ومن المفارقات المثيرة أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان لدى البعض مبررا منطقيا للتبشير بانهيار الولايات المتحدة ، والقضية لا يمكن اختصارها في مشاعر سلبية أو إيجابية يكنها البعض للولايات المتحدة ، بل في منطق ينبغي احترامه وحقائق لا يمكن القفز عليها ، فانهيار الاتحاد السوفيتي كان شهادة للرأسمالية الأمريكية بأنها أقدر من الشيوعية وأن التنظيم السياسي والاقتصادي الغربي أكثر مرونة في مواجهة مشكلاته ومعالجتها لأنه ليس أسير مقولات أيديولوجية جامدة ، وبطبيعة الحال لا يترتب على القول بأنه أكثر قدرة أو مرونة من الشيوعية أنه الأجدر عالميا ، فلا تعميم هذه النتيجة على كل الرؤى الأخرى للتنظيم السياسي في العالم يمكن قبوله ، ولا إنكار هذا الانتصار واعتباره مؤشرا على هزيمة للولايات المتحدة الأمريكية قادمة حتما يمكن قبوله هو الآخر .
والموجة التي شهدها الإعلام العربي عقب هذا الانهيار تعتبره مقدمة لانهيار الولايات المتحدة تجاوزت الحد الفاصل بين السنن الكونية التي لا تتبدل وبين ما تشير إليه الدلائل المتعينة بموازين القوة والضعف وقد أصبحت هناك نماذج لقياس قوة الشاملة للدول بمعايير منضبطة تحاول أن تكون محايدة . والإقرار بما تحوزه الولايات المتحدة من قوة لا يعني بأي حال إضفاء المشروعية على منظوماته القيمية أو سلوكياتها السياسية فالإقرار بامتلاك القوة شئ والإضفاء المشروعية على استخدام هذه القوة شيء مغاير تماما . والخلط بين ضرورة التقدير الدقيق لقدرات الخصم والوقوع في أسر نموذجه يخلط التحليل بالترويج والدعاية ويزيل الخيط الفاصل بين تنوير القارئ وتضليله .
وما ساد الساحة العربية من تنبؤات لمسار الحرب الإنجلوسكسونية الأخيرة على العراق يكفي نموذجا لهذا الخلط فالكثير من المحللين العسكريين العرب أكدوا أن العراق ستصمد وستكون فخا للولايات المتحدة الأمريكية ، وهو خطاب يمثل امتدادا للخطاب الرسمي العراقي الذي يظل يصف حرب الخليج الثانية بأنها " أم المعارك " ويؤكد أنها انتصار عراقي مجيد . وإذا رجعنا دراسة علمية رصينة هي " دور التكنولوجيا الإليكترونية في الحروب التجارية والعسكرية المعاصرة " ، وكاتبها اللواء أركان حرب دكتور زكريا أحمد حسين رئيس هيئة البحوث العسكرية بوزارة الدفاع المصرية سابقا واحد من أهم الخبراء العسكريين المصريين ، وهي صدرت قبل الحرب بقليل ( يناير 2003 ) عن مركز زايد للتنسيق والمتابعة بالإمارات ، وفيها يقدم كشف حساب لهذه الحرب جدير بالتوقف أمامه ، وفيه أن التوقعات التي روج لها قبل الحرب بأن المكونات الإليكترونية الدقيقة لقوات التحالف ستصاب بالشلل التام بسبب الظروف البيئية خابت جميعها ، وأن الأسلحة الأمريكية أثبتت أنها ذات كفاءة عالية .
وحسب هذه الدراسة " ساهمت التكنولوجيا والتفوق الساحق لقوات التحالف الدولي في هزيمة عسكرية كاملة للقوات العراقية " ، وكان معدل إصابة الصواريخ التوماهوك التي كان أداؤها محل تشكيك وجدل 85 % ، وخرج العراق من " أم المعارك " بخسائر ضخمة بلغت :
تدمير 3956 دبابة من 5990 دبابة بنسبة 66 % ،
تدمير 2166 عربة مدرعة من 6200 بنسبة 34 % ،
تدمير 3092 قطعة مدفعية من 8373 بنسبة 36 % .
بلغت الخسائر في التشكيلات 29 فرقة بين مدرعة وميكانيكية من 43 فرقة ،
تم تدمير 88 % من قاذفات الصواريخ والمدفعية ،
تدمير 40 % من القطع البحرية ،
شل وتدمير 44 قاعدة ومطار ونسبة 62 % من دشم الطائرات الخرسانية .
تدمير 4 مراكز عمليات وخمسة مراكز لتوجيه الطائرات وحوالي 50 % من نيران الدفاع الجوي وصواريخه .
وقد شكل شبح فيتنام لكثيرين صورة مجازية مريحة ولم يراعوا غالبا عند استحضارها الفارق بين الولايات المتحدة في الخمسينات والستينات والولايات المتحدة على أعتاب القرن الحادي والعشرين وهم لا يرعون كذلك الفرق بين الظرف الدولي الذي أحاط بالتجربة الفيتنامية والظرف الدولي الحالي ، فالولايات المتحدة على أعتاب القرن العشرين أكبر قوة عسكرية في التاريخ ، ليس فقط من الناحية الكمية بل أيضا من ناحية النوعية فدرجة اعتمادها على التقنية العسكرية لتحقيق أهدافها هي غير مسبوقة في التاريخ .
والمستنقع الفيتنامي كان لعبة محكومة بقواعد الصراع بين القطبين ولعب الدعم الشيوعي دورا كبيرا في تمكين الفيتناميين من الانتصار على الولايات المتحدة ، فضلا عن أن الصراع الأمريكي الفيتنامي كان صراعا شاملا وكان الشعب الفيتنامي فيه ملتفا حول قيادته . وخلال حرب فيتنام لم تبرز حركات الاحتجاج الكبرى إلا ابتداء من 1968 أي بعد مرور ثلاثة أعوام على التدخل العسكري الأميركي الواسع النطاق هناك .
كما الاستسهال والانقياد للانفعال أديا إلى تجاهل حقائق شديدة الأهمية تتصل بالتغيرات التي طرأت على الرؤية الأمريكية لفكرة التدخل العسكري واحتمالية حدوث خسائر بشرية أمريكية كبيرة وهو ما يسميه البعض " عقدة فيتنام ، فالجنرال ويزلي ك كلارك أحد أهم القادة العسكريين الأمريكيين وسبق له شغل مناصب عسكرية مرموقة منها مدير الخطط الاستراتيجية والسياسات في هيئة أركان الحرب المشتركة في وزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاجون ) بين عامي 1994 و 1996 ، أما آخر المناصب العسكرية التي تولاها فكان منصب القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا بين عامي 1997 و 2000 .
وهو يذكر في كتابه : " " WAGING MODERN WAR ( الحرب الحديثة ) أنه عندما كان كولن باول رئيسا لهيئة أركان الحرب المشتركة اتفق مع المؤلف على ضرورة استخدام القوة من البداية ، وليس على نحو تدريجي كما حدث في حرب فييتنام . وقد كانت التقاليد العسكرية الأمريكية حتى وقت قريب تقوم على أن القتال يبدأ عندما تتوقف المحادثات ، وهو ما أصبح يعد سوء تفسير لأن مبدأ القوة الحاسمة لا يتعارض مع استمرار الديبلوماسية العلنية والسرية ، فالقوة الحاسمة هي التي تجعل الإرغام ناجحا ، وتشترك مع الديبلوماسية في إيجاد مخرج للمهزوم . وضمن التغيرات التي يذكر كلارك أنه تم إقرارها الاستعداد لتحمل خسائر بشرية كبيرة . فهل كانت الحرب الأمريكية على أفغانستان أو الحرب الأنجلوأمريكية على العراق صورة من " المستنقع الفيتنامي " حتى تجوز المقارنة ؟
وكون الولايات المتحدة قوة هائلة مسخرة للشر لا يعني إنكار قوتها وليس من الوطنية في شئ التركيز على انهيارها كحل لحالة الضعف التي نمر بها ، وهو ميل لا شعوري يخلقه هذا الخطاب التحليلي ويرسخه في النفوس دون أن يقصد أصحابه إلى ذلك ، فنحن محتاجون إلى خطاب يلتمس السبل لبناء نهضتنا نحن لنكون القوة الخيرة التي تستطيع بناء قدر من التوازن مع القوة الأمريكية والإمكانات متوفرة إلى حد بعيد تنقصها الرؤية والإرادة ، هو أمر ممكن سواء انهارت الولايات المتحدة أم لا ؟