عندما فكرنا في فتح هذا الموضوع البالغ الأهمية والحساسية، كنا نعتقد سلفا أنه سيثير ردود أفعال متباينة وتشنجات عاطفية، وقد يحرك عصبيات ضيقة، لكن نؤكد ونسجل صراحة أن المقصد من ذلك ليس تحريكا للجرح الذي لم يندمل بعد، أو إستثارة للاوجاع من خلال إصدار أحكام وتوجيه إتهامات هنا وهناك، وإنما هو إستشراف لمستقبل افضل يمر عبر ممارسة نقدية ذاتية صارمة، واعتراف شجاع بالأخطاء والعثرات لفتح عيون وعقول الأجيال التي مازالت تحت وقع الصدمة، وما فتئت تتخبط في متاهات الحيرة تتلمس طريق الخروج وتبحث عن نور جديد يبدد عنها هذا الظلام الحالك، ويزيل عنها حالة الإرتباك والذهول، ويضع اقدامها على طريق الإقلاع الراشد. إن هذا المسار يخدم السلطة نفسها ليس بإستيعاب الحركة الإسلامية فحسب، بل ويعزز إستقرار الجزائر من خلال جعلها بمنأى عن الهزات والمغامرات والممارسات السياسوية الضيقة وهذا يتيح في نهاية المطاف حالة التعايش ويفتح الباب للتغيير. الطبيعي السلمي الهادئ..... السقوط المريع.. ما هي أسبابه.؟ يمكننا الآن وقد هدأت العاصفة وانقشعت الغيوم وسقطت كل الاغشية المصطنعة عن الفكر، وبدأ العقل يتأمل بهدوء ويحلل بروية مسار الأحداث ويفكك عناصر الأزمة ويطرح ذلك السؤال الكبير لماذا فشلت الحركة الإسلامية عندنا؟ لماذا منيت بهذه الهزيمة الماحقة؟ لماذا إنتهت إلى هذا المآل السيء جدا بعد أن كانت على مرمى حجر من مواقع القرار..؟
لماذا خيبت آمال الملايين من المحبين والمتعاطفين في الداخل والخارج..؟ هل كان حتما مقضيا أن تنتكس وتنكمش وتنتهي إلى هذه الصورة الدراماتيكية الفظيعة؟ ألم يكن بمقدورها أن تتحاشى ذلك وتبتعد عن هذا المصير التعس، لو إستفادت حقا من رصيد الحركات الإسلامية المختلفة وإنتفعت من زبدة تجاربها وانطلقت من حيث وصلت هذا الحركات ولم تنطلق من الصفر أو من الفراغ..؟ هل أسباب كل ذلك هي أسباب ذاتية أم موضوعية؟ بعبارة أوضح، هل يعود ذلك إلى خطأ في منهجها وفي طريقة تعاملها وأدائها أم الى ضغوطات خارجية دفعت السلطة إلى الوقوف بحزم وقوة في وجه المد الأصولي كما يسمونه وبالتالي تكسير الحركة الإسلامية وتجريدها من عنفوانها وحرمانها من ثمرة إنتصارها...؟
هل يعود - كما يقول بعض المراقبين- إلى إفتقارها إلى الخط الإستراتيجي الذي يعالج المشكلات مما أدى إلى حالة القصور في القيادات التي لم تستوعب كل التناقضات والتحديات والتوازنات الإقليمية والدولية، ولم تفقه حتى تركيبة السلطة الحقيقية وموازين القوى بداخلها فافتقدت - بالرغم من إخلاصها العميق- إفتقدت الرشد السياسي الذي يتيح لها إمتلاك حاسة الإستشعار عن بعد وإستخدام اجهزة الإنذار المبكر لإختراق الحجب واستشفاف الآفاق وبالتالي. إمتلاك مرونة الفقيه الذي لا يخطئ التقدير في القضايا المصيرية الكبرى. -؟ أم يعود إلى القواعد التي وصفت بالشعبوية والبعيدة - في أغلب شرائحها عن النضج والإتزان الذي يتيح الإحتكام إلى العقل وليس إلى العواطف والإنفعالات، فضلا عن ممارساتها القائمة على الإقصاء وعدم التسامح، وخطاباتها النارية. المخيفة..... البداية مع إختلاف الأحزاب الإسلامية...
هل الإشكالية هي أعمق من ذلك - كما يعتقد بعضهم- وفصولها الأولى تعود إلى بدء إختلاف فصائلها وإنقسامهم لحظة ميلاد العمل السياسي والشروع في المسار الديمقراطي التعددي، إذ سارعت الجبهة الإسلامية المنحلة إلى تكوين حزب سياسي دون إستقطاب كل من يعنيه أمر المشروع الإسلامي بينما إكتفت حماس والنهضة في البداية بالعمل الدعوي الثقافي الخيري على إعتبار أنه لا حزبية في الإسلام لتحول جمعياتها فيما بعد إلى أحزاب سياسية، لتليها أحزاب إسلامية أخرى الجزائر المسلمة المعاصرة للدكتور أحمد بن محمد وحركة الأمة لإبن خدة الذي توفى منذ أيام.. وهكذا تعددت الدكاكين السياسية الإسلامية واختلفت الرايات، ولم يكن هذا التعدد من باب الثراء أو التكتيك أو توزيع الأدوار أو توسيع الإنتشار بقدر ما هو مؤسس على الحسابات الشخصية والأمزجة النفسية، وحب الزعامة وربما حسابات أخرى، وهذا ما تجلى وانكشف تحت قبة رابطة الدعوة الإسلامية التي ظل زعيمها الشيخ أحمد سحنون يبذل المساعي تلو المساعي، والجهود تلو الجهود ليجمع هذه القيادات المتنافرة على حد أدنى من التراضي أو حتى على شعار نجتمع على ما اتفقنا عيه ويعذر بعضنا بعضا فيما إختلفنا فيه لكن دون جدوى..
صار كل يعزز دينه، وكل يدعي وصلا بليلى.. وهكذا بدأت بذور الخلاف في الظهور، وهلل الخصوم لهذا التباعد، وبدأ الإعلام يصنف الإسلاميين إلى معتدلين ومتطرفين، منفتحين ومنغلقين، عصرانيين وظلاميين، وصار هذا الإختلاف شرا، ووبالا على وحدة الصف، فغاب الحوار والتشاور والتنسيق، وأفرز شيئا من التصادم والتنافر والحزازات النفسية بين أبناء المشروع الواحد، بل تطور وخرج عند البعض وبشكل علني إلى دائرة الغمز واللمز والقدح، فكان هذا كله مؤشر شرعي على السقوط المنتظر، والعاقبة السيئة، والخسران المبين.... واجب الصادقين اليوم..
إن كل هذه الأسئلة المطروحة ليست نبشا في الماضي، وليست الإجابة عنها هي حتما محاكمة لطرف أو لآخر، إنما هي مساءلة مشروعة لتجربة منيت بفشل ذريع وصاحبتها مآسي دامية.. وإن نقدها والكشف عن مواطن خللها ووضع الدواء على الجرح وتقديم العلاج بصدق وحرقة مجردا من كل الحسابات هو واجب المخلصين الصادقين المتبصرين لتنطلق الأجيال الجديدة، وقد ألقت بمنهج دعوها فإنها مأمورة في المهاوي، ورمت بفكرة أغمض عينك واتبعنا- القائمة على تقديس الشيخ الملهم والحجر على فكر الآخرين- رمت بها إلى المزابل... تنطلق بعقل محشو بالعلم الشرعي والمعرفي والإستراتيجي، وليس بالجهل، وقلبها مفعم بالتقوى والحب وليس بالإنفعالات. والهيجان. إننا نأمل- عبر هذه النافذة- أن يكون النقاش هادئا وعميقا وبناءا يقوم على النقد العلمي والأخلاق العلمية، تحكمه القاعدة التي تقول: أن الخلاف العلمي لا يمنع التقدير الأدبي.. وليكن التركيز أكثر على المستقبل من خلال رسم طرق الخلاص والنهوض قبل أن تجهز- على ما تبقى- هذه التحديات الخطيرة التي تلفنا وفي مقدمتها غول العولمة الذي بدأ يلتهم ثقافة الشعوب وهوياتها وقيمها وكينوننتنا الحضارية والحرب الأمريكية الوشيكة التي تهدف الى صياغة جديدة. للمنطقة والقضاء على أي نهوض إسلامي مرتقب.