يدور الحديث في هذه الأيام وفي غيرها من الأيام عن الحكم الشرعي لتولي المرأة الولايات ، في الدولة ( وزير ، مدير عام ، مرشَّحة في مجلس النواب ، ومرشِّحة له ... ) ويحتدم الخلاف حول هذا ، فمن مؤيد متحمس ، إما أنه لا يرى في هذا تنافيا مع الدين ، أو لا يهمه أمر كهذا ، ومن معارض .
وانقسم المعارضون إلى قسمين :
أحدهما : يعارض ؛ لأنه يرى في هذا تنافيا مع الدين ، ومخالفة لقوله ـ تعالى ـ : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ، بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ) .
وثانيهما : يقول إن هذا يتنافى مع عاداتنا وتقاليدنا العربية التي ألفناها وارتضيناها .
ويبدو لي أن من احتج بالتقاليد والعادات لا كلام لنا معه ، ثم بعد هذا قد تكون تلك العادات والتقاليد صحيحة سليمة ، وقد يكون فيها شيء من الإجحاف . وفي الحالتين فإن هؤلاء لا يلزمون أحدا بتقاليدهم ، ولا ينسبون لدين أو فكر أمرا قد يكون غير موجود فيه ، والعادات متروكة للزمن . في تغيرها وثباتها .
هذا أمر ، وأمر الآخر الذي أريد طرح وجهة نظري فيه ليس جواز هذا الأمر إسلاميا أو عدم جوازه ، فأنا في هذا المقال لا أريد بيان حرمة هذا الأمر ، ولا حلّه ، وإنما الذي أريد بيانه هو : هل فيما أورده المانعون من نصوص ما يثبت التحريم ؟
الأول من أدلتهم : قوله ـ تعالى ـ : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} . قالوا : والقوامة تعني الإدارة والقيادة ، فالرجل هو القائد ، لا المرأة ، وليس من المعقول أن يكون قائدها ورئيسها في المنزل ، ثم تكون قائدته خارج المنزل .
من المعلوم أن ديننا دعا أي تجمع أن يكون لهم رئيس يقودهم ، ومن ذلك قوله ـ صلى الله عليه و سلم
ـ : ( إذا خرج ثلاثة في سفر ، فليؤمروا أحدهم ) .
ولم يتدخل في تشخيص الأمير الذي يكون ، ولم يحدد جنسه ، وإنما ترك لهم اختيار من يرونه مناسبا لذلك ، فإن أحسنوا الاختيار كان لهم ، وإن كانت الأخرى فعليهم ، ولوا اختاروا مفضولا مع وجود الفاضل ، فلا بأس عليهم ؛ لأنه لا يشترط بالأمير أن يكون هو أفضل الموجود ، على الراجح .
لكننا نراه تدخل في قيادة المنزل ، وحدد المدير لهذه الشركة ، مبينا سببين لهذا الاختيار ، أولهما : ما تميز به الرجل على المرأة ، والثاني : الإنفاق .
إلاّ أنّ مما يجب التنبه والتنبيه إليه هنا أمرين :
أحدهما : أن القرآن الكريم لم يذكر أن المرأة غير صالحة لإدارة ، وإنما الذي ذكره أن الرجل في المنزل هو الأولى بالإدارة .
وثانيهما : أن قوامة الرجل إنما هي خاصة بما يتعلق بمصالح هذه الشركة الأسرية ، وما عداها لا قوامة له عليها ، ولا سلطان ، فلها شخصيتها المستقلة في الحقوق والواجبات والالتزامات .
وبناء على ما تقدم فإن قوامته في المنزل لا تناقض إمارتها عليه خارج المنزل , وهل هناك من يحرم على امرأة أن تكون في عملها في مركز أعلى من مركز زوجها ، أو يحرم على وزارة أن تضع امرأة مديرة ، ويكون زوجها فيها دونها رتبة ؟
الثاني من أدلتهم : قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : ( لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ) .
وهذا الحديث ورد عن رسول الله ـ  ـ عندما جاءه الخبر أن ابن شيرويه مات وتولت أخته بعده ملك فارس ، ذلك أن ابن شيرويه كان قد قتل أباه (كسرى الذي مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ) ثم إن ابنه قتله ، ولم يدم ملكه بعد قتل أبيه سوى ستة أشهر ، ولما لم يكن له إخوة ؛ لأنه قتلهم ـ أيضا ـ طمعا في الملك ، كانت أخته بُوران على الملك بعده .
هذه هي قصة الحديث ، فهل نص الحديث خبر أو إنشاء ؟
قبل بيان المراد من الحديث لا بد من بيان أنواع الكلام عند علماء اللغة ، فهم يقسمون الجمل إلى خبر وإنشاء ، فالجملة الخبرية : ما لها نسبة في الخارج ، إن طابقتها كانت صادقة ، وإن خالفتها كانت كاذبة ، والإنشاء : ما ليس له نسبة في الخارج ، ولا يقال لقائله : إنه صادق أو كاذب . ثم الجملة الخبرية نوعان : خبرية لفظا ومعنى ، مثل : الجو صحو ، وخبرية لفظا إنشائية معنى ، مثل : قوله ـ تعالى ـ : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} . فالآية في صياغتها خبرية لفظاً ، لكن المراد بها الإنشاء ، أي : ليتربصن . ولا يمكن أن تكون خبرية معنى ؛ لأنا نرى من النساء في العالم من لا يتربصن ، وحاشا كتاب الله أن يخالف الواقع .
وبعد هذا البيان فإن العلماء متفقون على أن هذا الحديث خبر لفظا ، إنشاء معنى ، لكن ما الإنشاء المراد هنا : النهي أم الدعاء ؟ فعلى افتراض كونه نهيا يكون معنى الحديث : ( لا تولوا المرأة ؛ لأن من ولّى امرأة لن يفلح ) وإذا قلنا : إنه دعاء ، فهو دعاء على القوم الذين أخبر عنهم بأنهم ولَّوا أمرهم امرأة . فالفرق بين الاثنين أنه على النهي يتضمن خبرا ، وعلى الدعاء لا يتضمنه .
وإذا كان حمل الحديث على النهي يجعله يتضمن خبرا فهذا الخبر إما موافق للواقع أو مخالف له ، فإن كان موافقا فهو ـ بعد صحة سنده ـ صحيح النسبة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم
ـ وإن كان مخالفا : إن احتمل التأويل أوّلناه ، وإلا حكمنا عليه بالوضع ؛ لأنا إن لم نفعل ذلك نسبنا الكذب إلى كلام رسول الله وحاشاه ـ صلى الله عليه و سلم ـ من ذلك.
يقول السيوطي : "إن من جملة دلائل الوضع ـ وضع الحديث ـ أن يكون مخالفا للعقل ، لا يقبل التأويل" . ( تدريب الراوي : 1 / 276 ) . ومن تأويله حمله على الإنشاء.
فهل هذا الحديث يناقض الواقع ؟
إنّ القرآن الكريم يروي لنا قصة امرأة أفلحت في قيادة قومها ، فإنه يقص علينا قصة امرأة تولت شؤون قومها ، وأفلحت وأفلحوا ، تلك هي ملكة سبأ التي جاءت قصتها في (سورة النمل) وهي قصة معروفة مشهورة ، تحدث فيها القرآن عن حكمة تلك المرأة وذكائها اللذين ظهرا على تصرفاتها منذ تسلمت رسالة سليمان ، واللذين تفادت بهما قتالا خاسرا مع سليمان ـ على رغم إبداء قومها من الرجال استعدادهم لذلك وقدرتهم عليه ـ وقادتهم إلى الإيمان بالله ـ تعالى ـ مع سليمان .
ولا أعتقد أن هناك من يجادل في هذا الفلاح ، وهذا النجاح الذي حققته تلك المرأة ، وإذا كان ما زعمته صحيحا ـ وهو كذلك ، إن شاء الله ـ فإنه من الخطأ الفادح أن نحمل حديث رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ على معنى يتضمن الخبر ؛ لأنه يستلزم نسبة الكذب إليه وحاشاه ـ صلى الله عليه و سلم
ـ من ذلك ، لأن الحديث يقول : (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) والقرآن يخبر بأن قوما أفلحوا بتوليتهم امرأة . ثم لا يجوز الحكم على حديث مثله بالوضع ، ما وجدنا إلى تأويله مخرجا .
والحديث له تأويل مقبول ـ فيما يبدو ـ يجعلنا نتفادى الحكم عليه بالوضع ـ لا سيما وقد صححه الإمام البخاري ، رحمه الله ـ وذلك بحمله على الدعاء ، لا النهي.
وحمله على الدعاء هو الذي يزول معه إشكال المخالفة ـ ولعل الإمام البخاري يميل إلى هذا ، فيما يبدو ـ لأنه أورد حديث (لا يفلح ...) متصلا بقصة إرسال الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ كتابه إلى كسرى ، وتمزيقه ذلك الكتاب ، ودعاء رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أن يمزق ملكه ، والبخاري بفعله هذا ، كأنه يقول : إن هذا من تمام القصة السابقة ، يقول الحافظ بن حجر : (ومناسبة هذا الحديث للترجمة ـ إرسال الكتاب وتمزيقه والدعاء ـ من جهة أنه تتمة قصة كسرى الذي مزّق كتاب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فسلط الله عليه ابنه فقتله ، ثم قتل إخوته ، حتى أفضى الأمر بهم إلى تأمير المرأة ، فجرّ ذلك إلى ذهاب ملكهم ، ومُزِّقوا ، كما دعا به النبي صلى الله عليه و سلم) . ( الفتح 7 / 735 ) . فهو دعاء لاحق ، متصل بدعاء سابق .
هذا ما تبين لي من احتمال في هذا الحديث ، وهو احتمال ـ إن لم يكن متعينا ـ فهو قوي جدا ، ويُضعف الاستدلال بالحديث على ما يستدل به ، ولعل هذا هو الذي حدا ببعض علمائنا ـ وهم قلة ـ إلى عدم الأخذ بفهم الصحابي ، وعدم اعتبار الحديث دليلا ، فقد قال الحافظ بن حجر : (والمنع من أن تلي ـ يعني المرأة ـ الإمارة والقضاء قول الجمهور ، وأجازه الطبري ، وهي رواية عن مالك) . (الفتح 7 / 735) . واحتمال عدم علم هذين الإمامين الجليلين ، بحديث مثل هذا بعيد .
لكن ما الذي جعل جمهرة كبيرة من العلماء يحملونه على النهي عن تولي المرأة الولاية العامة ؟
ولعل الذي جعل الجمهور من علمائنا ـ رحمهم الله ـ يرجحون النهي ، ويذهبون إلى الاستدلال به على منع الإسلام تولي المرأة ـ هو راوي الحديث ، الصحابي أبو بكرة ـ رضي الله عنه ـ فإنه ذهب إلى هذا ، حيث ذكر أن الذي عصمه ـ كما عبر ـ من الالتحاق بجيش عائشة الذي قادته إلى البصرة ـ هو ما سمعه من قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : (لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) .