبانيا فرنسيا حشد 400 طائرة حربية لإخماد ثورته؟
3- خلاصة جدل حراك الشرق والمغرب الأقصى في مشروع العروي
والواقع أن المفكر المغربي لم يخف تنبؤه المبكر لبعض المجتمعات العربية بالأفول والانحطاط، وكان يقول دائما "ليس لدينا ضمانات أن مجتمع ما ينتحر". وبالفعل بمجرد ما انهار حائط برلين فجأة؛ بدأت عمليات الهدم الذاتي والانهيار السريع والتلاشي النهائي: بعد احتلال العراق ونسفه حتى آخره من جهة تفعيل النعرة الطائفية والمذهبية الدموية. لينفجر ربيع "العالم الافتراضي" الذي روج لوهم الثورة والياسمين دون تفكير مسبق في المصير والمآل. "ربيع رقمي" راحت ضحيته مئات من زهور الشباب في الاعتصامات والاجتجاجات في تونس ومصر وسوريا، وقد وسمتها فظاعات العمليات الانتحارية بميسمها الخاص. أليست النهاية المأساوية لمجتمعات في طور الانقراض؟ هل هناك شيء يلوح في الأفق غير الظلام والخراب؟
وفي سياق القلق والتوجس الذي تستشعره قامة فكرية استثنائية مغربية، لها امتداد لا يستهان به في الوطن العربي؛ قد نبه -وهو مؤلف "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"- العرب والفكر التاريخي -باعتباره مؤرخا ومفكرا، أي أنه معني بالتاريخ مغربيا والإيديولوجيا عربيا- إلى مسألة في غاية الأهمية والخطورة بالنسبة للمغرب؛ إذ يقول مؤرخنا عبد الله العروي (عندما ننظر إلى ما يحدث تحت أنظارنا من 20سنة، إمبراطوريات تنهار، مملكات على حافة التشتت... نستطيع أن نتساءل عن حق عما إذا أصبح مفهوم الوطنية أو الدولة الوطنية متجاوزين). وفي هذا السياق يؤكد العروي وينبه إلى أن دفاعه عن الفكر الثوري إبان نهاية القرنين التاسع عشر والعشرين هو نقده ونقضه لأسس الحضارة التقليدية، التي سهلت عملية الاستعمار في الماضي والاختراق المروع في الحاضر، وأما السبب المباشر في قابلية التفكك والاحتلال فهو هشاشة النظام التقليدي "الاجتماعي والفكري" المهيئ سلفا بالقوة للاستعمار أو الفوضى، نظام يمكن أن نصف أشكاله وصفاته ومظاهره في كل نظام من خلال: المجتمع/ تنظيم الدولة/ التعليم والثقافة عموما. فهل يستطيع "المثقف المنتظر" و"الدولة الحيوية" أن يستوعبا ويتفهما ويطبقا أسس الحضارة الغربية إذا أرادا العقلانية والتحديث وهدم أسس الهشاشة والهامشية نظريا وعمليا.
ما نحتاجه اليوم كشعب له تاريخ وتحديات هو توخي الحيطة والحذر من الانزلاق في براثن العرقية العمشاء، واللغوية البلهاء والجهوية الخرقاء التي تكون سببا في تفتيت الدولة، التي تؤكدها الملاحظة الموضوعية في مسارح العبث السياسي العربية. وعليه ليس هناك ما نخفيه نحن في المغرب عندما نطالب بالإصلاح الذكي الذي يقع عليه الإجماع؛ سيما ونحن نعيش على إيقاعات "إفلاس الإسلام السياسي" كآخر الإيديولوجيات المفارقة لفكرة الإنسانية. وهو ما يستوجب حسب الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني( تعميق البحث والنقاش حول القيم الديمقراطية... لأنه في واقع الأمر ليس ثمة حقائق جاهزة حول أنفسنا والعالم). وعليه وجب الحذر من فخاخ الهدم والتدمير التي تعيش عليها المجتمعات العربية. على أساس أن يتحقق الإنماء السياسي، العقلنة، المشاركة والتحديث؛ أي ما يعبر من وجهة نظر العروي على نشأة مجتمع سياسي، تمتلك فيه الدولة درجة مناسبة من ولاء وإجماع مواطنيها وإلا فإنها لامحالة مهزومة.
التدقيق اللغوي لهذه المقالة: حميد نجاحي