بدأ الحديث عن الاجتهاد الجماعي منذ قرن تقريباً، وبالتحديد في الربع الأول من القرن العشرين المنصرم، وذلك في أروقة الأزهر في مصر وبين علمائه، وتم تشكيل أول هيئة لكبار العلماء في سنة (1927م)، ثم تحولت إلى جماعة كبار العلماء في سنة (1936م)، وجاء بعد ذلك إحداث مجمع البحوث الإسلامية، التابع للجامع الأزهر، في سنة (1961م) ليحل محلها، ولكن بنحو أوسع ونظام جديد. تحديد مفهوم الاجتهاد الجماعي

إنّ مشروعية الاجتهاد في الفقه الإسلامي - بنحو عام- قضية مقررة لا خلاف فيها بين المذاهب الفقهية المعروفة؛ لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح بابه، بأقواله وأفعاله وتقريراته.

فن أقواله صلى الله عليه وسلم : (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد) [متفق عليه]

ومن أفعاله : اجتهاده صلى الله عليه وسلم - بشأن أُسارى بدر بقبول الفِداء منهم. وغير ذلك.

ومن تقريراته : إقراره صلى الله عليه وسلم معاذَ بن جبل رضي الله عنه على طريقته في القضاء بين الناس، حينما بعثه إلى اليمن قاضياً، وهي النظر في كتاب الله تعالى، فإنْ لم يجد ففي السنة، فإنْ لم يجد يجتهد رأيَه، لا يألو جهداً. [راجع الخبر بنصه ومراجعه وأقوال العلماء فيه، في جامع الأصول، لابن الأثير، ج 10 ص 177، ط 1، بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، رحمه الله.

وباب الاجتهاد الذي فتحه الرسول صلى الله عليه وسلم باب واسع يحتمل دخول عدد كبير غير محدود ممن تأهلوا لولوجه. وقد بدأ دخولَه فقهاءُ الصحابة والتابعين، ثم الأئمة المجتهدون المشهورون ومعاصروهم ممن لم يُشتَهروا، ثم ضعف الاجتهاد ردحاً من الزمن، لكنه لم ينقطع أبداً، وإن كان قد أصبح جزئياً في معظم الأحيان. وتكلّم الأصوليون الأوائل، وأولهم الإمام الشافعي، في الاجتهاد من حيثُ مشروعيتُه وأهميته وشروطه، دون أن يحدُّوه بتعريف محدّد.

ثم احتاج إلى ضبط وتحديد فكثرت تعريفاته، ولكنها تكاد تتفق في المعنى، وإن اختلفت في ألفاظها وتعبيراتها، ومن أشهر تعريفاته ما حدّه به الأصولي الجهبذ ابن الحاجب –رحمه الله-، بقوله : "هو استفراغ الفقيه الوُسْعَ لتحصيل الظنِّ بحكم شرعي" [انظره في مختصره المشهور في أصول الفقه].

والأصل في الاجتهاد أن يقوم به المجتهد الفرد بمفرده؛ لأنه جهد فكري .
ولكن هل يُتصوَّر حصوله من جماعة من المجتهدين في آنٍ واحد؟

بالمعنى البسيط لمعنى الجماعية لا يمكن وقوعه؛ لأنه لا يمكن جمع عقول متعددة في بوتقة واحدة لتصبح عقلاً واحداً كبيراً قوياً، إذْ كل منها يعمل بمفرده وبطريقة مغايرة للأخرى.

ولكن إذا أخذت الجماعية بمعناها الأوسع، وهو عرض نتائج اجتهادات العقول المجتهدة ومناقشتها من قبل المجتهدين أنفسهم على بساط الشورى، للوصول إلى رأي واحد – يتفق عليه جميعهم أو أكثرهم – في حكم المسألة المعروضة، أمكن عندئذٍ فهم وصف الاجتهاد بأنه جماعي، وهو ما سيدور حوله الحديث في هذه الحلقة، والحلقات الآتية في هذه السلسلة، إن شاء الله.

وفي هذه الحلقة أكتفي بتحديد وضبط مفهوم الاجتهاد الجماعي في أصول الفقه الإسلامي، كونه مصطلحاً أصولياً معاصراً.
بدأ الحديث عن الاجتهاد الجماعي منذ قرن تقريباً، وبالتحديد في الربع الأول من القرن العشرين المنصرم، وذلك في أروقة الأزهر في مصر وبين علمائه، وتم تشكيل أول هيئة لكبار العلماء في سنة (1927م) ، ثم تحولت إلى جماعة كبار العلماء في سنة (1936م) ، وجاء بعد ذلك إحداث مجمع البحوث الإسلامية، التابع للجامع الأزهر، في سنة (1961م) ليحل محلها، ولكن بنحو أوسع ونظام جديد.

ولا زال الحديث عنه والكلام فيه يتسع عَقداً بعد عقد وعاماً بعد عام، إلى أنْ نضجت فكرته نضوجاً كافياً في العقود الثلاثة الماضية، وفي الأخير منها على وجه الخصوص، وذلك بعد نشوء مؤسسات كثيرة للاجتهاد الجماعي – سيأتي الحديث عنها في حلقة قادمة –، وبعد كتابة أبحاث كثيرة فيه لندوة خاصة بعنوان " الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي " أقامتها كلية الشريعة والقانون في جامعة العين في دولة الإمارات – أواخر سنة 1996م – ثم صدور بعض الكتب بعد سنتين من هذه الندوة، ثم جاءت أطروحتي للدكتوراه الخاصة بالاجتهاد الجماعي - التي نوقشت في الصيف المنصرم - لتفيد من جميع الكتابات السابقة وتجمع شتات ما تفرق فيها وتزيد عليها، وتخرجه في قالب علمي - أكاديمي - متكامل ، ليؤتي أُكله كل حين بإذن الله.

معظم ما ورد في تحديد مفهوم الاجتهاد الجماعي على مدى نصف قرن، قبل ندوة الإمارات المذكورة كان مجرد مقولات لا ترقى إلى مستوى التعريفات الاصطلاحية المحددة. ولذلك تعدّ ندوة الإمارات والتعريف المختار لها حداً زمنياً فاصلاً في هذا الصدد.

وقد كتبت بحثاً مطوَّلاً عرضت فيه جميع المقولات والتعريفات(1) وناقشتها، ثم استخلصت محاسنها وعيوبها، وبناء عليه وضعت التعريف المختار الذي أرى أنه يجمع المحاسن ويبتعد عن المعايب فعرفته بأنه: بذل فئة من الفقهاء المسلمين العدول جهودَهم، في البحث والنظر، على وَفْق منهج علمي أصولي، ثم التشاور بينهم في مجلس خاص، لاستنباط أو استخلاص حكم شرعي لمسألة ظنية.

ويمكن اختصاره ليسهل حفظه بما يأتي: ((بذل فئة من الفقهاء جهودهم، في البحث والتشاور، لاستنباط حكم شرعي)).
وقد اشتمل التعريف على جملة من القيود والضوابط التي تحدد مفهومه بدقة، أسجلها في النقاط الست الآتية:
أولاً- الاجتهاد الجماعي بذل لجهد مشترك أو مجموعٌ لجهود فئة من الفقهاء.
ثانياً- الاجتهاد الجماعي بحث ونظر على وفق منهج علمي أصولي.
ثالثاً- الاجتهاد الجماعي لا بد من أن يقوم به فقهاء مسلمون عدول.
رابعاً- الاجتهاد الجماعي لا بد من أن يقوم على مبدأ الشورى العلمية.
خامساً- غاية الاجتهاد الجماعي استنباط أو استخلاص حكم شرعي يحقق مقاصد الشريعة في المسألة محلّ الاجتهاد.
سادساً- الاجتهاد الجماعي، كالاجتهاد الفردي، لا يكون إلا في مسألة ظنية، أي ليس فيها دليل قطعي الثبوت والدلالة.
وإلى اللقاء في الحلقة الثانية لبيان أهمية الاجتهاد الجماعي في كل عصر.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية