لقد خلق الله تعالى الإنسان وخلق له أعضاءه التي تعينه على أداء أعماله وقضاء حوائجه، ومن بين هذه الأعضاء اللسان ذلك العضو الصغير في حجمه ، الخطير في عمله .
فاللسان هو أعظم الأعضاء، وأشدها خطراً على الإنسان ، واللسان قد يأخذ بيد صاحبه إلى النعيم ، وقد يجره إلى هاوية الجحيم ، فقد روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ وَمَا يَرَى أَنَّهَا تَبْلُغُ حَيْثُ بَلَغَتْ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا)[1] .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ أَعْضَاءَهُ تُكَفِّرُ لِلِّسَانِ تَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا ، فَإِنَّكَ إِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وَأَنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا)[2]
فالإنسان قد يتكلم بالكلمة لا يأبه بها ، ولا يعلم لها معنى ، فتكون سبباً في هلاكه ، سواء في الدنيا ، أو في الآخرة .
لذلك فقد حذرنا المولى جل وعلا من خطر اللسان ، وبين لنا أن الإنسان يُسأل ويحاسب عن كل ما ينطق به لسانه ، قال تعالى : (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[3] .
كما بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الصمت وحفظ اللسان ، وأن الإنسان إما أن يتكلم بخير وإلا فالسكوت هو الأفضل ، والأحاديث التي تبين عاقبة سوء الكلام ، وتأمر بحفظ اللسان كثيرة ، نسوق إليكم بعضاً منها لتكون عظة لمن يتعظ ، وعبرة لمن يعتبر ، ورادعاً لمن يرتدع ، وحكمة يضعها نصب عينيه كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
روي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)[4] .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ صَمَتَ نَجَا)[5] .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)[6] .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَجُلا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي أَمْرًا فِي الإِسْلامِ لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ، قَالَ : (قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيَّ شَيْءٍ أَتَّقِي ؟ قَالَ : فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ)[7] .
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ ؟ قَالَ : (لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ، ثُمَّ قَالَ : أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ، قَالَ : ثُمَّ تَلا " تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ " حَتَّى بَلَغَ " يَعْمَلُونَ " ثُمَّ قَالَ : أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ ، ثُمَّ قَالَ : أَلا أُخْبِرُكَ بِمَلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ . فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ : كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ، فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ !! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)[8] .
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(مَنْ تَوَكَّلَ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ)[9] .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِاللَّعَّانِ ، وَلا الطَّعَّانِ[10]، وَلا الْفَاحِشِ[11]، وَلا الْبَذِيءِ)[12] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ[13]، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)[14] .
والإسلام في سبيل دعوة الإنسان إلى حفظ اللسان ، فقد أمر بالصدق ونهى عن الكذب ، وأمر بقول الحق ونهى عن قول الزور ، كما نهى عن الغيبة والنميمة ، وعن السباب والشتم ، واتهام الناس بالباطل ، والخوض في الأعراض ، حتى يصبح المجتمع الإسلامي مجتمعاً راقياً في أسلوبه ، وفي المحافظة على مشاعر أفراده ، صغيرهم وكبيرهم ، ضعيفهم وقويهم ، مرؤوسهم ورئيسهم ، مجتمعاً تسوده المحبة ، والاحترام ، والأدب في التعامل بين أفراده .
وقد نهى الإسلام عن الكذب مطلقاً ، نهى عنه بكافة أشكاله وصوره سداً لطريق الشيطان من أوله ، كما تهدد الكذابين وتوعدهم بعد أن بين العاقبة السيئة للكذب والكذابين .
قال تعالى :
(إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[15] .
وقد روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)[16] .
كما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)[17] .
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : (مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَذِبِ ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِذْبَةِ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً)[18] .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا ، إِلا الْخِيَانَةَ ، وَالْكَذِبَ)[19] .
حتى الكذب الذي قد يظنه بعض الناس بسيطاً أو تافهاً فقد نهى الإسلام عنه ، فنهى عن الكذب على الصغير فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ : دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا ، فَقَالَتْ : هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ ؟ قَالَتْ : أُعْطِيهِ تَمْرًا ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ)[20] .
كما نهى عن الكذب لأجل اللهو والمزاح فقد روي عَنْ بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيه عَنْ جَدِّه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ ، وَيْلٌ لَهُ ، وَيْلٌ لَهُ)[21] .
وروي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ)[22] .
كما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحِ وَالْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا)[23] .
ولما كان القذف هو لون من ألوان الكذب في أبشع صوره ، فقد أغلظ المولى جل وعلا العقاب للقاذف الذي لا يتقي الله في لسانه ، ويطلق له عنانه ، فينتهك الحرمات ، ويخوض في الأعراض ، ويشيع الفاحشة في المجتمع المسلم .
قال تعالى :
(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)[24] .
كما أكد النبي صلى الله عليه وسلم على أن المسلم أخو المسلم ، وأن كل المسلم على المسلم حرام ، كما أن لعرض المسلم حرمة خاصة ، وحمى لا ينبغي لأحد أن يحوم حوله ، أو يقترب منه ، لأنه إن وقع فيه بغير حق هلك وسقط في هاوية الجحيم .
فقد روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لا تَحَاسَدُوا ، وَلا تَنَاجَشُوا[25] ، وَلا تَبَاغَضُوا ، وَلا تَدَابَرُوا[26] ، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ، وَلا يَخْذُلُهُ ، وَلا يَحْقِرُهُ ، التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ ، دَمُهُ ، وَمَالُهُ ، وَعِرْضُهُ)[27] .
وروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِلا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ)[28] .
كما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ ، وَصِيَامٍ ، وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ[29] هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)[30] .
وروي عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ : (يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ ، لا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلا تُعَيِّرُوهُمْ ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ) قَالَ : وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ : مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ !! وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ[31] .
كما روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ)[32] .
وروي عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ : شَهِدْتُ الأَعْرَابَ يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا ، أَعَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا ، فَقَالَ لَهُمْ : (عِبَادَ اللَّهِ وَضَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ[33] إِلا مَنْ اقْتَرَضَ[34] مِنْ عِرْضِ أَخِيهِ شَيْئًا فَذَاكَ الَّذِي حَرِجَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ عَلَيْنَا جُنَاحٌ[35] أَنْ لا نَتَدَاوَى ؟ قَالَ : تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً إِلا الْهَرَمَ[36] ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ قَالَ خُلُقٌ حَسَنٌ)[37] .
ولم يقتصر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في الأعراض ، بل نهى عما هو دون ذلك ، حيث نهى عن السباب والشتم مما أصبح شائعاً في مجتمعاتنا دون رقيب ، أو ضابط ، أو محاسب ، حيث يقتحم مسامعنا السباب والشتم المتبادل بين الناس خاصة الشباب الذين يرمون بعضهم البعض بأخبث الأوصاف ، وأقذع الألفاظ ، وأحطها كما لو كانوا يتبادلون التحية .
وقد روي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ يَا مُخَنَّثُ[38] فَاجْلِدُوهُ عِشْرِينَ ، وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ يَا لُوطِيُّ[39] فَاجْلِدُوهُ عِشْرِينَ)[40] .
كما روي عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : (أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ : وَاللَّهِ مَا أَبِي بِزَانٍ وَلا أُمِّي بِزَانِيَةٍ ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ قَائِلٌ : مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ ، وَقَالَ آخَرُونَ : قَدْ كَانَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا ، نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ)[41] .
هذا ولم تقف حماية الإسلام لعرض المسلم عند تحريم القذف أو تجريمه ، بل أمر الإسلام أن يحافظ المسلم على عرض أخيه المسلم ويحميه كما يحمي عرضه ، ليس في حضرته فحسب بل أمر بحمايته ونصرته والذود عنه حتى في غيبته .
فقد روي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[42] .
كما روي عَنْ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمِ بْنِ زَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ بَشِيرٍ مَوْلَى بَنِي مَغَالَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الأَنْصَارِيَّيْنِ يَقُولانِ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ[43] امْرَأً مُسْلِمًا عِنْدَ مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ[44] فِيهِ حُرْمَتُهُ ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ ، إِلا خَذَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ ، إِلا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ)[45] .
وروي عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ أُرَاهُ قَالَ : بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ، وَمَنْ رَمَى[46] مُسْلِمًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ[47] بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ[48] جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ[49] مِمَّا قَالَ)[50] .
وروي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ ذَبَّ[51] عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ فِي الْغِيبَةِ[52] كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ)[53] .
وقد شدد الله عقاب القاذف ، وجعل القذف من الكبائر العظام ، ومن أقبح الآثام ، وصاحبه ملعون في الدنيا والآخرة .
قال تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[54] .
وسبب اللعن والعذاب أن القذف يجمع كل آفات اللسان من كذب ، وبهتان ، وقول زور ، واتهام بالباطل ، وغيبة ونميمة ، وخوض في الأعراض ، وترويج للشائعات ، لذلك استحق فاعله في الدنيا أشد العقاب وفي الآخرة سوء العذاب .
ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس في زماننا هذا قد أطلقوا العنان لألسنتهم بالسب ، والشتم ، والخوض في أعراض الناس ، واتهامهم بأشنع التهم وأعظمها ، دون أن يقيموا وزناً لما يقولون ، ودون أن ينظروا قبح ما يصنعون ، فتراهم في شرع الله يتساهلون ، وبحدوده يستخفون ، وبعذابه لا يأبهون ، وهو القادر سبحانه على أن يبعث عليهم عذاباً من فوقهم ، أو من تحت أرجلهم ثم لا ينظرون .
عافانا الله وإياكم من ذلك ، وحفظ علينا ألسنتنا ، وجعلنا من الصادقين المتقين ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
[1] - رواه أحمد .
[2] - رواه أحمد .
[3] - سورة ق آية : 18 .
[4] - رواه الترمذي .
[5] - رواه أحمد .
[6] - رواه أحمد .
[7] - رواه أحمد .
[8] - رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .
[9] - رواه أحمد .
[10] - الطعان : الذي يعيب الناس ويقع في أعراضهم .
[11] - الفاحش : سيئ الخلق .
[12] - رواه أحمد .
[13] - فلا يؤذ جاره : بالقول أو بالفعل .
[14] - رواه البخاري .
[15] - النحل 105 .
[16] - رواه مسلم .
[17] - رواه البخاري .
[18] - الترمذي .
[19] - أحمد .
[20] - أبو داود .
[21] - الترمذي .
[22] - أبو داوود .
[23] - أحمد .
[24] - الأحزاب : 58 .
[25] - النجش : الزيادة في ثمن السلعة لخداع الغير .
[26] - التدابر : المعاداة والمقاطعة .
[27] - رواه مسلم .
[28] - رواه البخاري .
[29] - القذف : الاتهام بالزنا دون شهود .
[30] - رواه مسلم .
[31] - رواه الترمذي .
[32] - أبو داود .
[33] - الحرج : الإثم والذنب .
[34] - اقترض : اقتطع والمراد اغتاب ونال من عرض المسلم .
[35] - الجناح : الإثم .
[36] - الهرم : الضعف بسبب الكبر وأمراض الشيخوخة .
[37] - رواه ابن ماجه .
[38] - المخنث : هو الذكر الذي يشبه النساء في هيئته وأحواله .
[39] - لوطي : نسبة إلى قوم لوط .
[40] - رواه ابن ماجه .
[41] - رواه مالك .
[42] - رواه أحمد .
[43] - يخذل : يترك نصرته وعونه .
[44] - الانتهاك : العدوان .
[45] - رواه أحمد .
[46] - رمى : قذف .
[47] - الشين : العيب .
[48] - الجسر : الصراط .
[49] - حتى يخرج مما قال : أي حتى يُنقى من ذنبه ذلك بإرضاء خصمه ، أو بشفاعة ، أو بتعذيبه بقدر ذنبه .
[50] - أبو داود .
[51] - الذب : الدفع والمنع .
[52] - الغيبة : ذكر المرء بما يكره حال غيابه .
[53] - رواه أحمد .
[54] - النور : 23 .