* مقدمة:
وردت في القرآن الكريم عدة آيات تصف القرآن الكريم نفسه بأنه مبارك، وتدعو الناس لتدبّر آياته لينالوا من بركته التي لا تنضب أبداً، ويستخرجوا من كنوز معانيه التي لا تنفد مدداً؛ فقد قال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92]، وقال عز وجلّ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]، وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
فماذا تعني المباركة فيه، وما مجالاتها، وكيف ينال قارئه هذه البركات؟ هذا ما يجيب عنه هذا المقال.
* معاني البركة وأمثلتها الحسّية:
قبل أن أجيب عن الأسئلة السابقة، أودّ أن أمهّد بذكر معاني البركة والمباركة اللغوية، ثم أوضحها بمثال حسّي مشاهد ذكره القرآن الكريم أيضاً.
أما البركة في اللغة، فتعني الكثرةُ فِي كلِّ خيرٍ. والمُبَارَك: مَا يَأْتِي من قبله الخيرُ الكثيرُ. والعربُ تَقول: بَارَكك اللَّهُ وبَارَكَ فيكَ. وَمعنى بَرَكةِ الله: علوٌّ على كل حالٍ، وأصل البَرَكة: الزِّيَادَة والنماءُ. والتَّبْرِيكُ: الدعاءُ للإنسانِ وَغَيره بالبَرَكةِ( ).
وأما المثال الحسيّ لتقريب معاني البركة، فهو مباركة الله تعالى في الأرض وفي أقواتها وما فيها من نفع للإنسان. كما في قوله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)}.
فتأمّل معي -أخي القارئ المكرّم- مقدار المباركة في الأرض، وإليك المقاربات الآتية:
- تأمل سَعة البحار وما فيها من أسماك وحيتان ولؤلؤ ومرجان، وأملاح ونباتات تكفي وحدها غذاء للبشر.
- تأمّل اليابسة، وكم تنبت من أنواع الحبوب والخضار والفواكه ونحوها.
- تأمّل مكامن الأرض كم تحوي من النفط والغاز والمعادن، وغيرها.
- تأمّل في الشجرة العظيمة، كم تضاعف حجمها عما كانت عليه حين كانت غرسة؛ من أين جاءها هذا الحجم الضخم، وهل نقص شيء من الأرض أو التربة، أم على العكس ترى ما حولها ربا وارتفع!
- وانظر إلى ثمار الأشجار؛ أين كانت في الخريف والشتاء، والأشجار نفسها بلا ورق كأنها أعواد يابسة، فكم تحمل الأشجار من الثمار؛ هل نقصت من الأرض شيئاً! وتأمل حلاوتها وحموضتها، هل كان في التربة سكر أو حمض، فمن أين جاءت ملايين الأطنان من السكريات والأحماض! إنها المباركة من الله عز وجل.
- انظر إلى حقول القمح والشعير والذرة والشوفان والعدس والحمّص والفول، ونحوها من الحبوب والبقول، كم وضعت أيها الإنسان من بذور، وكم أنبتت لك الأرض! إنها المباركة من الله الجواد.
- انظر إلى حقول الخضروات وبساتين الفواكه وما شابهها؛ كم بذرت وكم قطفت! إنها المباركة من الله سبحانه.
- انظر إلى الجبال وما فيها من الصخور والحجارة والحصى والتراب. كم يأخذ البشر منها كل يوم، ولا تكاد تنقص.
- تأمّل، تأمّل، تأمّل، وفكر وابحث، واسأل ما شئت وعما شئت. ستجد البركة بارزة واضحة جليّة.
وهذه الأمثلة التقريبية لها هدفان؛
الأول: استشعار نِعم الله علينا، لنديم شكرها، ونعظّم المنعم.
الثاني: التمهيد لفهم المباركة في كتاب الله عز وجل من حيث المعاني والدَّلالات؛ لنعظم منزله، ونتمثل هدايته في حياتنا.
وأنا بهذا أقتدي بأسلوب القرآن الكريم في تقريب المعاني بأمثلة حسّية، وهو كثير في القرآن الكريم، وهو أحد أساليب التعبير الفني فيه، وقد كتب عته علماء وأدباء، ومن ذلك تقريب مدى مضاعفة أجر المنفق في سبيل الله، إنفاقاً صادقاً، بضرب المثل بمضاعفة الحبة التي تلقى في الأرض. قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
* البركة والمباركة في الكتاب (القرآن الكريم):
أخي القارئ الكريم: إذا أدركت بعمق المعاني اللغوية والحسية في الأمثلة السابقة، فيمكنك أن تدرك بنحو مماثل معاني البركة المعنوية في سور القرآن الكريم وآياته وكلماته وحروفه؛ لأن خالق الأرض والأكوان هو منزل القرآن، وجاعل البركة في الأرض هو جاعل البركة في كتابه.
وخالق الأكوان ومنزل القرآن هو خالقك ورازقك أيها الإنسان.
فتعالَ معي نطوف في جنبات القرآن نتدبره، ونعيش في ظلاله، ونستنبط أهمّ جوانب البركة فيه على وجه الإجمال وقليل من التفصيل؛ لأنّ إحصاء البركات فيه لا مطمع للبشر فيه.
وقبل التطواف المتدبّر نستذكر أهم الجوانب المعنوية في حياة الإنسان.
أليست هي: المبادئ العَقَدية الفكرية، والقيم الإنسانية، والأخلاق الفاضلة، والأحكام المنظمة لحياة الإنسان، والمعارف العامة ؟
هذه هي العناوين الرئيسة، وكل واحد منها يشتمل على تفصيلات كثيرة، لا مجال لذكرها هنا، وهي معلومة غالباً، وسترد الإشارات إلى بعضها.
إنّ القرآن الكريم أصل مادة اللغة العربية، في مفرداتها ونحوها وصرفها وبلاغتها.
وإن كان الشعر الجاهلي سابقاً عليه، غير أنه قليل نسبياً، وبعضه مشكوك في ثبوته أو نسبته لقائله. أما القرآن، فهو ثابت بالنقل المتواتر الذي يفيد القطع واليقين.
وصحيح أن القرآن لم يتضمن جميع جذور اللغة العربية، لكنه حوى أمّهاتها، ففيها الكفاية لكل متكلم وكاتب ومشتق؛ لأنها الأساس والأسهل في القياد والاشتقاق.
وفي السنة النبوية جذور أخرى لم ترد في القرآن الكريم، ففيها الإكمال والإتمام لمن أراد المزيد.
وقد أُلّفتْ كتب كثيرة في غريبهما ومفرداتهما، منها تعرف أصول كلام العرب ومشتقاتها.
وكتب علوم اللغة العربية الأصيلة في التراث العربي الإسلامي -وهي تبلغ المئات، بل الآلاف- كلها مرجعها ومستندها القرآن الكريم. هذا في المعاني اللغوية الأدبية للألفاظ والجمل.
أما المعاني الاعتقادية والأخلاقية والفقهية، والدلالات الفكرية لألفاظ القرآن وجمله، فهي مَعِينٌ ثرٌّ لا ينفد مددُه، وليس له نهاية أو حدّ.
ومصداقه قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].
وإذا رجعنا إلى كتب علوم القرآن، لرأينا الذي طبع منها حتى الآن يبلغ المئات، وما ذكره المفهرسون قديماً وحديثاً من أسماء المؤلفين والكتب فيها، يزيد على ذلك بعشرات الأضعاف.
وإذا خصصنا الحديث بكتب تفسير القرآن، فما طبع ونشر منها حتى الآن يزيد عن مئة تفسير، منها التفسير بالمأثور ومنها التفسير بالرأي، ومنها الجامع بينهما. ومنها اللغوي ومنها الفقهي ومنها العلمي، وغير ذلك.
ولا زالت –وستبقى- المعاني تتفجر من أنهاره العذبة إلى يوم القيامة.
فهل هناك كتاب آخر على وجه الأرض كلها لقي من العناية والاهتمام بالقراءة والتدبّر والدراسة والبحث عن معانيه، ما لقيه هذا الكتاب العظيم، الحكيم، المجيد، المبارك؟
وإنّ كثرة ترجماته إلى اللغات الأخرى، قديماً وحديثاً، لدليل صارخ على مدى احتفاء البشرية كلها بهذا الكتاب، حتى من غير المؤمنين به.
إذْ بلغت ترجماته المعروفة إلى اللغات الأوروبية، كاللاتينية واليونانية والألمانية والسويدية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية وغيرها، حتى نهاية القرن التاسع عشر، ما يزيد على مئة وثلاثين ترجمة. وما كان منها في القرن العشرين قريب هذا العدد.
وقد كان للباحث الدكتور محمد سعيد الملاح عناية خاصة بهذه الترجمات، فقام بعمل عظيم في التعرف على هذه الترجمات والكتابة عنها في كتابه (ترجمات القرآن الكريم في أوروبا حتى عام 1900م).
ومن بركة هذا الكتاب العظيم، أنك كلما قرأته مرة ظهر لك من المعاني ما لم يخطر ببالك في المرة السابقة.
ولقد قال بعض العلماء: قرأت القرآن الكريم ألف مرة، وفي كل مرة تظهر لي من معانيه وأنواره ما لم أعرفه من قبل.
وهذه حقيقة يدركها كل مؤمن يُقبل على القرآن بقلبه وعقله، فيتلوه كأن الله تعالى، وهو قائلُ القرآن، يكلّمه به، فتسري المعاني في عقله، والأنوار في قلبه، سريان الماء في أوراق الشجر، فيتلذّذ بها كما يتلذّذ الظمآن بشرب الماء البارد.
وقد ورد في الحديث الشريف "أنَّ فضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه"( ).
وهذه حقيقة يدركها كل مؤمن متدبّر، إذ إنّ كلام البشر كلما رددته وكررت قراءته، بانت لك عيوبه وضعفه. وكلما ردّدت آيات القرآن العزيز، وأكثرت من تلاوته، بانت لك جواهره ومحاسنه التي لم تُبْدَ لك من قبل.
ويكفينا في هذا، ليكون مثالاً توضيحياً، ما نسمع به أو نقرؤه عن إعجازاته البلاغية والعلمية التي يكتشفها العلماء المتخصصون، والباحثون الدراسون، عاماً بعد عام.
فأين كانت هذه المعاني البليغة، وهذه الحقائق العلمية، التي اكتشفوها في جميع أنواع العلوم والفنون؟
إنها كانت كامنة في ثنايا آيات القرآن وكلماته وحروفه، ولكن الله تعالى يكشفها للبشر تباعاً، حيناً بعد حين، مصداقاً لقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت: 53].
وأخيراً، أيها القارئ الكريم، أدعو نفسي وإياك إلى المزيد من التأمل والتدبر في كتاب الله تعالى، المجيد، المبارك.
فإننا إنْ فعلنا ذلك اهتدينا بهداه، وسرنا على صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء.
إنه كتاب مبارك، وبركاته وخيره ونفعه ليس له حدّ ينتهي إليه. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.