على الرغم من توفّر كل المقومّات النهضوية و الحضارية في عالمنا العربي الماديّة و الروحية إلاّ أنّ العالم العربي يعيش نكبة حقيقية وفي كافة المجالات , ولم يجر إستثمار المقومات النهضوية بشقيّها المادي والروحي بالشكل الصحيح والكامل , بل جرى الإستفادة منها في مجال تكريس شرعية الحاكم بطرق ذكيّة ومدروسة . فالمقومات المادية من نفط وغاز و بقية الثروات الطبيعية تمّ إحتكارها من قبل هذه العائلة الحاكمة , و هذه المجموعة العسكرية الحاكمة و تحولّت هذه الثروات إلى ملك شخص بعينه ولم تتحوّل إلى ملك الأمة تستخدم لإستنهاض الفرد والمجموع على السواء , وبدل أن تساهم هذه الثروات الجبّارة – لو نقوم بعملية حسابية بسيطة لمداخيل العالم العربي من بيع النفط في الخمسين سنة الماضية , لوجدنا أرقاما لا يتصورها العقل البشري والتي صرفت بطريقة عشوائية ومبعثرة وكانت هذه الأموال الجبّارة كفيلة بتحقيق نهضة عملاقة في الواقع العربي – في صناعة النهضة الحقّة و إقامة مشاريع صناعية و زراعية تأسيسية عملاقة , و قد صرفت هذه الأموال الجبّارة على ثلاثة أمور :
- الحاكم العربي وحاشيته الأمنية والعسكرية وبتعبير أدق وزارات الدفاع والأمن .
- إقتصاد الخدمات و الإستهلاك .
- إستيراد ما ينفع وما لا ينفع وتسديد الديون التي رتبتها الحكومات العربية على شعوبها , وستظلّ الأجيال في العالم العربي تدفع هذه الديون في المائة سنة المقبلة .
وفي الوقت الذي باتت فيه بعض الدول كاليابان وغيرها في مقدمة الدول و هي لا تملك ثروات طبيعية على الإطلاق , فإنّ العالم العربي ما زال يئنّ تحت وطأة التبعيّة والتقهقر .
و المفارقة العجيبة أنّ الدول العربية النفطية باتت تشبه الدول العربية الفقيرة لجهة تفاقم حدّة البطالة و تراجع المشاريع الكبرى , وكان بالإمكان إستثمار الثروات الهائلة والرساميل العملاقة التي دخلت خزانات الدول العربية في رسم مشاريع تنموية ناجحة , و تكفي جولة واحدة في بعض الدول العربية الثريّة ليكتشف المرء صناعة الفندقة و الترويح عن النفس و المتعة بكل أشكالها أمّا الأسلحة والسيارات والأدوات الكهربائية وقطع الغيار وكل صغيرة وكبيرة مستوردة من الغرب الذي يأتي أرباب الصناعة فيه ليقيموا في فنادقنا الفخمة ويبيعوننا بضائعهم التي لو سخرنا مداخلينا النفطية في صناعتها لصنعناها .
و لا شكّ فإنّ إنعدام سياسة إقتصادية سليمة مردّه إلى الخلل الكبير الموجود في المنظومة السياسيّة الرسمية حيث أدّت التبعية المطلقة للإرادات الدولية إلى تنفيذ شروط هذه الإرادات في كل المجالات .
كما أنّ إفتقاد المنظومة السياسية الرسمية إلى بعد النظر وقراءة المستقبل حال دون الإستثمار الحسن للمداخيل الجبارة التي حصل عليها عالمنا العربي من جرّاء بيع النفط
فقط .
وفي هذا السياق نتساءل مع أنفسنا أين ذهبت الأسلحة التي إشتراها النظام الرسمي العربي سواء من الإتحاد السوفياتي سابقا أو من المحور الغربي أمريكا والدول الأوروبية !
لقد صرفت آلاف الملايير من الدولارات في الخمسين سنة الماضية على إستيراد الأسلحة , لقد تقادمت كل الأسلحة و دفنت تحت الرمال أو وضعت في المتاحف , ولم تستخدم لا في صدّ الكيان الصهيوني ولا في تعزيز الموقف القومي العربي أو الموقف الإسلامي بل كانت تستخدم في الحروب الداخلية التي دكدكت الجدار الوطني الداخلي و أستخدمت في حروب الحدود العربيّة , ويمكن القول أنّ هذا الكم الهائل من ملايير الدولارات تلاشى بدون أن نحققّ به نتيجة نهضوية ملموسة .
وبالرغم من كل ذلك فإنّ سياسة التسليح ما زالت مستمرة بنفس النفس في عالمنا العربي , دون أن تكون هناك سياسة تسليحية واضحة و دون أن يكون هناك مشروع حقيقي لإنتاج السلاح في عالمنا العربي وخصوصا بعد أن وضعت واشنطن خطوطا حمراء على صناعة الأسلحة في العالم العربي و المسموح هو الإستيراد فقط من المصانع العسكرية الأمريكية , والسلاح المسموح بإستيراده هو الذي يدخل عليه تقنيو الصناعة العسكرية الأمريكية تعديلات تقنية و تكنولوجية تجعله سلاحا غير فعّال .
وهذه السياسات جعلت الدول الزراعية على سبيل المثال تجهض زراعتها , فالجزائر التي كانت تصدّر ثمانين بالمائة من قمحها في فترة خضوعها للهيمنة الفرنسية باتت في عهود الإستقلال تستورد تسعين بالمائة من حاجياتها من القمح من أوستراليا وغيرها , وبتعبير الجزائريين فإنّ الباخرة الغربية لو تتأخر عن الجزائر يوما واحدا في الوصول إلى ميناء الجزائر , لما وجد الجزائريون خبزا يأكلونه , بسبب إنعدام الطحين المستورد , علما أنّ سبعين بالمائة من الأراضي الجزائرية لم تستثمر زراعياّ , وكذلك الأمر بالنسبة لمعظم الدولة العربية المضطربة في سياساتها الإقتصادية و في خياراتها الإيديولوجية فتارة ترخي العنان لليبيرالية وتارة تتعامل بمنطق إشتراكي وأحيانا تدمج بين الإثنين أي الإشترورأسمالية أي إشتراكية الشعوب ورأسمالية الحكام .
وإخفاقنا الإقتصادي هو الذي جرنّا إلى هذه الحروب الداخلية التي يشهدها العالم العربي من أقصاه و إلى أدناه , بإعتبار أنّ المواطن العربي الذي لا يجد لقمة يأكلها ولا سكنا يأويه ولا ثقافة تغذّيه و لا أمنا راهنا ومستقبليا يستوعبه فإنّه يجد محاربة الحاكم أمرا مشروعا , خصوصا في ظل تفاقم الطبقيّة في عالمنا العربي , بل إنّ الأحياء في العالم العربي باتت مميزة فهذا حي الأغنياء الذين فوق و هذا حي الفقراء الذين تحت , وكل الذين فوق يمتون بصلة وثقى إلى السلط الحاكمة و الذين تحت ينتمون إلى الجماهير المستضعفة التي يراد لها أن تبقى تحت لتكون قاب قوسين أو أدنى من القبر الذي صنعته الأنظمة العربية لشعوبها !!!