مهما كتب الكاتبون عن الهجرة النبوية، واستنبط المستنبطون دروساً وعِبراً من أحداثها ووقائعها التفصيلية، ومقدماتها ونتائجها، فإنهم لن يفوها حقّها من التحليل والتعليل؛ لأنها حدث جليل، وهجرة متميّزة، اشتملت على وقائع كثيرة، ذات دلالات كبيرة، غيّرت بمجموعها مُجريات الأمور في زمانها، وحوّلت مسار تاريخ البشرية كلها حتى آخر الزمان.

ولا يستطيع الكاتب أن يزيد في مقال واحد على درس واحد من دروس الهجرة. وقد اخترت واحداً من عيون هذه الدروس، نحن –المسلمين- أحوج ما نكون إليه، من أجل نهضتنا وإعادة مجدنا؛ لأنه يحوّل مسار حياتنا الحالية المتردّية.   فما هو هذا الدرس العظيم؟.

إنه درس مستفاد بوضوح من الترتيبات الأمنية التي اتخذها النبيُّ –صلى الله عليه وسلم-، قبل الخروج من مكة، وفي أثناء الطريق، وهي تدل على أقصى ما يمكن من اتخاذ الأسباب، والتّوسّل بالوسائل، من أجل تحقيق الهدف، بحسب قوانين الطبيعة البشرية، والظروف المحيطة، وهو مع ذلك في أقصى درجات الاعتماد على الله تعالى، والثقة به سبحانه.

 

فما هذه الترتيبات والخِطط، التي تبدو يسيرة، ولكنها في حقيقتها منظومة متكاملة من الاتفاقات والتوفيقات؟.

أخبرتنا كتب السيرة النبوية، في رواياتها الصحيحة، أنّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- اتفق مع رجل خِرِّيتٍ [حاذق في معرفة الطرق]، هو عبد الله بن أُريقط الليثيّ، ليكون مرشداً له إلى طرق جديدة لا يسلكها الناس عادة، وقد سلّمه هو وأبو بكر راحلتيهما قبل خروجهما، ليوافيهما بهما بعد ثلاث ليالٍ عند جبل ثور، كما اتفق مع عامر بن فهيرة، وهو راعي غنم، ليقفوَ بمسير أغنامه آثار النبي –صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ويأتيهما باللبن ليشربا منه، وطلب من عبد الرحمن بن أبي بكر أن يأتيهما بأخبار القوم (أي قُريش).

وكان من أهم ما اتّخذه رسولُ الله –صلى الله عليه وآله وسلم- من خِطط وتدابير :

* إنابتُه ابنَ عمه، عليَّ بن أبي طالب –رضي الله عنه- لينام مكانه، وألبسه برده ليظنّ رجال قريش -المجتمعون حول البيت بعد منتصف الليل- أنه محمد (صلى الله عليه وسلم).

* خروجه قبل الفجر في عتمة الليل من بيته إلى بيت أبي بكر–رضي الله عنه- ، ومغادرتهما منزل أبي بكر من باب خلفي، قبل الفجر أيضاً.

* سلوكه طريقاً مغايرة تماماً للتي تتوقعها قريش، فقد اتجه إلى الجنوب جهة اليمين، وهم لا يشكّون في أنه سيتجه شمالاً إلى جهة يثرب، حيث هاجر قبله بعض أصحابه.

* لُجوؤه إلى غارٍ في جبل ثور، وهو جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، على بعد خمسة أميال (نحو ثمانية كيلومترات) عن مكة، وبقي فيه ثلاثة أيام، إلى حين انقطاع الطلب، ثم جاءهما عبد الله بن أريقط ليسير بهم نحو المدينة.

فسلك بهما طريق الساحل، بعد أن أمعن قليلاً جهة الجنوب، حيث اتجهوا غرباً ثم شمالاً، فكأنه التفاف حول مكة.

مما سبق نستنتج أنّ الرسول محمداً –صلى الله عليه وسلم- قد اتخذ جميع التدابير الاحتياطية، بحسب ظروفه  وأحوال أهل زمانه، وهو يعلم علم اليقين أنّ الله تعالى يحميه ويعصمه من الناس.

وقد أيّده بمعجزات عدة في هذه الهجرة، منها خروجه من بين أظهر المشركين المجتمعين لدى بابه، دون أن يروه، بل وضع على رأس كلِّ واحد منهم حفنة من تراب، لتكون علامة إذلال لهم جزاء لغرورهم وسخريتهم منه .

ومنها حادثة سراقة بن مالك، وهو الوحيد الذي أدرك الرسول وصاحبه في الطريق، فساخت قوائم فرسه عدة مرات قبل أن يصل إليهما، فأيقن أنه لا يستطيع النيل منهما، فأسلم، ووعده الرسول–صلى الله عليه وسلم-، بسوارَي كسرى ملكِ الفرس، وقد نُفّـذ هذا الوعد في عهد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بعد فتح بلاد فارس واغتنام كنوز كسرى.

وأيّده بمعجزة العنكبوت التي نسجت بيتها على فم الغار الذي اختبأا فيه.

وليس هدفي في هذا المقال سرد أحداث الهجرة، وهي أخبار ممتعة مؤثرة في ذاتها، ولكنّ هدفي بيان المعنى الحقيقي للتوكل على الله تعالى، الذي افتقدناه في حياتنا، فصار مفهوماً مشوشاً في أغلب الأحيان؛ حيث يُعدُّ ما فعله الرسولُ في هجرته درساً تطبيقياً نموذجياً لمفهومه الصحيح.

إنّ الرسول –صلى الله عليه وسلم- قد اتخذ من الأسباب الدنيوية كل ما يستطيع مما يناسب زمانه -وإن كانت يسيرة في نظرنا- مع يقينه الراسخ بأنّ الأمر بيد الله وحده، فهو الناصر وهو الحافظ وهو المنجي لرسله والذين آمنوا معهم، ولا أدلَّ على ذلك من جوابه لصاحبه أبي بكر، وهما في الغار، حين تخوّف أبو بكر من رؤية المشركين لهم، فقال له : "لا تحزنْ إنَّ الله معنا"، ما ظنك يا أبا بكر باثنين، الله ثالثهما؟.

فهذا الجمع بين إعداد العدة للأمر (أيّ أمر) وبين اليقين بأنّ الله وحده القادر على النصر والحماية وتحقيق الأهداف، هو التوكّل الحقيقي المطلوب.

وليس ما يفعله أكثرُ المسلمين ومعظمُ العرب من ادعاء التوكل على الله، وهم يتركون الأخذ بالأسباب، فنرى كثيراً من المسلمين يمرض، فإذا قيل له: اذهب إلى الطبيب وتداوى؛ قال: الشافي هو الله، وترك العلاج، وإذا قيل لبعض الخاملين الكسولين: اسعَ في الأرض، وابحث عن عمل، واطلب الرزق، قال: الله كريم، الله الرازق. ويبقى حالماً بالرزق الوفير، ويتمنّى على الله الأمانيّ. فهذا في الحقيقة ليس متوكلاً، وإنما هو عاجز، كما سمّاه الرسول –صلى الله عليه وسلم- حين قال: (الكيِّسُ مَنْ دانَ نفسَه (أي حاسبها)، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني) [أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن].

فهيهات هيهات أن ينال هذا العاجز ما يتمنّاه.

فبالجِدّ والعمل الدؤوب مع الاعتماد على الله، نشر رسول الله دعوته، وأقام دولته، وبهما أمر أمته، فلنسرْ على هذه الطريقة في حياتنا؛ فنعمل ولا نكسل، ونخطط لكل عمل نقوم به، ولنبتعد عن الفوضى والعشوائية، فما سبقتنا بلاد الغرب إلا بجدهم ونشاطهم وتخطيطهم الدقيق، ونحن أولى بذلك منهم.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية