يحمل الأزواج أحاديث كالسياط يجلدون بها ضعف الزوجة، ويستدرجونها إلى ما يريدون لتكون طيعة، هينة لينة بين أيدهم. كلما تململت ذكَّروها بحديثٍ يُحَمِّلُها مسؤولية هذا التململ، ويخوفونها عذاب الله ـ عزَّ وَجَلَّ ـ وسخطه ، ولعنة الملائكة، وعدم قبول الصلاة، ومن ذلك:
حديث أبي هريرة ، عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله سلّم ـ أنه قال : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت ، فبات غضبانَ عليها ، لعنتها الملائكةُ حتى تُصبِحَ)) . وفي رواية : ((إذا باتت المرأةُ مهاجرةً فراشَ زوجِها لعنتْها الملائكةُ حتى تَرجِعَ))، متفق عليه .
وقريب من هذا قوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : ((ثلاثةٌ لا تُرفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا : ... وامرأةٌ باتت وزوجها عليها ساخط)) . الحديث رُوِيَ عن أكثر من صحابي
، وكلُّ الأسانيد فيها مقال ، لكن يبدو أن للحديث أصلاً .
ومثلهما حديث طَلْق بن عليٍّ ، أن الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال : ((إذا الرجل دعا زوجته لحاجته فلتأته ، وإن كانت على التنور)) . الحديث في سنده مقال ، لكن
حسنَّه بعض المحدثين . والحديث الأول يشهد له .
وقوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : ((ما ينبغي لأحدٍ أن يسجد لأحد ، ولو كان أحد ينبغي له أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، لما عظّم الله عليها من حقِّه))
. الحديث صححه الألباني ، وفي النفس من هذا التصحيح شيءٌ ، ليس المقام مقام بيانه .
وقوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : ((أيُّما امرأةٍ سألتْ زوجَها طلاقَها من غير بأسٍ ، فحرامٌ عليها رائحةُ الجنَّة)) . والحديث حسن ، أو صحيح.
أنا لست ممن يدعو إلى تمرد المرأة على زوجها ، فالسعادة كلَّ السعادة في التوافق ، واحترام كلٍّ من الزوجين الآخر ، وتحقيق كلٍّ منهما رغبة صاحبه، ومن المعلوم أنَّ من أكبر نعم الله ـ عزَّ وَجَلَّ ـ على الرجل أن يرزق زوجة صالحة تطيعه إذا أمرها، هينة لينة، تستقبل زوجها إذا قدم ببسمة، وتهدهده من مشاق الحياة بمداعبة، وتودعه بقبلة، وتستقبله بأخرى، وهو يبادلها الحب بالحب، والأنس بالأنس.
ولقد عبّر القرآن الكريم عن الرابطة الزوجية ، تعبيراً يرقى بهذه الرابطة إلى مستوى عالٍ جداً ، فقال ـ تعالى ـ : {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ ، وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}. فكل واحدٍ من الزوجين لباسٌ للآخر ، ومن المعروف أن اللباسَ : زينةٌ ، وجمالٌ ، وحمايةٌ ، ودِفءٌ ، وسَترٌ.
لكني قديماً توقفت كثيراً عند هذه الأحاديث التي تطالب الزوجة بحق الزوج ، وتهدد الزوجة التي تسخط زوجها باللعنة ، وعدم قبول الصلاة و... و... .
وكنت أقول: لماذا لا تلعن الملائكة الرجل الذي أرادته زوجته إلى الفراش فأبى؟ مع أن المرأة عندها ما عند الرجل من الرغبة في الفراش؟؟
وهل الرجل الذي أرادته زوجته إلى الفراش فأبى ، فباتت ساخطة عليه لا تقبل صلاته ؛ لأنَّ من حِكَم مشروعية عقد النكاح إحصانُ الرجلِ والمرأة ؟؟
ولماذا حرامٌ على المرأة أن تطلبَ ـ مجرد طلب ـ الطلاقَ من زوجِها ، وحلالٌ على الرجل أن يُطَلِّقَ زوجتَه دون سببٍ ، وأكثر ما ورد من تهديدٍ للرجل الذي يطلق حديث : ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق)) [وهو حديث ليس بصحيح] ، مع أنَّ الأذى الذي يلحق بالمرأة بالطلاق أشد من الأذى الذي يلحق بالرجل؟
فالأذى الذي يلحق بالرجل ماديٌّ ، والمعنويُ قليلٌ، ومن السهل عليه أن يعوض هذه الزوجة بزوجة أخرى ، بينما أذى المرأةِ المطلقةِ : قدحٌ في السمعة ، وتضييقٌ في الحركة ، وإسلامٌ إلى المجهول . واحتمالات التعويض لديها أقلُّ من الرجل بكثير .
مصدر هذه الأسئلة
ومصدرُ هذه الأسئلة ـ من وجهة نظري ـ خطأٌ في فهم النصوص، وعدمُ وضعها في سياقه الحقيقي، دأبْتُ عليه أيَّامَ الصِّغَر اتباعاً لما دَأَبَ عليه أكثرُ علماء المسلمين إن لم يكن جميعُهم .
ورغم أن العلماء ـ رحمهم الله ـ ينبهون إلى أنَّ النصوص الشرعية عامة في الرجال والنساء إلا أنهم حين يأتون إلى نصوص كهذه تخاطب النساء يخصونها بالنساء .
يقول ابن العربي في أحكام القرآن (3/1367) تعليقا على قوله ـ تعالى ـ : {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} يقول :
”قولٌ عامٌّ يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين حسب كل خطاب عام في القرآن ـ على ما بيناه في أصول الفقه ـ إلا أن الله ـ تعالى ـ قد يخص الإناث بالخطاب على طريق التأكيد“
. وقد ذكر ابن رشد الحفيد في البداية (1/172) حديث سمرة بن جندب: أنه قال : ((صليتُ خلفَ رسولِ الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ على أمِّ كعبٍ ، ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ على وسطها)) . قال ابنُ رشد: ”فمنهم من أخذ بحديث سَمُرةَ بنِ جندبٍ للاتفاق على صحته ، فقال: المرأةُ والرجلُ في ذلك سواءٌ ؛ لأن الأصل أن حكمَهما واحدٌ ، إلاّ أن يثبت في ذلك فارقٌ شرعيٌّ“,
ويقول ابن القيم في أعلام الموقعين (1/92) : ”قد استقرَّ في عرف الشارع أن الأحكامَ المذكورةَ صيغة المذكرين ، إذا أطلقت ، ولم تقترن بالمؤنث ـ فإنها تتناولُ الرجالَ والنساءَ“.
وهنا نتساءل : إذا كان الأمر هكذا فلماذا خصصت تلك الأحاديث بالنساء؟ فإني لم أجد واحداً من العلماء ـ فيما رأيت من مصادر قديمة أو حديثة ـ ذكر أن الأحاديث المتقدمة التي تخاطب النساء هي ـ في الوقت نفسه ـ خطاب للرجال ، بل كل ما اطلعت عليه هو التوجه بهذه الخطابات إلى النساء ، فقط!!!!
ألم يقل الله ـ عزَّ وَجَلَّ ـ : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ؟
هل تحمل هذه الدرجة التي ذكرها القرآن كلَّ هذه الامتيازات للرجل؟ إذا رجعنا إلى كتب التفسير نجد أنّ العلماء اختلفوا في تفسيرها على أقوال كثيرة ، لعل أقربها ـ فيما يبدو ـ : الطاعةُ ، أو القوامةُ ، أو أداءُ حقِّها عليه ، وصفحُهُ عن بعض الواجبِ له ، أو عن كلِّه ، يقول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (ما أحبُّ أن أسْتَنْظِفَ جميعَ حقّي عليها ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ يقول : {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}) . وأولى هذه الثلاثة ـ فيما يبدو ـ القوامة ، والطاعة داخلة فيها .
أعتقد أنَّ الفهم الصحيح لهذه الخطابات الشرعية ونحوها : أن نفهمها على أنها موجهة إلى الرجل ، كما هي موجهة للمرأة .
فالدين جاء لبني آدمَ رجالِهِم ونسائِهِم ، وما جاء بصيغة المذكر هو خطابٌ للذكور والإناث ، وكذا ما جاء للإناث هو خطاب للذكور والإناث ، إلاَّ ما هو من خصائص الجنس ، كالعدة ، والحيض ، والحمل . ”أو إلاّ أن يثبت في ذلك فارقٌ شرعيٌّ“ . كما يقول ابن رشد .
فحينما يقول الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.[المائدة: من الآية105] فهو خطاب للمؤمنين والمؤمنات ، وإن جاء بلفظ المذكر .
وحين يقول الله ـ عَزَّ وجلَّ ـ : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ : إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . [الأنفال:2] فهو خطاب للمؤمنين والمؤمنات ، وإن جاء بلفظ المذكر {الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ} .
وهكذا فالنصوص عامة للرجال والنساء ، سواء أجاءت موجهة إلى الرجال ، أم موجهة إلى النساء .
وكما أن الأحاديث التي تخاطب النساء هي خطاب للرجال ـ أيضاً ـ فالأحاديث التي تخاطب الرجال هي خطاب للنساء، أيضاً:
فحين نهى رسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ الرجلَ أن يَتَلَمَّسَ عثراتِِ زوجَتِهِ . [أخرجه مسلم] . فإنه نهيٌ للمرأة ـ أيضاً ـ أن تتلمس عثرات زوجها .
وحين دعا رسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ الشباب إلى الزواج فقال: ((يا معشرَ الشبابِ منِ اسْتطاع منكمُ الباءةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ؛ فإنَّه أغضُّ للبصرِ وأحصنُ للفرجِ ، ومن لم يستطع فعليه بالصومِ ؛ فإنه له وِِجَاءٌ)) . فإنَّ هذا الخطابَ دعوةٌ للشابة ، أيضاً .
وحين نبه رسولُ الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ الرجل إلى أنه لا ينبغي له أن يَكرهَ زوجته ، ويفارقها لخلق سيئ فيها ؛ لأنه إن كان منها خلقٌ سَيِّئٌ فلا شكَّ أنّ فيها أخلاقاً حسنةً غيره ، فقال ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ : ((لا يَفرُكْ مؤمنٌ مؤمنةً ، إن كَرِه منها خلقاً رضِيَ منها آخر)) . [أخرجه مسلم] . فهو
تنبيه للمرأة ـ أيضاً ـ أن لا تكره زوجها لخلق سيء فيه ، إن كرهت منه خلقا رضيت منه آخرَ.
وحين قال رسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ : ((إنّ مِنْ أشرِّ الناسِ عندَ الله منزلةً يومَ القيامةِ ، الرجلَ يُفضِي إلى امرأتِهِ ، وتُفضِي إليه ، ثُمّ ينشرُ سرَّها)) . [أخرجه مسلم] مُحَذِّراً الرجل أن يُفْشِيَ سرَّ لقائه زوجته في الفراش ، فهو متوجه بالتحذير إلى المرأة ـ أيضاً ـ أن تُفْشِيَ سرَّ زوجِها .
لكن ربما هناك سؤال هو : لماذا يأتي الخطاب موجهاً إلى أحد الجنسين ؟
الجواب : أنه قد يكون المقام الذي قيل فيه هذا الحديث ، أو ذاك ـ هو الذي اقتضى ذلك ، ونحن نعلم أنَّ النبي ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ يجيب السائل بما يتناسب مع حاله . لكن ـ مع الأسف ـ سبب ورود أكثر الأحاديث غير معلومة لنا .
فربما يكون هناك رجل شكا زوجته لرسول الله ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ أنها لا تستجيب له ، فقال : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت ، فبات غضبانَ عليها ، لعنتها الملائكةُ حتى تُصبِحَ)) . أو أنه ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ جرى على الغالب ، وهو أنه غالباً ما تكون المبادرة بالطلب ـ لأسباب متعددة ـ من الرجل ، فكان المناسب أن تكون الدعوة للمرأة أن تستجيب.
وربما جاءته ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ زوجة تطلب فراق زوجها ، دون أي مسوِّغٍ لهذا الطلب ، فقال لها : ((أيُّما امرأةٍ سألتْ زوجَها طلاقَها من غير بأسٍ...)) .
وربما شكا زوج زوجته بنشوزها عليه ، وعدم طاعتها له ـ لا سيما في مجتمع الأنصار الذي كان تغلب فيه نساؤُه رجالَه ، كما يقول عمر عن الأنصار ـ فقال ـ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ لتلك الزوجة : ((لو كان أحد ينبغي له أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها...)) .
وأخيراً ، إذا كان ما زعمتُهُ من عموم هذه النصوص صحيحاً :
فلماذا ـ إذن ـ نخاطب بتلك الأحاديث المتقدمة النساء ، ولا نخاطب بها الرجال ؟؟؟
لماذا نقود بتلك الأحاديث المرأة إلى الرجل ، بينما الرجل على عرشه ينتظرها أن تأتي رغبةً ، أو رهبةً ، ولا نقود بها الرجل إلى المرأة؟؟؟
هل ـ فعلاً ـ صدق علينا قول القائل بأن الفقه ذكوريٌّ ؟
هل كان هذا لخلو الساحة ـ مع الأسف ـ من نساء فقيهات ، يتكلَّمْنَ بلسان النساء ، وَيَفْهَمْنَ الأحاديث التي تتحدث عنهنَّ بأحاسيسَ تختلف عن أحاسيسِ الرجل ؟
وأخيراً ـ مرة أخرى ـ :
هل سنجرؤ على أن نقول : إن الرجل الذي يُطَلِّقَ زوجتَهُ من غير بأسٍ ، حرامٌ عليه رائحةُ الجنَّة ؟
وهل سنجرؤ على أن نقول : إن الرجل الذي تدعوه زوجته إلى الفراش ، ولا يستجيبُ لها ـ دون عذرٍ نفسيٍّ أو شرعيٍّ ـ فباتت غَضْبَى عليه ، لعنته الملائكةُ حتى يُصبِحَ ؟
لماذا لا تلعنُ الملائكةُ الرجالَ؟