كتبت في الحلقة السابقة – التي مضى على نشرها ما يزيد عن شهرين – عن خطورة إشاعة الأقوال المثبّطة للعزائم، المثيرة للخوف بين الناس، وعن محاربة الإسلام لها، من خلال الحديث الشريف: (مَن قال: هلك الناس، فهو أهلكَُهم ).
واليوم أكتب عن تحذير الإسلام من أمور نفسية وجسمية واجتماعية تعرض للإنسان، فتجعله عنصراً ضعيفاً، أو منهزماً أمام واجباته وأمام المجتمع والحياة الطَّبَعيّة فيه؛ من خلال شرح موجز لأحد أدعية رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – التي أرشدنا إلى الإكثار منها، وأن ندعو بها في الصباح والمساء.
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا أُمَامَةَ، مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ ؟ قَالَ : هُمُومٌ لَزِمَتْنِي ، وَدُيُونٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟ قَالَ : قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ : قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ. قَالَ : فَفَعَلْتُ ذَلِكَ ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي. [أخرجه أبو داود برقم (1555) (*1)
إنّ لأدعية الرسول –صلى الله عليه وسلم- أسراراً، لا يدركها إلا من يتأمّلها، وقد لا يدركها كلّها.
وقد تأمّلت هذا الدعاء ، الذي اشتمل على أربعة تعوّذات، يقرن في كل واحد منها بين أمرين مكروهين أو خطيرين في حياة الإنسان؛ فلاحت لي بعض أسراره ، فكان منها ما يأتي:
1- الهمّ والحَزَن :
أما الهمّ فهو القلق لأمر مكروه، يُتَوقّع حصوله. [والغمّ يكون بعد وقوعه].
وأما الحَزَن فهو خشونة في النفس، لما يحصل فيه من الغم، ويُضادُّه الفرح. قال تعالى : ((وقالوا الحمدُ للهِ الذي أَذْهبَ عنَّا الحَزَن)) [فاطر / 34) (*2).
فإذا تأمّلنا ما بينهما من رابطة وجدنا شمولهما ما قبل وقوع المكروه وحال وقوعه وما بعده.
وعليه، يأتي التّعوّذ منهما تحصيناً من آثارهما المحطّمة لنفس المرء، لو اجتمعا عليه، ودام تأثيرهما دون انقطاع. فنعوذ بالله –عز وجلّ- من الهمّ والحزن.
2 - أما العجز والكسل فالروابط بينهما ظاهرة؛ إذ العجز يؤدي إلى الكسل، وكذلك العكس، ومثال ذلك : الطالب يعجِز عن فهم الدرس فيؤدي به إلى الكسل عن حلّ أسئلته ومسائله. وكسله وخموله يقودانه يوماً بعد يوم باتجاه العجز، وإن لم يكن كذلك في بداية أمره في العلم والدرس، وهكذا سائر أمور الحياة.
وأكثر ما يسوءُ المرءَ أن يكون مُدرِكاً لما يجب عليه القيام به في الحال ليصل إلى مطلوبه وهدفه، ولكنه يجد نفسه مُكبّلا ً بالقيود المختلفة، المادية والمعنوية والنفسية، وقد لا تكون قيوداً في حقيقتها، ولكنه يتوهمها هكذا، في بعض الأحيان، فيكسل عن العمل، ثم يعجِز ويقصِّر عن بلوغ المأمول.
فيكون الالتجاء إلى الله عز وجل، الذي بيده مقاليد السموات والأرض، ليريح النفس المؤمنة الملتجئة إليه سبحانه، ويطرد عنها الكسل، ويبعث فيها الأمل بحصول المأمول، فتتحرر من بعض قيودها.
ويتكرر هذا الأمر بتكرر الدعاء، بشرط أن تباشر الأسباب؛ لأنها من قدر الله وليست خارجة عنه.
عَنْ أَبِي خِزَامَةَ –رضي الله عنه- قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا وَتُقًى نَتَّقِيهَا ، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ قَالَ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ.
3- وأما الجبن والبخل، فقد يبدو أن ليس بينهما رابط أو قناة، ولكن لو تفكرت في حقيقة كل منها لتبدّى لك ما كان خافياً.
أليس حقيقة كل منها انكماشاً وانكفاءً؛ الأول انكفاء في داخل النفس وانطواء، يجعلها عاجزة عن المواجهة في حرب السِّنان أو حرب اللسان، والثاني انكماش عن البذل فيما يجب فيه البذل.
فكلا الشأنين انقباض في موضع البسط ، وعجز عن تحقيق الهدف.
واللجوء إلى الله العزيز الحميد يقيك من آثارهما السيئة، المدمرة أحياناً.
4 - وقد يسأل سائل: وأي صلة بين غلبة الدين وبين قهر الرجال؟
والجواب: إنّ الديون إذا تكاثرت على المرء أضعفته وأذلته، وقديماً قيل: الدَّين همُّ بالليل وذلُّ بالنهار، وكذلك الرجال الأشرار إذا اتفقوا على الرجل الهيِّن الليِّن المسالم قهروه وأذلوه، فأيُّ حال أسوأ من عيش المقهور الذليل.
فالَّلجْأ الدائم إلى الله الغني القهَّار يحمي المؤمن من الذل والقهر.
5 - وهل بين الأحوال المُزْرية الثماني (الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال) من نظام ينْظِمُها ، أو جامع يجمعها ؟) (*4) .
أجل، إنها أحوال مَرَضيّة ما ينبغي أن تدوم على مؤمن، وإنْ كان يمكنها أن تعرض له أحياناً، فعليه أن يسعى للخلاص منها ما أمكن.
6 - ومن أسرار هذا الدعاء أن يوقن المؤمن، ويعلم غير المؤمن، أنَّ دين الله –وهو الإسلام- يحث على اكتساب القوة المادية والمعنوية، وعلى العمل والإنتاج، وعلى الإقدام والبذل، وأن المؤمن القويَّ خير من المؤمن الضعيف، وأنّ اليد العليا (المنفقة) خير من اليد السفلى (السائلة).
فأكثرْْ من هذا الدعاء، في الصباح والمساء، والله يوفقك إلى العلياء.
--------------------------------------
الهوامش:
(*1) وردت روايات عدة للحديث الشريف، عند البخاري وغيره، دون ذكر لسبب الورود، وهو ما حدث مع أبي أمامة؛ منها هذه الرواية: عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَلْحَةَ : الْتَمِسْ لَنَا غُلامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ. [البخاري برقم (6002)]. وضَلَع الدَّين : ثقله وغلبته. ومنها رواية النَّسائي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ : كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَوَاتٌ لا يَدَعُهُنَّ؛ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ. [برقم (5449)]
(*2) انظر (مفردات ألفاظ القرآن) ، للراغب الأصفهاني، ص231، ط 1 ، دار القلم – دمشق.
(*3) أخرجه ابن ماجه في سننه برقم (3437) ، وانظر سنن الترمذي حديث رقم (2065)، ففيه رواية أخرى مقاربة.
( *4) وقد جاءت متصلة في تعوّذ واحد، كما في بعض الروايات، راجع الحاشية رقم (1).