رباه... رباه... رباه...
رباه... عبدك المؤمن بك... المصدق بكتابك... المقر بوحدانيتك... أتاك راجيًا مستغفرًا مستعتبًا... وقد أنهكته الذنوب، وأرهقته المعاصي، وأثقلته الغفلة... ولم يعد له أمل يتعلق به إلا فضلة من إيمان يضيء نورها في قلبه من بعيد ويهتف به في كل آنٍ ألا تطِل الغيبة ولا تزد سلطان الشيطان على نفسك... فهاك نداء ربك (يا ابنَ آدمَ إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي يا بنَ آدمَ لو بلغتْ ذنوبُك عنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتني غفرتُ لك ولا أُبالي يا بنَ آدمَ إنَّك لو أتيتني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيْتُك بقِرابِها مغفرةً)، فهل بعد هذا النداء من حب وتقرب؟ الله يحبك... الله يناديك... الله يفرح بتوبتك!
إلهي... هل لي من توبة؟ وأنا المصر على الكبائر قبل الصغائر! هل لي من أوبة؟ وأنا المقترف لآثام العلانية والسرائر!
إلهي... من يقيل العثرة إلا أنت؟ ومن يغفر الذنوب إلا أنت؟ ومن يستر العيوب إلا أنت؟ بارزتك بالمعصية تلو الأخرى فلم تأخذني بها، وهجرت طاعتك يومًا تلو الآخر فلم تنتقم مني. فما كل هذا الفضل على ساهٍ لاهٍ لم يقدرك حق قدرك!
إلهي... مهما تجافيتُ عن سبيلك وتنكبت طريقك فلا غنى لي عن رحمتك وعفوك، كيف لا وأنت الذي خلدت هذا النداء الجميل لعبادك في كتابك (قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)!
فها هو قلبي يهفو إليك من جديد... وها هي مآقيَّ قد امتلأت بعدما أيقنت في عفوك ورحمتك... وها هي يديَّ ترتفع إلى بارئها أن ارحم وسامح وتكرم، فاللهم لا تردهما خائبتين صفرًا...
إلهي... أكاد أذوب وأنا أردد بلساني وأعيد على مسمعي كلمات الشاعر طه الزمخشري:
رباه كفارتـي عـن كـل معصيـة *** أنـي أتيـت وملء النفـس إيمـان
أتيـت أطـرق بابـاً كـل مجتـرم *** أتـاه يرجـع عنـه وهـو جـذلان
قد استضاف كريمـاً لا يمُـن بمـا *** يعطي وبمنـه للعبـد رضـوان
فتتمثل لي خطاياي كأنها جبل أشم يوشك أن يسحقني... فأعيد ترديد الكلمات وأتمهل بقول وملء النفس إيمان... فيتمثل هذا الإيمان جبالاً شماء أخر تنافح عن صاحبها فيمتلئ قلبي بردًا وسلامًا.
كفى أيها الشاعر، فلقد لمست الوتر... والدمع من المآقي قد انهمر... وملء القلب شوق لما عند مليك مقتدر.
إلهي... أنا عبدك الفقير إليك... الغني بما لديك... الذليل بين يديك... العزيز بتوكله عليك... البعيد بظلم نفسه... القريب بذكر ربه في يومه وأمسه...
فاللهم رحماك رحماك بمن أسرف على نفسه حتى ملأ الران قلبه... ثم سمع مناديًا يناديه للإيمان فاستشرفه من بعيد ولم يلبث إلا وهو قائم بين يدي ربه يرجو رحمته، ويخاف عذابه، ويسأله من فضله. فاللهم نسألك فضلك الذي قلت عنه (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). اللهم آمين.