كانت الحلقة السابقة لبيان مشروعية الاجتهاد الجماعي من السنة النبوية ومن سيرة الخلفاء الراشدين.
وهذه الحلقة لبيان مدى صلة مفهوم الاجتهاد الجماعي بمفهوم الإجماع عند الأصوليين، وما يترتب على البعد والقرب بينهما. لو طالعت أيَّ كتاب من كتب أصول الفقه الجامعة، من لدن رسالة الإمام الشافعي إلى آخر كتاب أُلِّف في عصرنا، لوجدت فيه بحثاً لقضية "إجماع الفقهاء"، باقتضاب أو إطناب، بحسب حجم الكتاب.
بينما لا تجد كلاماً، مطولاً أو مختصراً، عن الاجتهاد الجماعي، قبل قرن من الزمان! وإنما الكلام فيه وبحثه شأن معاصر؛ بدأ منذ حوالي قرن، وازداد عَقداً بعد عقد، إلى أن كثُر واتسع في العقود الثلاثة الأخيرة، وأصبح له مؤسسات كثيرة تقوم به، كما سوف يأتي في حلقات قادمة.
والسؤال الآن: ما مدى التوافق والانطباق، والاختلاف والافتراق، بين مفهومَيْ كلٍّ منهما؟
وبعبارة أخرى: هل الاجتهاد الجماعي هو عين الإجماع الأصولي أو هو مباين له تماماً، أو بينهما تشابه واختلاف؟.
وللموازنة بينهما ننطلق من التعريفين المختارين لهما:
أما الاجتهاد الجماعي فهو بأخصر تعريفاته وأجمعها: بذل فئة (جماعة) من الفقهاء جهودهم، في البحث والتشاور، لاستنباط حكم شرعي. وقد سبق في الحلقة الأولى ذكره وذكر التعريف الموسّع له، وتحديد قيوده وضوابطه.
وأما الإجماع فقد كثرت تعريفاته عند الأصوليين، ولكنها تكاد تتفق اتفاقاً تاماً في مفهومه، وقد اخترت له تعريفاً مستفاداً من جميعها، ويدل دلالة واضحة على مرادهم منه، وهو: اتفاق المجتهدين من المسلمين، في عصر من العصور، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي.
ومع استقرار هذا المفهوم للإجماع، في أذهان خاصّة المسلمين وعامّتهم، في القديم والحديث، حتى كان المصدرَ الثالثَ للتشريع الإسلامي، بعد القرآن الكريم والسنة النبوية، منذ عصر التابعين، في جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة، إلا أنّ الأصوليين اختلفوا في معظم مسائله، حتى أمكن القول: إنه لا إجماع في أكثر مسائل الإجماع.
فنجدهم –بعد أنِ اتفقوا على مفهومه، وأنه حجة قاطعة إذا تحقق المفهوم الكامل له- اختلفوا في كل شيءٍ بعد ذلك؛ في أنواعه، وفي حجية كل نوع، وفي شروط تحققه، بل أكثر من ذلك، فقد اختلفوا في حصوله ووقوعه فعلاً، وهذا هو بيت القصيد هنا، ومنطلق الربط بينه وبين الاجتهاد الجماعي.
ومن أجل الوصول إلى المقارنة الدقيقة، ثم المقاربة، بين الإجماع وبين الاجتهاد الجماعي، لا بد من بيان موجز لأنواع الإجماع.
فهو بالنظر إلى تمام ركنه وكمال شروطه، ينقسم إلى إجماع تام وإجماع ناقص، وبالنظر إلى تصريح جميع المجتهدين بأقوالهم، أو تصريح بعضهم وسكوت الباقين، ينقسم إلى صريح وسكوتي.
وباعتبار قوة حُجّيته ودلالته، ينقسم إلى إجماع قطعيّ وإجماع ظنيّ.
أولاً – الإجماع التام والإجماع الناقص:
التــــام: هو ما تحقق ركنه تاماً، وهو اتفاق جميع المجتهدين في العصر الواحد، دون استثناء، مع تحقق سائر شروطه، سواء في المجتهدين أو في المسألة محل الإجماع، أو عصر الإجماع، وغير ذلك.
والناقص: وهو ما لم يكتمل فيه ركن الإجماع، بأن اتفق أكثر المجتهدين وخالف الأقل. أو اختل فيه شرط من شروطه المعتبرة.
