هل نستغني بالعلم عن العمل؟ أم هل لنا أن نتفرغ للعبادة دون غيرها؟
كثيرون هم العلماء.. ويغلبهم العابدون كثرة.. لكن الأقل النادر في الفريقين من يعبد الله تعالى على علم، أو من يحدوهم علمهم إلى إحسان العبادة.
فكم من عالم لم يزده علمه إلا حيرة؛ حيث لو يوفَّق إلى المواءمة بين ما يقرؤه وما يدرسه وبين نواميس الكون التي لا تتبدل ولا تتغير، ومن ثم لم يوفَّق إلى بارئها وخالقها.
وكم من عابد لم تزده عبادته إلا نصبًا وإلا بعدًا عن الله، لأنها في الحقيقة ليست عبادة، وإنما مجرد حركات وطقوس اعتاد على أدائها عن جهل، فلا هي نفعته وروحت عن نفسه وزادته رقيًا حيث ذلك هو المرجو من العبادات، ولا هو رحم نفسه فلم يرهقها بهذه الأفعال.
ولنأخذ لكلا الفريقين مثالاُ:
أما عن أولهما، فإن طبيعة العلم أنه رسول الإيمان، وكلما تبحر أحدنا في أي فرع من فروع العلم وحاول أن يربط بين ذلك وبين بعض تعاليم الإسلام ازداد يقينًا من أمره وحمد الله تعالى أن هداه للإيمان.
لكن الفاجعة تظهر عندما لا يستطيع المرء أن يوفق بين الأمرين، فهو يؤمن بمعتقدات معينة لكن الحقائق العلمية التي يدرسها تنقض هذا الإيمان وتزعزع أركانه. فماذا يفعل حينها؟
الإجابة عند واحد من هؤلاء، وليس ذكره هنا للتشفي أو الشماتة إنما لزيادة التوضيح والبيان، إنه الدكتور إسماعيل أدهم، ذلك العلامة في الرياضيات والحائز على الدكتوراه من روسيا، كان مسلمًا في صغره، لكنه ألحد في شبابه، وأخذ يدافع عن ديانته أو قل لاديانته، وأنشأ جماعات طلابية لنشر المذهب الإلحادي، وألف كتابًا في ذلك أسماه: لماذا أنا ملحد؟
لكنه بعد سنوات من اعتناق مذهبه ضاقت به الدنيا، وزهد في حياته، ورغب في إنهائها فاختار الانتحار أقصر طريق لذلك.
على أنه قد كتب في كتابه ذلك أنه يجد من الراحة والسكينة ما يجده المؤمن بالله تعالى.
وأما عن ثاني الفريقين، فهو العابد على جهل، الذي يقتحم ميدان الشعائر هكذا دون وعي أو سؤال أو معرفة، فيصبح ما يفسد أكثر مما يصلح، ويأتي بأمور ما أنزل الله بها من سلطان.
وهذا الحال قديم من عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا يزال يتجدد ويتكرر حتى يومنا هذا.
ففي عصر الرسالة، وُجد من أراد أن يتفرغ للعبادة تمامًا فيصوم أبدًا أو يقوم الليل أبدًا أو لا يتزوج أبدا، ووُجد من اخترع ما ليس عبادة ثم ألبسها لباسها فنذر أن يقوم في الشمس ولا يتكلم وأن يصوم، ووُجد كذلك من نقر صلاته نقرًا سريعًا لم يتِح له أن يطمئن في ركوعها أو سجودها.
لكن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو المعلم والمربي الأول، بين لكل منهم خطأه حتى يحذره، فأخبر الأول أن الإسلام دين الوسطية ولا مجال فيه لمغالاته تلك، وعلم الثاني أن النذر لا يكون إلا في طاعة وأمره أن يجلس ويستظل ويتكلم وأن يتم صومه، وأرشد الثالث إلى أن صلاته تلك لا تنفعه وأنه لا بد من تحقيق الاطمئنان والسكينة فيها.
وفي أيامنا هذه، لا نزال نرى من ينحرف بالعبادة عن هيئتها الصحيحة، أو يزيد فيها ما ليس منها، أو ينقص منها ما يخل بها. فمثلاً، نرى من لا يحسن صلاته، مع أنها عمود الإسلام، فإما أن يخطئ في قراءة الفاتحة، وإما يكثر الحركة كثرة تخل بروح الخشوع فيها، وإما أن يكون على عجلة من أمره فيبدأ وينتهي من صلاته في ثوانٍ معدودة. ونرى كذلك من يكافئ أرحامه في الصلة، فلا يصل إلا من يصله، مع أن الأساس فيها هو الإحسان دون انتظار المقابل، لأنه لا يكون إلا من الله تعالى. وأخيرًا نرى من يخرج بمفهوم الجهاد عن المعنى الصحيح، فتتقد في نفسه شهوة القتل، فلا يرى الناس إلا فريقين، فريق من شيعته ومن ثم فهو معصوم الدم وله أن يفعل ما شاء، وفريق من عدوه حتى لو كان من المسلمين ومن ثم فهو مهدر الدم حتى لو كان خطؤه ناتجًا عن اجتهاد، وهكذا تكون النتيجة هذه الصورة المأساوية التي نراها لواقع المسلمين اليوم، حيث التقتيل مستعر والدماء سائلة في كل مكان، ولا عقل أو دين ينادي على أصحابه أن اتقوا الله فهذه دماء إخوانكم وإن الله تعالى سائلكم عنها.
لهذا كله، كان لا بد للعبادة من علم تقوم عليه وتؤدى به، وكان لا بد لكل مصلح أو ناصح من هدى وبصيرة ترشده في هذه الظلمات، كما قال ربنا جل وعلا: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).
ولا ننسى أن الله تعالى عندما أنزل الرسالة على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، لم يكلفه أول الأمر بعبادته، وإنما أمره أن يعلم أولاً، فقال مخاطبًا إياه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما جهلنا وأن ينفعنا بما يعلمنا، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.