كانت الحلقة الأولى لتحديد وضبط مفهوم الاجتهاد الجماعي. وهذه الحلقة تثبت مشروعية هذه الكيفية في الاجتهاد، من خلال التأصيل له من سنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. لن أطيل الكلام في قضيةٍ نظريةٍ شغلت حيزاً كبيراً من باب الاجتهاد في معظم كتب أصول الفقه، وهي قضية اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فبحثوا إمكان وقوع الاجتهاد منه عقلاً وعملاً، مع استغنائه عنه بما يأتيه من الوحي، وأطالوا الأخذ والرد بسبب اختلاف الآراء فيها.
ويكفي أن أقرّر مذهب جمهور الأصوليين والعلماء فيها، وهو أن الاجتهاد جائز في حقه صلى الله عليه وسلم عقلاً، وواقع منه فعلاً (1).
والمهم هنا، هل حدث اجتهاد جماعي في عهده صلى الله عليه وسلم، من بعض أصحابه، فأقرّه، فيكون إقرارُه صلى الله عليه وسلم دليلاً شرعياً صريحاً على جوازه؟
هناك عدة وقائع تدل على مشروعية الاجتهاد الجماعي من السنة، أكتفي بذكر اثنتين منها:
الأولى: عندما أسر المسلمون في غزوة بدر سبعين رجلاً من المشركين – وقد كانت أول حادثة من نوعها في تاريخ الدولة الإسلامية الناشئة، ولم ينزل في مثلها وحي- استشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بشأن الأسرى؛ ماذا يصنع بهم؟ فأشار أبو بكر بأخذ الفداء منهم وإطلاق سراحهم، وقدّم تعليله لرأيه، وأشار عمر بن الخطاب بقتلهم – وكان هذا رأي سعد بن معاذ، وقريب منه رأي عبد الله بن رواحة– وقدّم تعليله لهذا الرأي. ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى رأي أبي بكر– ترجيحاً لجانب الرأفة والرحمة- فقبل الفداء منهم، ثم نزل القرآن الكريم مؤيداً للرأي الآخر, ومعاتباً الرسولَ –عليه الصلاة والسلام– ومن كان على رأيه، بعتاب لا يخلو من التهديد بالعذاب، فقال عز وجل: ]مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [الأنفال:67-68] (2).
فهذا مثال بيّنٌ لاجتهاد جماعة المؤمنين، وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، في قضية لم ينزل فيها وحيٌ، متلوٌّ أو غيرُ متلوّ.
الثانية: خبر اجتهاد الصحابة في فهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهم يوم الخندق- بعد أن ظهرت خيانة يهود بني قريظة بوقوفهم مع الأحزاب- : (لا يُصلّيَنَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قُرَيظة)، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم : لا نصلّي حتى نأتيَها، وقال بعضهم : بل نصلّي، لم يُرِدْ منا ذلك، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنّف واحداً منهم(3).
وهذا الخبر من أقوى الأدلة وأصرحها في الدلالة على المطلوب، لأنّ اجتهادهم الجماعي كان في فهم نصّ كلامه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في حضوره، وإنما أخبروه بعد وصولهم إليه، ففريق أخذ بظاهر الحديث، وفريق مال إلى معنى الحديث وغايته، بخلاف المثال السابق فقد كان اجتهاداً لاقتراح حلِّ قضية الأسرى، وكان ذلك بحضوره صلى الله عليه وسلم واستشارة منه.
ثمّ إنّ إقراره كُلاً من الفريقين على فهمه، وعدم تعنيف واحد منهم؛ يدل ضمناً على إقرار طريقتهم في الاجتهاد. فلم يقل لهم: لماذا اختلفتم على رأيين ولم تجتمعوا على رأي ؟ ولا قال لهم: لماذا لم تسألوا أعلمَكم وتأخذوا برأيه؟
ويكون الأسلوب الذي اتبعوه هو الأمثل في مثل هذه الحال، حتى لو كانت النتيجة اختلافاً على رأيين، ما دام يصعب الترجيح بينهما.
ومن عهد الخلفاء الراشدين، ولا سيما الخليفتين أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما- أقتصر على بعض الأخبار الثابتة المشهورة التي تبيّن اعتمادهم على مبدأ الاجتهاد الجماعي، وخاصة في حل القضايا المهمة والمسائل الكبرى، التي تنزل بالأمة.
روى الدارميُّ عن المسيَّبِ بنِ رافعٍ(4)، قال: كانوا –أي الصحابة- إذا نزلتْ بهمْ قضيةٌ ليسَ فيها من رسولِ اللهِ أثَرٌ؛ اجتمعُوا لها وأجمعُوا، فالحقُّ فيما رأوْا، فالحقُّ فيما رأوْا(5).
وعن ميمونِ بن مِهران(6)، قال: كان أبو بكر الصديق، إذا ورد عليه حكمٌ نظرَ في كتابِ الله، فإنْ وجدَ فيهِ ما يقضي بهِ قضى بهِ، وإنْ لمْ يجدْ في كتابِ اللهِ، نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هلْ علمتمْ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قضى فيهِ بقضاءٍ ؟ فربّما قامَ إليهِ القومُ فيقولونَ: قضى فيه بكذا وكذا، فإنْ لمْ يجدْ سنةً سنّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم جمعَ رؤوسَ الناسِ، فاستشارَهم، فإذا اجتمعَ رأيُهم على شئٍ قضى به(7).
وكان عمر يفعل ذلك، فإذا أعياه أنْ يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء ؟ فإنْ كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماءَ الناسِ واستشارَهم، فإذا اجتمعَ رأيُهم على شيءٍ قضى بهِ(8).
وإليك هذين الحديثين اللذين يبدو الأمر فيهما صريحاً باعتماد المنهج الشوري الجماعي:
1- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله إنْ نزلَ بنا أمرٌ، ليس فيه بيان أمرٍ ولا نهيٍ؛ فما تأمرني؟ قال: شاوروا فيه الفقهاء والعابدين ولا تُمضوا فيه رأيَ خاصةٍ(9).
2- وروى الطبراني أيضاً عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنْ عُرِضَ عليَّ أمرٌ، ليسَ فيهِ قضاءٌ في أمرِهِ، ولا سنةٌ، كيفَ تأمُرُني ؟ قال: (تجعلونهُ شُورى بينَ أهلِ الفقهِ والعابدينَ منَ المؤمنينَ ولا تقضِ فيهِ برأيكَ خاصّة) (10).
الهوامش:
(1) انظر تفصيل الأقوال في المسألة وأدلتها والترجيح بينها في كل من: المعتمد، لأبي الحسين البصري، ج2 ص210-213، 240-243، وكتاب الاجتهاد من كتاب التلخيص، لإمام الحرمين ص 77 فما بعد، ط 1 دار القلم -دمشق، والإحكام في أصول الأحكام، للآمدي ج4ص323 ط 1 دار إحياء التراث العربي، والمختصر، لابن الحاجب، ص209، ط 1 دار الكتب العلمية، وروضة الناظر، لابن قدامة، ص322، ط 3 دار الكتب العلمية، والمحصول من علم الأصول، للرازي ج 6 ص 7 فما بعد، والبحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي،ج6 ص 215- 216، ومن كتب المعاصرين: اجتهاد الرسول-صلى الله عليه وسلم-، للدكتورة نادية العمري، ص 40– 82 ، ط 4 مؤسسة الرسالة.
(2) انظر: صحيح مسلم، حديث رقم (1763)، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، رحمه الله.
(3) أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر، واللفظ هنا للبخاري . وجاء عند مسلم (الظهر) بدل (العصر)، وفروق أخرى لا تغير المعنى . رواه البخاري في كتاب (المغازي) برقم (3893)، ومسلم برقم (1770).
(4) المسيّب بن رافع، الأسدي، الكاهلي، الكوفي، الأعمى : ثقة، مات سنة خمس ومئة. [التقريب برقم 6675]
(5) سنن الدارمي (مسنده) جـ1 ص 48، حديث رقم (115)، في المقدمة. وانظر: إعلام الموقعين جـ1 ص 84، فقد نقل ابن القيم رواية مشابهة عن البخاري بسنده إلى المسيب بن رافع.
(6) ميمون بن مِهْران الجزري، أبو أيوب، أصله كوفي: ثقة، فقيه، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز. وكان يُرسِل. مات سنة سبع عشرة (بعد المئة). [تقريب التهذيب، برقم 7049]. وهذا الخبر من مرسلاته.
(7) أخرجه الدارمي في مقدمة سننه، حديث رقم (161). وانظر: إعلام المقعين، ج1 ص62، فقد نقله ابن القيم عن كتاب القضاء لأبي عبيد، بألفاظ مقاربة جداً لما هنا.
(8) هذا تمام الخبر السابق كما جاء في رواية أبي عبيد، وكما أوردها ابن القيّم، في الموضع نفسه. وكذلك عند البيهقي في السنن الكبرى برقم (20838)، بألفاظ أخرى لاتغيّر المعنى. وإسناده صحيح، كما قال الحافظ ابن حَجر، في فتح الباري، ج13 ص342، ط دار المعرفة- بيروت (1379هـ)
(9) أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (1618). وانظر: مجمع الزوائد ج 1 ص 178، ط 3، دار الكتاب العربي.
(10) المصدر السابق، المكان نفسه. وانظر إعلام الموقعين، لابن قيّم الجوزية، ج1 ص 65، وهذا الخبر مشهور في كثير من المصادر عن علي أيضاً.