وعليه، فالإجماع التام هو الكامل في ركنه وشروطه، ويكون قطعياً في دلالته، وهو المراد عند الإطلاق. والناقص هو ما يطلق عليه إجماعاً تساهلاً أو تجاوزاً، ويكون ظنيَّ الدلالة، وينطبق على سائر أنواع الإجماع المختلف فيها، كاتفاق الشيخين (أبي بكر وعمر)، واتفاق العترة، وإجماع أهل المدينة، واتفاق المذاهب الأربعة، وغيرها.
ثانياً – الإجماع الصريح والإجماع السكوتي:
الصريح (أو التصريحي): هو الإجماع الذي يتم بتصريح كلِّ مجتهد برأيه في المسألة المعروضة، مع اتفاق جميع الآراء على حكم واحد. وهذا لا خلاف في حجيته.
والسكوتي: ما يتم بإعلان بعض المجتهدين – قلّوا أو كثروا- رأيَهم المتفق عليه في حكم المسألة، وسكوت بقية المجتهدين، دون إظهار الموافقة أو المخالفة.
وهذا النوع اختلف الأصوليون في حجيته اختلافاً شديداً، بلغت الأقوال فيها اثني عشر قولاً(1)، والراجح أنه حجة وإجماع، بشروط ذكرها العلماء في مظانّها، وهو قول الجمهور، وهم الحنفية وأكثر الشافعية(2)، والراجح عند الإمام أحمد(3).
ثالثاً – الإجماع القطعي والإجماع الظني:
القطعي: هو ما ينطبق عليه المفهوم الكامل للإجماع.
والظني: هو ما اختل فيه شرط من شروطه المعتبرة.
وقطعيّة الإجماع أو ظنيّته تُبحث من ناحيتين؛ ناحية الثبوت، وناحية الدلالة.
قال ابن قُدامة –رحمه الله- : « الإجماع ينقسم إلى مقطوع ومظنون. فالمقطوع ما وجد فيه الاتفاق مع الشروط التي لا تختلف فيه مع وجودها، ونقله أهل التواتر. والمظنون ما اختلف فيه أحد القيدين؛ بأن توجد شروطه مع الاختلاف فيه، كالاتفاق في بعض العصر، وإجماع التابعين على أحد قَوْلَي الصحابة، أو يوجد القولُ من البعض والسكوت من الباقين، أو توجد شروطه ولكن ينقله الآحاد»(4).
وبهذا البيان الموجز لأهم وأشهر أنواع الإجماع تسهل المقارنة بين الإجماع وبين الاجتهاد الجماعي، من خلال إبراز أهم الفروق بينهما:
1- الإجماع الأصولي، ركنُه اتفاق جميع المجتهدين، ويتحقق به القطع ويصبح حجة ملزمة للأمة. أما الاجتهاد الجماعي فيكفي فيه اتفاق فئة من المجتهدين، فلا يتحقق فيه القطع بالحكم، ولا يكون حجة ملزمة للأمة.
2- الإجماع الأصولي لا يتعدد في الموضوع الواحد في العصر الواحد، والاجتهاد الجماعي قد يتعدد.
3- الإجماع ملزم للأمة بذاته، والاجتهاد الجماعي لا يكون ملزماً إلا بإلزام من ولي الأمر.
4- الإجماع الأصولي عامّ في الزمان والمكان، إلا ما كان مستنده المصلحة المتغيرة، والاجتهاد الجماعي ليس عاماً في الزمان والمكان، في الغالب.
5- منكر الإجماع القطعي كافر أو فاسق، بحسب حاله في الإنكار. ومنكر الاجتهاد الجماعي ليس كذلك.
وأكثر هذه الفروق مختصر مما كتبه الأستاذ الدكتور محمد كمال الدين إمام، في بحثه القيّم (إعداد الممارسين للاجتهاد الجماعي)(5). وقد وافقته عليها، وأثبتها في أطروحتي.
وهناك فروق أخرى، تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، لا داعي لذكرها هنا.
إنّ الفروق الجوهرية بينهما، تجعلنا نجزم بأنهما مفترقان، وليسا متطابقين من حيث المفهوم.
وهذه وجوه الاختلاف والافتراق بين المفهومين الكاملين لكلٍّ منهما. ولكن أليس بالإمكان المقاربة بين الاجتهاد الجماعي وبين بعض أنواع الإجماع المختلف فيها ؟
بلى، إنّ للاجتهاد الجماعي شبهاً واضحاً بواحد أو أكثر من أنواع الإجماع المختلف فيها:
يرى كثير من العلماء المعاصرين، ومنهم الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي وأستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي، أنّ الاجتهاد الجماعي هو ما يُسمّى إجماع الأغلبية أو الأكثرية، وهو من الأنواع المختلف فيها.
هذا صحيح، ولكن الاجتهاد الجماعي ينطبق على اتفاق الأغلبية من المجتهدين في العصر الواحد، كما ينطبق على ما هو دون ذلك بدرجات؛ لأنّ أيّ اجتهاد يتم بالبحث والتشاور بين ثلاثة من المجتهدين، فصاعداً، هو اجتهاد جماعي معتبر، ولكنه يقوى كلما كثر عدد المجتهدين حتى يشمل أغلبية فقهاء الأمة في عصر من العصور.
وعليه، فإني رجّحت، في أطروحتي، أنّ الاجتهاد الجماعي أكثر ما يكون شبهاً بالإجماع السكوتي؛ لأنه لا يُشترط فيه أن يكون المتفقون المصرّحون بالحكم أكثرية الفقهاء، بل يكفي أن يعلن بعض المجتهدين رأيهم –قلوا أو كثروا- ويسكت الباقون، دون إظهار الموافقة أو المخالفة، كما رأينا.
والإجماع السكوتي له شروط كثيرة لاعتباره؛ منها: 1- أن تكون المسألة المعروضة للبحث من مسائل التكليف. 2- أن يُعلم أنّ قول القائلين بالحكم قد بلغ أهل العصر. 3- مُضي زمن يسع قدر مهلة للنظر بالنسبة للساكتين.
ومع هذا فإنه يبقى حجة ظنية في عصر وقوعه. فإذا انقرض عصر المجتهدين المجمعين أصبح حجة قاطعة، وهذا رأي فريق من الأصوليين، أكثرهم من الشافعية، وقيل: إنه المذهب عندهم(6)، وهو رواية عن الإمام أحمد(7).
وبهذه المقاربة بين الاجتهاد الجماعي وبين الإجماع السكوتي أختم هذه الحلقة.
والخلاصة: إنّ الإجماع بمعناه الأصولي المشهور حجة قاطعة، وقد وقع فعلاً، ولا سيما في عصر الصحابة والتابعين، وأُلّفت كتب في المسائل التي تم الإجماع فيها، مع الاختلاف في بعضها. وهو حاصل بلا شك في كلّ ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلوات الخمس، وأن الصبح ركعتان، والظهر أربع، 00، ووجوب صوم شهر رمضان خاصة، ووجوب الحج وأنه مرة واحدة في العمر، ونحو ذلك، وكذلك الإجماع على حرمة الزنى والربا وعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم، وأمثالها. وهذا هو الحد الأدنى لما اتفقت عليه جميع المذاهب الإسلامية. وهو مجال واسع يشمل جميع الأصول في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. وكفى به مرتكزاً للوحدة الفكرية للأمة الإسلامية.
والاجتهاد الجماعي ليس إجماعاً بالمعنى الأصولي، ويبقى حجة ظنيّة، ولكنها راجحة، وأقرب إلى الصواب من أي اجتهاد فردي، ولذلك كان هو الأسلوب المفضّل عند جميع العلماء في عصرنا، وهو سبيل إلى الوصول إلى الإجماع في بعض الحالات. والله أعلم.
----------------------------------------------------------------
هوامش:
(1) انظر الأقوال مفصلة في البحر المحيط، للزركشي 4/ 494- 502، ط 1 ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت.
(2) انظر: البحر المحيط، (4/495-497)، والتقرير والتحبير، لابن أمير الحاج،(3/102)، ط2 دار الكتب العلمية، والإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، (3/192)، ط 1، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
(3) انظر: روضة الناظر وجُنّة المُناظر، لابن قُدامة المقدسي، ص 135، ط 3، دار الكتاب العربي- بيروت.
(4) روضة الناظر، ص 132.
(5) بحث مقدم لندوة الإمارات حول الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي، في ديسمبر / 1996م.
(6) انظر التفصيل في البحر المحيط، للزركشي (4/498-499)، والتقرير والتحبير، لابن أمير الحاج،(3/102)، ط2 دار الكتب العلمية، والإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، (3/192)، ط 1، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
(7) إضافة للمراجع السابقة، انظر: روضة الناظر، لابن قدامة الحنبلي، ص132.