المقدمة:
البلاغة مأخوذة من (بَلَغ - يبلُغ– بُلوغاً)، أي وصل إلى ما يريد ، مكاناً أو زماناً أو أمراً من الأمور.
وتُعرّف –عند علماء اللغة- بتعريفات عدة، كلها متقاربة، وأشهرها: أنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال التي قيل فيها.
وقد عني أهل اللغة والأدب، قديماً وحديثاً، بشأن البلاغة والبلغاء، وأخذت جانباً مهماً من الدراسات، وصارت علماً يشتمل على علوم ثلاثة؛ المعاني والبيان والبديع، منذ عهد إمام البلاغة العربية؛ العلامة عبد القاهر الجُرْجاني.
وسيد الفصحاء والبلغاء من البشر هو محمد بن عبد الله، رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي آتاه ربه سبحانه وتعالى جوامعَ الكَلِم، وكان أفصح العرب وأبلغهم، بلا ريب. وإنّ الكلام البليغ لذو تأثير عظيم على القلوب الواعية، قد يصل إلى حدّ السحر به.
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إنّ من البيان لَسحراً(.
    وكم نطرب لسماع الخطب البليغة القوية، وإلى القصائد البليغة المُنَمّقة.

    هذا كله في بلاغة الأقوال، فماذا عن بلاغة الأعمال ؟!


المراد ببلاغة الأعمال:
إذا كان المقصود من بلاغة الأقوال مطابقة الكلام لما سيق من أجله من معانٍ، بحيث لا يقصر عن المطلوب ولا يزيد عليه، في الحال التي تناسب الكلام أو تستدعيه؛ فإنّ بلاغة الأعمال لا تبتعد عنه كثيراً في الدلالة، وإن كانت أبعد في التطبيق، في أكثر الأحوال.

    وإليك –أخي القارئ- هذه الأمثلة الواقعية الحياتية ، لنصل معاً إلى تحديد المراد بـ(بلاغة الأعمال)، التي أراها أهم وأولى بالعناية من البلاغة الكلامية؛ لأن الأفعال هي التي تبني وتشيد، ويراها الناس على جميع مستوياتهم، أما الأقوال البليغة فلا يدركها إلا ذوو مستوى معين من الثقافة.

1-    هل أخذت –يوماً- قطعة قماش، متينة الحبك جميلة اللون، إلى خياط ماهر، فأخذ قياسات جسمك بدقة تامة، ثم خاط لك بزة للظهور بها بين الناس، في المناسبات السعيدة ونحوها؛ فجاءت الخياطة على نحو ما تُحب وترغب، فصرت تزهو بها بين أقرانك وأمام جيرانك،  وصرت تلبسها في أكثر أحيانك، حتى إنك لترغب أن تنام فيها ؟

    هل حدث معك مثل هذا؟ إن لم يكن قد حصل معك، فقد رأيت هذه الحال من غيرك، مرات ومرات.
    إنّ ما فعله الخياط الماهر هو بلاغة في العمل؛ لأنه قام بالعمل المطلوب، على وَفق الحال المطلوبة، فأتقن عمله أيما إتقان.

2-    هل كانت لديك قطعة أرض في موقع حسن، وأردت أن تبنيَ عليها (بناءَ العُمُر) –كما يُقال- فذهبت إلى مهندس خبير، ليضع لك مخططاً يناسبها ويناسبك، فوضع لك المخطط المراد في وقت قصير وبأجر يسير، فجاء على نحو ما ترغب وتُحب؟

    ثم دفعت بالمخطط الرائع إلى مُقاولٍ أمين – أو شركة مقاولات- فحدد لك التكلفة ومدة الإنجاز، وتم الاتفاق بينكما، ثم باشر العمل من الغد، وأقام البناء على خير ما يُرام، كما ترسمه الأحلام ؟  إن كان قد حدث لك مثل هذا الشأن فهو المطلوب، وإن لم يحدث، فلا بُدّ من أنك رأيته أو علمته من غيرك، من جار أو صديق أو قريب.

    إنّ ما قام به المهندس الخبير من إتقان تصميم المخطط، هو من بلاغة العمل.

    وإنّ ما نفذه المقاول الأمين –بوساطة حرفيّيه وفنّيّيه وعمّاله المُجيدين- هو من بلاغة الأعمال أيضاً .

    3- هل راقبت والدتك أو زوجتك أو أختك ، وهي تُعِدُّ لك طعاماً لذيذاً، تشتهيه نفسك، فرأيتها كيف هيّأت أمامها وبجانبها كلَّ ما يلزمها للطبخ، من موادَّ وأدوات، وسارت في عملها بخطوات متتابعة متقنة، كأنها تركّب قِطَع آلة عصرية ، حتى نضج الطعام في الوقت المناسب، يسُرُّ الناظرين، ويطيب للآكلين؛ فأكلت كفايتك، وحمدتَ ربك على ما أنعم عليك ؟
    لا شك أنّ هذا الأمر قد وقع لك مرات ومرات.

    إنّ ما قامت به هذه المرأة – ومثله ما يقوم به محترف الطبخ، كما نشاهده في برامج تعليم الطبخ على الشاشات- هو من بلاغة العمل، التي يتمنّى كل منّا أن يصنعها أو تُصنع له.

    هذه أمثلة قليلة من الأعمال التي يُطلب فيها الإتقان، فيقوم به كثيرون، ويُهمله الأكثرون، و " إنّا لله وإنّا إليه راجعون".
    هذه نماذج أردت بها تقريب معنى (بلاغة الأعمال) الذي أقصده، وأرغب بتقريره.    
    وفي الحياة أمثلة عليه لا تُحصى، ولكنها دوماً أقلُّ مما يُبتغى.


المسلمون وبلاغة الأعمال:
    أما المسلمون الأوّلون، وهم الرسول الكريم وصحبه الكرام، والتابعون لهم بإحسان، في القرون الأولى؛ فهم أصحاب البلاغة القولية والعملية، وربما كانت عندهم بلاغة الأعمال أقوى وأوضح، والدليل على هذا ما حقّقوه وأنجزوه في فترة وجيزة، من ترسيخ العقيدة الصحيحة في النفوس، والقيام بالعبادة بخشوع وإتقان، وأداء المعاملات على أحسن ما يُطلب، كما أنشأوا العلوم إنشاء، وفتقوها تفتيقاً، وجاهدوا في الله حق الجهاد، ففتحوا البلاد، ونشروا فيها الهدى والرشاد.

    وأتقنوا فنون العمارة والزراعة والصناعة، حتى غدت حضارتنا خير حضارة إنسانية، في تاريخ البشرية.
    وهذا لا يعني أبداً أنهم كانوا جميعاً على أفضل حال في الإتقان، في كل مجال، ولكن هذا الغالب من أحوالهم.

     وأما المسلمون في العصور المتأخرة، وفي عصرنا الحاضر، فهم على العكس مما سبق؛ يكثُرُ فيهم بلغاء الأقوال ويقل بلغاء الأعمال. ولو تساوت عندهم البلاغتان لكانوا الآن في أفضل حال.

    فأين بلاغة العلم عند علمائهم، وأين بلاغة البحث العلميّ، وأين بلاغة الزراعة عند الزرّاع منهم، وأين بلاغة الصناعة عند الصنّاع فيهم، وأين بلاغة التعليم عند المعلمين ؟ وأين ؟ وأين ؟
 
    أين الإتقان الذي يُحبه الله تعالى في العمل ؟ كما جاء في الحديث الشريف : ) إنّ الله يُحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه (.
    وأين الإحسان الذي فرضه الله تعالى في كلّ شيء، حتى في القتل والذبح؛ كما نصّ على ذلك الحديث النبوي الشريف: )إنّ الله كتب الإحسان على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلةَ وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبحَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرتَه ، فلْيُرِحْ ذبيحتَه (.

    وأين الإحسان في العبادة ، كما فسّره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنْ لم تكن تراه ، فإنه يراك (.

    وإذا أخذنا العبادة هنا بمعناها العام – وهو كل قول أو عمل مشروع، يُبتغى به وجه الله عز وجل أو يُطلب فيه رضاه- عندئذٍ يكون الإتقان في العبادة إتقاناً لكل ما يقوم به المسلم من أنشطة الحياة اليومية، من تجارة وزراعة وصنعة ووظيفة، حتى الأكل والشرب والنوم.

    ومما يؤسف له ويبعث على الأسى، أنّ معاني الإتقان والإحسان قد غابت عن معظم المسلمين ، في هذا الزمان.
    ومما يحُزُّ في النفس ، أن نجد غير المسلمين –في الغالب- أكثر إتقاناً لأعمالهم وصنائعهم.

    فلا أدري، هل هذا نوع من المسخ الذي يُلحقه الله بأمة الإسلام، حينما تتنكّب طريق الهدى الذي رضيه لها، وتبتعد عن الصراط المستقيم الذي أمرها الله باتباعه ، كما قال سبحانه :  ]وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ [الأنعام / 153].


* لماذا بلاغة الأعمال ( الإتقان، الإحسان، الجَودة ) أولى وأهمّ ؟
    لأنّ الله تعالى أتقن كلَّ شيء، وهو من أفعال الكمال له سبحانه. ألم يقل : ] وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب ِصُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [ [النمل/ 88].

    ولأن الله سبحانه وتعالى أمر بالإحسان، وهو يحبه ويحب أهله : ] ... وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [ [البقرة / 195]
    ولأنه سبحانه يُكافئ المحسنين بالأجر الجزيل ويرحمهم : ] لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ [يونس/ 26].

] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [ [النحل / 30]. ] إِنَّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [ [الأعراف / 56].

    ولأن الله تعالى يكون مع المحسنين دوماً ويسددهم : ] إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [ [النحل / 128].
    وهذا لا يُعارض ورود الإحسان في كثير من الآيات بمعنى التصدّق والبر والإكرام، كالإحسان إلى الوالدين وإلى الجار وإلى ذوي القربى واليتامى والمساكين؛ لأن هذه الأفعال لا تصدر-غالباً- إلا ممن أحسن العمل بمعنى الإتقان . والله أعلم.
    اللهمّ اجعلني وإخواني المؤمنين من المحسنين.
    وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العامين.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية