إن رحمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقف وحدها معجزة.. وليس أدل على ذلك من ذهابه ماشيًا على قدميه إلى الطائف التى تبعد عن مكة حوالى تسعين كيلو مترًا بعد وفاة عمه، فى شوال من السنة العاشرة من البعثة، ومعه مولاه زيد بن حارثة؛ ليدعو قبائلها إلى الإسلام، وهم لا يستجيبون له، وما كان من موقف سادة ثقيف وأشرافهم معه من رفضهم دعوته، ويأسه -صلى الله عليه وسلم- من خبرهم.

أقام صلى الله عليه وسلم بالطائف عشرة أيام يدعو أشرافها وأهلها إلى الاسلام حتى جابهوه قائلين: (اخرج من بلادنا)، وأغروا به سفهاءهموعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، وقد قعدوا له صفين على طريق خروجه، فأخذوا بأيديهم الحجارة، فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا

رضخوها بالحجارة، حتى سالت منها الدماء. وما كان من انتقاله -صلى الله عليه وسلم- إلى بستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة الذي استظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشجرة من العنب لهما، فصلى ركعتين وأخذ يدعو ربه دعاء المستجير، بالدعاء الشهير: ’’اللهم إليك اشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربى إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى؟ أم إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك علىَّ غضب فلا أبالى، غير أن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بى غضبك ، أو يحل علىَّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك’’. فتحركت لعتبة وشيبة رحمهما له -صلى الله عليه وسلم- فدعوا غلامهما عداسًا النصراني ليناوله قطفًا من عنب فى طبق بعد أن تعرف عليه عداس وعلم أنه نبى مثل يونس بن متى، وانتقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قرن المنازل، فبعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة. وتروي كتب السنة القصة، ومنها البخارى بسنده عن عروة بن الزبير، أن عائشة -رضى الله عنها- حدثته أنها قالت للنبى -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ’’لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كُلاَل، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت -وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب -وهو المسمى بقرن المنازل- فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فنادانى، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فنادانى ملك الجبال، فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليه الأخشبين -أى لفعلت- [ والأخشبان: هما جبلا مكة: أبو قُبَيْس والذى يقابله، وهو قُعَيْقِعَان]، قال النبى -صلى الله عليه وسلم- :’’بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا ’’(1). نعم.. إن رحمته -صلى الله عليه وسلم- تمثل معجزة، ولكن الدكتور إبراهيم على السيد (2) يراها أعظم من المعجزة حيث يقول:(إن المعجزة الأعظم من إطباق الأخشبين أن يقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يقبل العرض؛ ولما تزل الدماء تنزف من قدميه، ولا يصدر الأمر لملك الجبال، ولا تزال كلمات بنى ياليل يرن صداها فى أعماقه الجريحة [أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟.. إلى آخر ما قالوا ، أن يقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقول : ’’بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لايشرك به شيئا، اللهم اهد ثقيفا وأت بهم’’. وهذا الموقف موافق لقوله تعالى:’’فبما رحمة من الله لنت لهم’(3)، وقوله تعالى: ’’وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ’’(4). لا تستبين وجه المعجزة فى هذا الموقف حتى تعلم أن جبال مكة كانت تنتظر أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد كان كل هؤلاء المكذبين له -صلى الله عليه وسلم- أمامه كالنمل المتسلق جذوع الأشجار، وقد جعل الله مصيرهم ومصير أولادهم رهن إشارة منه، كما لا يستبين وجه الإعجاز إلا حين نقارنه بما فعل الأنبياء الكرام عليهم السلام حين جأروا لله بالدعاء لربهم أن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، وانتصر لهم ربهم سبحانه فقال: ’’ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ’’ (5). بل إن عمر بن الخطاب نفسه يعجب من فعل رسول الله حيث إنه لم يدعُ عليهم كما فعل نوح بقومه، رغم رديء أعمالهم برسول الل،ه ولو دعا -صلى الله عليه وسلم- لهلكوا. قال عمر بن الخطاب -رضى الله عنه: بأبى أنت وأمى يارسول الله لقد دعا نوح على قومه فقال: ’’ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا’’(6)، ولو دعوتَ بمثلها لهلكنا من عند آخرنا، ولقد وُطِّىء ظهرُك ، وأُدمى وجهُك..!! فأبيت أن تقول إلا خيرًا، فقلت: ’’ للهم اغفر لقومى فإنهم لايعلمون’’ (7). (8) إن قصة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الطائف وأهلها لم تتم فصولا، وبالتالى لم تنته عند هذا المشهد، فبعد أن زحف المسلمون علَى الطائف في السنة الثامنة للهجرة، وحاصروها فأطالوا حصارها، واستعصى عليهم حصنها الحصين الَّذِي قُتِل فيه كثيرٌ منهم، فهَمّ الرسول أن يرجع عنهم، لكن أصحابه أبوا إلَّا الفتح، وسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو علَى أهل الطائف، فرفع يديه إلَى السماء يدعو فقال: ’’اللهمّ اهْد أهل الطائف، اللهمّ ألِن قلوبهم للإسلام ومَكّنه فيها’’. ثم إن عبد ياليل الذى جابه الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- هو وعشيرته بالمكروه وآذَوه أذًى شديدًا، لما نزل مع قومه علَى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة -بعد ذلك-، أنزله -صلى الله عليه وسلم- في مسجده، وضرب له قبّة فيه، وجعل يزوره بعد كل عشاء، ويقصّ عليه ما كان يلقَى وهو في مكة من عَناء وجهد، وهو الَّذِي استقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الطائف بالأذَى، ورجمه بالحجارة، وسامه الخَسف.. فشتان بين استقبال واستقبال.. كما هو شتان بين عبد ياليل ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كما أن وجه المعجزة لن يستبين إلا حين يقيس إنسان اليوم نفسه عليها إذا ما تعرض لضيم وكان له شبكة من الاتصالات بذوي النفوذ، وفى مقدوره العصف بمن ظلمه؛ ليشفى غليله، هل كان سيعفو والدماء لا زالت تسيل منه؟ واستهزاؤهم به مازال يدوى بأذنيه؟... أما أن رحمته -صلى الله عليه وسلم- معجزة.. فهذا حق، وتبدو أكثر فأكثر كلما قرأنا سيرته أكثر، واقتربنا من مواقفه أكثر . فربه عز وجل الرحمن الرحيم، ورسالته رحمة للعالمين، وهو -صلى الله عليه وسلم- الرحمة المهداة، هكذا وصفه مولاه وأرسله وسَمّاه .. كما أن رحمته -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح العظيم لمكة والنصر المبين على أهل الشرك تبدو وتتأكد؛ لأن البشرية هنا غالبة، والزهو قائم، والرجال جاهزون، والكفار صاغرون ينتظرون، فالمشهد كله فى بقعة واحدة، المؤمنون المشرئبون للانتقام متأهبون، لمن وقر فى صدره أنه يوم الملحمة، وأهل الطاغوت عيونهم حائرة تتنقل كالنحلة الضالة تقف تارة عند شفتي الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- مخافة إصدار أمر الإبادة والتنكيل، وفى صدورهم يعلنون أنه لو فعل لكان حقه المُدَّخر وجزاؤهم الحق العادل، وتنتقل نظراتهم سريعًا على صفوف قواته المنتصرة وسيوفهم المُشْرعة تنتظر إصدار الأمر وهم يعلمون عن أصحاب محمد سرعتهم فى تلبية أمره وطاعته، لتستقر أنظارهم أخيرًا على فلذات أكبادهم وزوجاتهم ودورهم ويتخيلون مصارعهم وجندلتهم، فلا شك أن المشهد هنا أقسى من مشهد حضور جبريل وملك الجبال للنبى -صلى الله عليه وسلم- بقرن المنازل بعد عودته من الطائف، لأن هذا المشهد كان يغيب عن بال من سيحل بهم العذاب المفاجىء، فوقعه عليهم آنذاك سيكون أخف فهم لايترقبونه ولا يخافونه، ولو عاد إليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحكى لهم أنه رحمهم من عذاب سماوى عظيم لما صدقوه، فدخوله عليهم وحاله يُنبىء عن مقاله وحال زيد معه، وفى رجوعه إليهم مستجيرًا بجوار مطعم بن عدي، لبدت أمامهم الرحمة باهتة.. أما يوم الفتح فالعفو ناصع مُعجز والرحمة جلية.. وهنا الرحمة معجزة كما يراها خالد محمد خالد (9) فيقول: فى وهج هذا الانتصار الساحق المبين، تطل علينا المعجزة بضياء جديد يبهرالألباب.. فهذا هو الرسول المنتصر تواتيه الفرصة لكى يفرض دينه وتعاليمه، فإذا هو لا يصنع ذلك أبدا.. إنه كان معنيًّا بأمر واحد، هو إزاحة مظاهر الوثنية والشرك ونسف ما وراء هذه المظاهر من باطل وضلال.. من أجل هذا لم يكد يطمئن بمكة، ويطمئن على أهلها وعلى استقرار الهدوء والأمن فيها، حتى قصد البيت الحرام فطاف سبعًا. ولو سرت وراء قلمى مطيعًا فأدون مظاهر الرحمة المحمدية دون سبر أغوارها، لاحتجت من الصفحات والسنوات ما يفوق عمرى وجهدي، وما بلغت غايتى.. وماسردته فى هذا الموضع من رحمته -صلى الله عليه وسلم- ماينبىء عن بقيته.. غير أنني مارأيت رحيمًا من البشر يطاول قامة رحمته، ول اسمعت أن قائدًا عسكريًّا تحلى بأخلاق الرحمة مثله حين يأمر جنوده الخارجين للقتال ألا يتعرضوا حتى للذين يتعبدون على غير دينه وملته.. فيقول -صلى الله عليه وسلم-:’’اغزوا بسم الله، فى سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقطعوا نخلًا ولا شجرة، ولا تهدموا بناء’’ (10).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)[( صحيح البخارى : كتاب بدء الخلق ح ( 1323 ، 9837 )] .

(2) الدكتور إبراهيم على السيد ،نظرات تربوية فى السيرة النبوية [العهد المكى] ص 277.

(3) سورة آل عمران : من الآية:159.

(4) سورة الأنبياء : من الآية: 107 .

(5) سورة العنكبوت : 40 .

(6) سورة نوح : من الآية : 26 .

(7) حديث اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون رواه البيهقي في دلائل النبوة والحديث في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم حكاه عن نبي من الأنبياء ضربه قومه .

(8) ذكره القاضى عياض فى الشفا جـ1صـ81.

(9) خالد محمد خالد ، عشرة أيام فى حياة الرسول ص 139.

(10) جامع الترمذي مع التحفة ( ( 5 / 27 ح 1666).

 

التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية