إن التشاور واحد من السنن التي أقام الله تعالى عليها علاقات خلقه بعضهم ببعض، وإن صلات الجماعات المختلفة أو فشيما بين الشعوب والقبائل قائمة على التعارف، ولذلك أثر إيجابي في عمارة الأرض وإشاعة الأمن والوئام والسلام بين الناس، وعلى الحوار وخاصة بين المسلمين ومَن عداهم من أصحاب الديانات السماوية وعلى دعوتهم ودعوة مَن سواهم بالحكمة والموعظة الحسنة قد يتم اتباع الدين الحق. وإن من شأن هذه المرتكزات الثلاثة، أي التعارف والحوار والدعوة، أن تفتح الباب واسعًا أمام بني البشر من أجل أن ينعموا بحياة هنية تقوم على التعاون وتفهم الآخر واحترام اختياراته من غير أن ينجم عن الحوار وعن الدعوة إلى الطريق الحق ما من شأنه أن يولّد التقاطع والتنابز بين المكونات الاجتماعية المختلفة، أو أن يزرع بين أفراد هذه المكونات وأولئك الذين يخالفونهم في الرؤية أي نوع من أنواع الحقد والتباغض والانقطاع. وإن ما يمكن أن نراه من هذه الصور السلبية في حياتنا المعاصرة أو في تاريخنا الاسلامي مردود إلى التنكب عن تنفيذ التوجيه الاسلامي الواضح الصريح تنفيذًا صادقًا والاستعاضة عن ذلك بمحاولة قمع الآخرين وفرض الارادات عليهم وإحلال مبدأ "التناحر" محل "التعاون" في التعامل مع شؤون الحياة وما نجم عن ذلك، وما ينجم الآن ومستقبلا، من تنمية القوة من أجل البطش بالآخرين وتعطيل قدراتهم وإراداتهم والاستفراد بالرأي والقرار.
وقد ألهم الله تعالى هذه الجماعات أن تشترك في مبدأ آخر تعتمده في إدارة شؤونها الذاتية داخل إطار الجماعة الواحدة أو داخل إطار مجتمعٍ ما مؤلَّفٍ من أكثر من عقيدة أو طائفة، وهذا المبدأ هو التشاور من أجل الوصول إلى موقف عام متفق عليه ويمكن الدفاع عنه إذا اقتضى الامر.
ويجد المتصفح لآيات القرآن الكريم صورًا مختلفة للشورى سواء بين الجماعات الاسلامية على امتداد تاريخ الرسالات السماوية أو بين الجماعات التي كانت تقف في وجه أصحاب تلك الرسالات أو بين أنفار من الناس أو حتى في العلاقات الأسرية. وقد تفاوتت الصور بين كونها غير مباشرة لتفضيل التشاور، ومباشرة عُرض التشاور فيها بحياد من غير أن يُثنى عليه. فالتشاور في حد ذاته مطلوب ولكن الفلك الذي يدور فيه خيرًا أو شرًا هو الذي يجعله في موقعه المناسب من الله تعالى رضى أو غضبًا.
ومن الصور غير المباشرة قوله تعالى على لسان عبده لقمان عليه السلام وهو يعظ ابنه: " وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا" (لقمان 18). ففي هذه الآية تبصير بمجانبة التكبر على الناس أو احتقارهم أو ازدرائهم أو التعبير بحركات الوجه واليدين عن تهوينهم عند ذكرهم. وإن هذا هو جوهر احترام الآخر الذي يقود حتمًا إلى قبوله وقبول رأيه والاستماع إليه والتعاطي معه، وتشكل هذه النصيحة الأساس الأخلاقي الذي تقوم عليه العلاقات بين الأفراد، ذلك أن تكبّر طرف على طرف يحول دون تواصلهما. والتشاور -إذا ما تأملناه- وجدناه منطويًا على الإقرار بالحاجة إلى الآخر في الوصول إلى صياغة موقف أو اتخاذ قرار، وإن استعلاء أحد الطرفين معناه أنه يتولى كبره فلا يجد صوتًا يعلو صوته أو رأيًا يفضل رأيه. إن الآية السابقة تعالج هذه النزعة الاستعلائية التفردية في مستوييها النفسي القائم على احتقار الآخر والظاهري الذي يترجم المستوى النفسي إلى حركة في الوجه واليدين أو حركة عامة في الهيئة التي يختارها المتكبر لنفسه في تعامله ومشيه. وقد ردّ الله تعالى الإنسان إلى أن ينظر إلى نفسه ليرى حجمه الحقيقي، وهو حجم ضئيل، لكيلا يغتر بنفسه تيهًا على أقرانه، فقال سبحانه مذكرًا الانسان بالتواضع: "وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا" (الإسراء 37). إنها وضع الإنسان على المواجهة المباشرة لحقيقة ما هو عليه، وإنه إذا أدرك ضآلته لربما تواضع للآخرين وتصاغر لهم فوجد حينئذٍ أن لديهم ما يفوق ما لديه وإنْ كانوا أقلّ منه مالا أو جاهًا أو مكانة. ومما يجدر ملاحظته أن التوجيه هو ألا يصعّر خده للناس، الناس على عمومهم لا على خصوصية انتماءاتهم العقائدية أو المذهبية أو الإثنية ولا على خصوصياتهم الاقتصادية والاجتماعية. فالإنسان -في الاسلام- يتقدم على غيره أو يتأخر عنه على حسب تقواه، وموضع التقوى هو القلب، وهو الجوهر، وكل مظهر فيما عداه عرَض زائل لا قيمة له، كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ( صحيح مسلم حديث رقم 4651)، أو كقوله في حديث آخر: "ربّ أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه" (جامع العلوم والحكم لابن رجب 1/269)، أو كإشارته عليه الصلاة والسلام إلى أن عباد الله الحقيقيين هم الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يُفتقدوا وإن حضروا لم يُعرفوا (الترغيب والترهيب للمنذري 3/382). وإذا تمثّل الإنسان المسلم هذه الأحاديث وأبقاها حية في وجدانه عزف عن الاستهانة في تعامله مع الناس عمومًا ومع أبناء دينه خصوصًا مخافة أن يكون من بين مَن يلاقيه مَن ينطبق عليه وصف النبي -عليه الصلاة والسلام-.
ولعل الحوار بشأن قيام فئة مؤمنة بأعمال غير مقبولة، من مثل ما فعله إخوة يوسف عليه السلام، أو ما كان يدور في أروقة الكبر والعناد من مشورة بشأن كيفية مواجهة دعوات المرسلين عليهم السلام ما يدخل في إطار هذه الصور غير المباشرة، أي إن كان أولئك يقيمون أمرهم على التشاور فمن باب أولى أن يتمسك المسلمون بهذا المبدأ.
*فقد تشاور إخوة يوسف فيما بينهم بشأنه وشأن ما يفعلون به، ولم تكن هذه المشاورة في عمل من أعمال الخير كما هو معلوم، ويبدو من سياق السرد القرآني أن أحد الآراء كان يدور على قتل يوسف عليه السلام: " اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ* قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ" (يوسف 9-10) ويبدو أن هذا القائل كان يعارض اتخاذ أي إجراء عدواني بحق يوسف في تلك المرحلة في الأقل ولذلك قال "إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ". فقتل يوسف أو إبعاده عن أرض أبيه خيارات عرضها إخوته فيما بينهم، وهم كانوا متفاوتين في أعمارهم، وليس هناك ما يدل على أن أي واحد منهم كان يسعى إلى إملاء رأيه. ولا شك أنهم ناقشوا المسألة ثم انتهوا إلى قرار متفق عليه وهو إلقاء يوسف في الجب: "فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ" (يوسف 15).
*طلب امرأة فرعون الابقاء على موسى عليه السلام بعد التقاطه من البحر، "وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" (القصص 9). فهذا الطلب كان موجهًا إلى فرعون الذي أخبره منجموه أن زوال ملكه سيكون على يد غلام من بني إسرائيل سيولد في تلك الاعوام، وقد استجاب فرعون لطلب امرأته. ويبدو من سياق الآية أن مخاطبة امرأة فرعون كانت لفرعون نفسه بصيغة التعظيم أو له ولمستشاريه ولهذا فإنها استعملت صيغة الجمع " لَا تَقْتُلُوهُ " وكان التعقيب أيضًا دالا على الجماعة "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ". وإذا كان الخطاب موجهًا إلى فرعون وحده فهذا يعني أنه استجاب لها، وإذا كان موجهًا للمجموع فلربما كان الإبقاء على الغلام ثمرة لنظر هذا المجموع في الأمر والتشاور فيه والموافقة عليه.
ولئن كان التشاور في هذا الموقف مردودا في احتمال حصوله إلى الظن فإنه كان جليًّا في موقف آخر كان يضم فرعون وأعوانه يوم أن عرض موسى عليه السلام دعوته: "قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ" ( الأعراف 109-111، وينظر الشعراء 32-35). إنه إذن البحث الصريح عن رأي يمكن أن يحظى بقبول الجميع ليكون التصرف بموجبه، وقد اتفقوا على إرجاء موسى وأخيه والإتيان بالسحرة من كل مكان ليتباروا معهما وكان من شأن ذلك ما كان!
*قول بلقيس لرجال دولتها إذ جاءتها رسالة سليمان عليه السلام: "قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ " (النمل 32). وهي لم تكتف بطلب الاستشارة بل أعلنت أنها لن تتخذ قرارًا انفراديًّا. وقد بين كبراء قومها ما كانوا عليه من منَعة وفوّضوها أن تختار التدبير اللازم والمناسب إذ قالوا لها: "قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ" ( النمل 33)، وعنئذ أبدت تصورها بشأن ما يفعله "الجبارون" في الأرض، إذ كانت تظن أن سليمان عليه السلام منهم وما كانت تدرك وقتئذٍ أنه يدعو إلى اتباع الدين الحق، أي إنها ظنت الأمر في فلك الصراع بين الملوك، ولهذا ارتأت أن تلجأ إلى الاسترضاء فـ "قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ" (النمل 34-35).
إن المسلمين أولى من غيرهم في أن يتمسكوا بهذا المبدأ في بناء الحياة. وقد أعلى الله تعالى شأن هذه الصفة حتى مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المسدّد الذي "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" (النجم 3-4) فأرشده إلى أن يشاور الناس في الأمور التي تعرض له فقال سبحانه: "فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران 159)، وفي هذا أمر صريح من الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- في أن يستشير أصحابه، بل إنه سبحانه جعل الشورى واجبًا بين المسلمين فقال: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" (الشورى 38، ولاحظ أن السورة سميت بالشورى ربما، والله أعلم، لبيان أهميتها في حياة المسلمين). ولهذا فقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يشاور أصحابه إذا ألمّ أمرٌ ليطيب بذلك قلوبهم ولكي يكون ذلك أنشط لهم فيما يفعلون (المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير 255). فقد استشارهم يوم بدر في الذهاب إلى العِير، وعندما اتجهت الأمور إلى المواجهة العسكرية مع قريش استشارهم مرة أخرى، وأخذ برأي أحدهم في تغيير الموقع الذي نزل فيه أول مرة إلى مكان آخر كان أجدى بحسب اقتراح الصحابي من الناحية العسكرية، واستشار أصحابه في جميع حروبه الأخرى وقال عليه السلام: "المستشار مؤتَمن" في حديث طويل أورده الترمذي (سنن الترمذي حديث رقم 2369،2822، 2823) وآخرون. بل إنه استشار المسلمين حتى في أدق خصوصياته كالذي حصل في حادثة الإفك إذ شاور عليًّا وأسامة رضي الله عنهما في فراق عائشة -رضي الله عنها- وقال مخاطبًا الناس: "أشيروا عليّ في أُناس أبَنُوا أهلي وأيمُ الله ما ما علمتُ على أهلي من سوء، وأبَنُوهم بمَن والله ما علمتُ عليه من سوء قط ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ولا غِبتُ في سفر إلا غاب معي" (المصباح المنير 256 ، سنن الترمذي حديث 3180).
ومن هذه الخصوصيات أيضًا تخيير النبي -عليه الصلاة والسلام- لأزواجه – تنفيذًا لأمر الله تعالى- بين أن يخترن الحياة الدنيا ويفارقهن أو ان يخترن الله ورسوله والدار الآخرة فيصبرن على ما كان عليه من ضيق الحال، فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا" (الأحزاب 28-29). وإنه -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما امتثل لهذه الآية ابتدأ بالسيدة عائشة رضي الله عنها وعرض عليها ألا تستعجل في اتخاذ القرار وأن تستشير أبويها فقال لها -عليه الصلاة والسلام-: "إني ذاكرٌ لكِ أمرًا فلا عليكِ أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويكِ" ثم قرأ عليها الآية، فقالت: "ففي هذا استأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة " (السنن الكبرى للبيهقي 7/345، المصباح المنير 1086).
ومن الخصوصيات العامة التي تستلزم التشاور فطام الطفل حيث قال تعالى: "فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا" (البقرة 233). وعلق ابن كثير على هذه الآية قائلاً: "فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر...وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره" (المصباح المنير 171). ولربما يُلحق بهذا في اختيار الموقف الصحيح التشاور في الزواج، فقد يفهم من القرآن الكريم أن زواج نبي الله موسى من ابنة شعيب عليهم السلام كان ثمرة لمقترح غير مباشر من الفتاة، والاقتراح مفتاح المشاورة، بل إن المشورة كانت في الصداق أيضًا، "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ* قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ" (القصص 26-28). وهكذا يبدو أن التشاور مبدأ إسلامي أساسي لا تقتصر أهميته على إدارة شؤون الدولة الاسلامية وحسب بل تتغلغل إلى أصغر وحدة اجتماعية ممثلة بالأسرة وشؤونها وروابطها الداخلية فتقوم عليه دعائم الاسرة والمجتمع معًا، فهو ضمانة التقدير المتبادل والتكامل الفكري والتراضي الاجتماعي.
لقد ذكرت آنفًا أن الله تعالى أمر نبيه الكريم -عليه الصلاة والسلام- بالمشاورة وهو الذي كان الوحي يسدده، غير أن الحكمة من ذلك هي إرشاد المسلمين إلى هذا المبدأ، فإذا كان النبي المعصوم -عليه الصلاة والسلام- مأمورًا بها فمن باب أولى أن يكون غير المعصومين ملزمين بها في إدارة شؤونهم العامة والخاصة ما لم يكن هناك نص شرعي قاطع يمنع التشاور في مسألةٍ ما. ويزداد هذا الإلزام قوة في قوله تعالى: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ"، ولهذا شكّل بعض ولاة المسلمين مجلسًا للشورى من العلماء والوجهاء ورأى بعض العلماء، كالطبري والقرطبي، في تفسيرهما للآية الكريمة أن من الواجب عزل الإمام الذي يرفض الشورى لما يترتب على رفضه من تمهيد للطريق أمام الاستبداد بالرأي (الفقه الاسلامي لوهبة الزحيلي 6201). غير أن العلماء اختلفوا في نتيجة الشورى، أمُلزمة هي أم لا؟ وقد مال معظمهم إلى أنها ملزمة. وباستعراض الأحداث التي مرت وتمت بشأنها الشورى في أيام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والخلفاء الراشدين نرى أن الشورى ذات طبيعة تنويرية وتبصيرية للإمام، وأنها تعينه على تبيّن جميع جوانب المسألة من أجل الوصول إلى اتخاذ القرار المناسب بشأنها. وليس من الضرورة أن يكون القرار المتخذ هو ما اقترحه المستشارون، بل إن هناك أحداثًا تثبت أن القرار الذي اتخذه الإمام كان على خلاف ما أشار به المستشارون في أول الأمر، كقرار محاربة المرتدين في زمن أبي بكر، وقرار استغلال أرض السواد بدلاً من توزيعها على الجند في زمن عمر، وقرار عثمان بعدم مقاتلة الثائرين عليه في أواخر خلافته، وقرار علي في عزل معاوية قبل أن يبايعه، -رضي الله عنهم أجمعين-، وغيرها. ويبدو أن هذه القرارات كانت ثمرة لحوار واسع وشامل بين الامام ومستشاريه وتبصّر بالسلبيات والإيجابيات كلها واقتناع المجتمعين بوجهة نظره، وهذا يعني أن المواقف لم تُبْنَ على عدد الأصوات وإنما على ما يتوافق مع قوله تعالى: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران 159)، فالعزيمة هنا هي الوصول إلى ما ينبغي اتخاذه بناء على مناقشة أهل العلم والتقوى والاختصاص في التفصيلات والاحتمالات المختلفة للحالة، وإن هذه المناقشة هي من باب الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله تعالى فيما ينشرح له الصدر بعد ذلك.
التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي