من البديهي القول بعدم خلوّ مجتمع من المجتمعات من الجريمة، ذلك أن الجريمة قديمة قدم الإنسان على الأرض، فأينما وجد البشر وجدت الجريمة، ولا يوجد مجتمع من المجتمعات إلا وبه جرائم وإن تفاوتت درجة وعددا تبعاً لاختلاف الظروف والمكان والزمان، ولو كان من الممكن وجود مجتمع بلا جريمة لكان وبلا شكّ مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعده مجتمع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، لكن ورغم نقاء وتقوى وعفّة ذلك المجتمع فقد وجـدت فيـه بعض الجـرائم مع اختلاف أنـواعها.
ولو عدنا إلى النصّ القرآني لوجدنا أنّه يؤرّخ لأول المخالفات الإنسانية للقوانين والتعليمات الإلهية التي تعتبر جريمة في حدّ ذاتها لأنّ العصيان نوع من أنواع الجرائم، وذلك لمّا عصى آدم وزوجه حواء عليهما السلام ربهما وأكلا من الشجرة التي نهاهما عنها ، فكان الجزاء أن أُخرجا من نعيم الجنّة . ومن نزول آدم إلى البعثة المحمّدية وما بينهما قصص وغرائب تؤكّد بلا شكّ وفي جوانب كثيرة جرائم الإنسان في حقّ ذاته و حقّ المجتمع. ولمّا كان الإسلام ختام الوحي الإلاهي فإنّه لم يحكم على المجتمع الذي نزله وترعرع فيه أنّه مجتمع مثالي ملائكي بلا معاصي أو آثام ، أو جرائم، ذلك أنّ أفراد هذا المجتمع بشر كغيرهم غير معصومين من خوض الصراع الأبدي الذي يخوضه الإنسان وعدوّه الأكبر " الشيطان "، هذا الذي سبق وأن توعد بني آدم بالوسوسة والغواية، وتزيين الفواحش والمعاصي، ويخبرنا القرآن عن ذلك الوعيد على لسان إبليس لعنه الله : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)[1] .
وقال تعالى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً)[2] .
وقد كان لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن بعده فقهاء المسلمين السبق في الحديث عن الجريمة وأسبابها، والمجرم وعلاجه وتقويمه قبل عقابه . وقد روي عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ)[3] . والدارس لأحكام الشريعة الإسلامية يجدها قد أولت الجريمة اهتماماً كبيراً، وعملت على إزالة أسبابها قبل وجودها، وعلاج أعراضها قبل تفشي مرضها .
كما يجد الباحث في الشريعة الإسلامية أنها لم تنظر إلى المجرم على أنه شيطان، أو عضو فاسد في المجتمع يجب بتره والقضاء عليه، والتخلص من شره، ولكنها اعتبرت المجرم حالة مرضية يحتاج إلى الرعاية والعناية والمساندة حتى يشفى ويستعيد عافيته، ويسترد مكانته فيعمل وينتج وينفع نفسه ومن حوله بما يحقق الأمن والاستقرار في المجتمع[4] .
ومن ثم فإن الشريعة الإسلامية وهي في سبيل محاربتها للجريمة لم تبدأ بالمجرم، ولكنها بدأت بعلاج الأسباب ومحاولة إزالتها، أسباب قد تدفع الإنسان إلى ارتكاب جريمة ما ، فنبهت أولي الأمر إلى ضرورة توفير الأمن ، والغذاء ، والدواء ، والكسوة لكافة أفراد المجتمع على السواء . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لأحد ولاته الجدد : ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ فأجاب : أقطع يده . فقال عمر : إذن .. إن جاءني منهم جائع أو عاطل فسوف يقطع عمر يدك .
ثم يؤكد عمر رضي الله عنه على ذلك بقوله : (إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم ، فإذا أعطيناهم هذه النعمة تقاضيناهم شكرها . يا هذا إن الله خلق الأيدي لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية)[5].
كما وضعت الشريعة الإسلامية تدابيراً احترازية وقائية لمنع الجريمة قبل وقوعها ، ونصبت عدة حواجز للحيلولة بين الإنسان المسلم وبين ارتكاب الجرائم ، حيث عملت على تعظيم حرمات الله ، والتخويف من معصية الله ، فأقامت حارساً على نفس كل مسلم يحميه ويمنعه من ارتكاب المعاصي والجرائم المختلفة ، هذا بالإضافة إلى العمل على تقوية الروابط الاجتماعية ببنائها على المحبة ، والنصح ، والتعاون ، ونصرة الحق ، والوقوف في وجه الباطل ، ونبذ الخلافات ، والإصلاح بين المتخاصمين ، والتآخي ، والاتحاد وعدم التفرقة . ثم بعد ذلك وضعت عقوبات صارمة تتناسب مع بشاعة الجرم ، لتكون رادعاً وزاجرا لمن يعتبر، بحيث تكون كفيلة بتأديب الجاني وكفّ شرّه عن الآخرين، حتى يعيش الناس في أمن وأمان واستقرار ، وقد صدق القول عن العقوبات الشرعية : (أنها موانع قبل الفعل زواجر بعده) .
قال الماوردي[6] : (والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر به ، لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة ، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذراً من ألم العقوبة ، وخيفة من نكال الفضيحة ، ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً ، وما أمر به من فروضه متبوعاً ، فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم) .
وقال الإمام ابن القيم : (.. لما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات ، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً ، لذهبت بهم الآراء كـل مذهب ، وتشعبت بهم الطرق كل مشعب ، ولعظم الاختلاف ، واشتد الخطب ، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك ، وأزال عنهم كلفته وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً ، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال ..)[7] .
ومن الجدير بالذكر أن الشريعة الإسلامية قد رتبت لكل جريمة من الجرائم التي تمس كيان الفرد والمجتمع ما يناسبها من العقاب ، وما يليق بها من النكال ، ولعل أثر ذلك يظهر فيما لو استبدلنا عقوبة بأخرى كذلك لو فرضناً عقاباً واحداً لعدة جرائم ، لظهر لنا الاختلال وانعدام العدل في الأحكام .
كما أن الشريعة الإسلامية لم ترتب عقاباً دنيوياً محدداً لكل ذنب أو معصية ، إذ يوجد كثير من الانحرافات[8] قد اكتفى الإسلام فيها بإنذار مرتكبيها بغضب الله وعقابه ، ثم ترك أمر تقدير العقوبة الدنيوية للقاضي بما يراه رادعاً وملائماً في التأديب .
هل يصح وصف حدود الله بالقسوة :
هناك من المتنطعين من وصف حدود الله بالقاسية، وأنها بلا رحمة ولا شفقة ، والحقيقة أن قولهم هذا إنما يعبر عن سوء فهمهم ، وقصر نظرهم من جهة، وعن مدى حقدهم وخبث سرائرهم ومحاولاتهم الدائمة لتشويه شريعة الإسلام من جهة أخرى، والواضح أن جبالهم كلما تمخضت فإنها لا تلد إلا جرذاً !!
إن الذين يزعمون أن الحدود هي عقوبات قاسية غير منصفين في قولهم ، وغير مدركين لسوء عاقبة رأيهم ، ولو أنهم أدركوا ، وعقلوا ، وأنصفوا لما وقفوا في صف المجرم ، ولما أرادوا رحمة من لم يرحم ، ولما نادوا بالعدل مع من بدأ بالظلم ، وهم في سبيلهم لذلك يهدرون حق المجني عليه ، الضحية المسكيـن ، الذي تعرّض لمظلمة بغـير حق ، فسُرِقَ ماله ، أو جُـرح جسده ، أو فُقئت عينـه ، أو فقد سمعه أو بصره ، أو قُتل ظلماً وعـدواناً . وتحقيق العدالة بلا شكّ يقتضي الوقوف في وجه الجاني ومنعه من اعتداءه على الأفراد ، ذلك الاعتداء الذي هو في حقيقته اعتداء على أمن المجتمع واستقراره ، ويؤدي إلى إشاعة الفوضى فيه .
إن المعتدى عليه هو الأجدر بالاهتمام والرعاية وهو الأحق بالعطف ، والشفقة ، والرحمة ، وهو الأولى بتسكين روعه ، وشفاء نفسه برد حقه إليه والقصاص له من ذلك المجرم الذي اعتدى عليه .
وتحقيق العدالة يقتضي التصدي للمجرمين وردعهم بتشريعات عقابية تتناسب مع جرائمهم ، بحيث لو علم المجرم أن العقاب الذي سينزل به إن ارتكب جريمته زاجراً رادعاً فإنه يمتنع ، وإن لم يمتنع لجهل أو حماقة أو غير ذلك وطبق عليه الحد ، ورأى غيره من المجرمين ما نزل به من عقاب أو سمع به ارتدعوا ، وإلا فلا داعي لعقاب المجرم ، ولندع كل مظلوم يثأر أو ينتقم لنفسه بنفسه أو بواسطة مأجورين ، وتسقط هيبة الدولة والقانون ، ويصبح الإنسان أضل من حيوان في الغابة .
ومن ثم فإن الغرض من تطبيق الحدود في الشريعة الإسلامية هو حفظ التوازن بين حقوق الفرد والمجتمع معاً ، فكما أن من حق الفرد على مجتمعه حمايته وتحقيق مصالحه وحفظها ، كذلك فإن للمجتمع حقوقاً على الفرد تتمثل تلك الحقوق في عدم المساس بكيانه وصيانته من أي اعتداء ، وبالجملة الحصول على حياة آمنة هادئة وكريمة لكافة أفراده .
ولعل ما نراه الآن من مفاسد، وفوضى اجتماعية ، واختلال أمني بسبب كثرة الجرائم ، وزيادة أعداد المجرمين ، إنـما هو بسبب تعطيل الحدود والعقـوبات الشرعيـة ، واستبدالها بعقوبات ظالمة لا رحمة فيها ، ولا ردع ، ولا مصلحة أو منفعة ترجى من وراء تطبيقها بل إن تطبيق تلك العقوبات يضر بالفرد بشكل مباشر ، كما يضر المجتمع بشكل غير مباشر .
لقد انحصرت العقوبات في القوانين الوضعية في عقوبتين[9]هما : الإعدام ، والسجن أو الحبس وهو أبرز هذه العقوبات وأهمها وأكثرها تطبيقاً مع اختلاف مدته حسب نوع الجريمة .
وقد أثبتت العديد من الدراسات والإحصائيات أن الجرائم في ظل تلك العقوبات لم يتوقف نشاطها ولم تتراجع نسبتها ، بل إن معدلات الجرائم في ازدياد مستمر ، ولعل أبلغ دليل على ذلك سجلات المحاكم ، وسجلات مصلحة السجون ، وأعداد القضاة والمحامين التي تتزايد يوماً بعد يوم .
وحقيقة الأمر أن الواقع يقرر فشل عقوبات القوانين الوضعية في ردع المجرمين وتأديبهم ، وفشلها كذلك في منع الجريمة والقضاء عليها ، ومن ثم فإنه لم يبق أمامنا إلا حدود الله ، ولم يبقى لنا إلا شرع الله ، فهل لنا أن نعود إلى ديننا ، إلى كتاب ربنا ، إلى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى :
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)[10] .
ضمانات تطبيق الحدود :
ينبغي التنبيه أن الحدود في الشريعة الإسلامية قد أحيطت بضمانات كثيرة لتحقيق العدالة ، وأن إثباتها قد اقـترن بضمانات قوية لمنع الظلم ، أو الانتقام ، أو المحاباة ، أو الكذب ، ولعل أهم ضمانات وأسس تطبيق الحدود هي :
1ـ لا يحق للحاكم أن يعفو عن حد من حدود الله جل وعلا ، لأن الحد هو حق الله تعالى فإذا رفع إلى الحاكم أقامه ، وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ[11] عَثَرَاتِهِمْ[12] إِلا الْحُدُودَ)[13] .
وقال صلى الله عليه وسلم : (.. فَمَا أَتَانِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ)[14] .
2ـ لا يحق للحاكم أن يقبل شفاعة في حد من حدود الله تعالى ، فقد روي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا : وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟! ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ، ثُمَّ قَالَ :
(إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)[15] .
إن قبول الحاكم الشفاعة في حد من حدود الله هو من باب إرضاء الناس بسخط الله تعالى ، وهو منهي عنه ، لأن من يفعل ذلك يكله الله إلى الناس ولن يغنوا عنه من الله شيئاً ، وسوف يرتد عليه فعله بأن يبوء بسخط الله وسخط الناس ، فقد روي أن معاوية كتب إلى السيدة عائشة رضي الله عنها : أن اكتبي إلي كتاباً توصيني فيه ، ولا تكثري عليَّ . فكتبت إليه : سلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ) ، والسلام عليك[16] .
3ـ لا يحق لمؤمن أن يشفع أو يتوسط للحيلولة دون إقامة حد من حدود الله تعالى ، فقد روي عن عبد الله بن عمر أنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ[17] حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)[18] .
4ـ لا يحق للحاكم أن يأمر بإقامة حد لم يرفعه إليه المجني عليه بنفسه ، فلا يحق له قبول وشاية ، أو أن يأمر بالتجسس أو التنصّت على أحد ، كما لا يحق له تتبع عورات الناس من أجل إقامة الحدود .
ومن ثم فقد اشترطت الشريعة الإسلامية للشهادة على الزنا شروطاً يصعب تحققها ، حيث لا تقبل إلا من أربعة شهود تتطابق شهادتهم تطابقاً تاماً ، فإذا اختلفت شهادتهم مع إصرارهم على موقفهم أقيم عليهم حد القذف ، وما ذلك إلا للستر على عرض المسلم ، فإن الستر على المسلم أولى من إقامة الحد عليه وفضحه بين الناس ، فقد روي عن نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ أَنَّ هَزَّالا كَانَ اسْتَأْجَرَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ ، وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا فَاطِمَةُ قَدْ أُمْلِكَتْ ، وَكَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا لَهُمْ ، وَإِنَّ مَاعِزًا وَقَعَ عَلَيْهَا ، فَأَخْبَرَ هَزَّالا فَخَدَعَهُ فَقَالَ : انْطَلِقْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ عَسَى أَنْ يَنْزِلَ فِيكَ قُرْآنٌ ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَ ، فَلَمَّا عَضَّتْهُ مَسُّ الْحِجَارَةِ انْطَلَقَ يَسْعَى ، فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ بِلَحْيِ جَزُورٍ أَوْ سَاقِ بَعِيرٍ فَضَرَبَهُ بِهِ فَصَرَعَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (وَيْلَكَ يَا هَزَّالُ لَوْ كُنْتَ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرًا لَكَ)[19] .
كما روي عن عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ ، فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ)[20] .
فالإسلام لا يحبذ العـقاب على الجـرائم إلا إذا أعلنها فاعلها وكشف أمره فيها ولم يستتر عن الناس ، أما إذا تاب بينه وبين ربه ، ولم يعترف أمام الحاكم بجرمه ، ولم يطالب بإقامة الحد عليه فليترك وشأنه ، فقد روي عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوْطٍ ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ : فَوْقَ هَذَا ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ فَقَالَ : دُونَ هَذَا ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلانَ ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ ، ثُمَّ قَالَ : (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ ، مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ)[21] .
5ـ يحق للحاكم أن يقبل عفو المجني عليه عن الجاني ما لم يختصمه بنفسه ، فإن رفع المجني عليه أمره إلى الحاكم سقط حقه في العفو ، إلا في القصاص فإنه لا يسقط حقه في العفو عنه أبداً ، فقد روي عن عمرو بن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (تَعَافَوْا الْحُدُودَ[22] قَبْلَ أَنْ تَأْتُونِي بِهِ ، فَمَا أَتَانِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ)[23] .
كما روي عن صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ قِيلَ لَهُ : هَلَكَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ . قَالَ فَقُلْتُ : لا أَصِلُ إِلَى أَهْلِي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمُوا أَنَّهُ هَلَكَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ ، قَالَ : (كَلا أَبَا وَهْبٍ ، فَارْجِعْ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ . قَالَ : فَبَيْنَمَا أَنَا رَاقِدٌ إِذْ جَاءَ السَّارِقُ فَأَخَذَ ثَوْبِي مِنْ تَحْتِ رَأْسِي فَأَدْرَكْتُهُ ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : إِنَّ هَذَا سَرَقَ ثَوْبِي فَأَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطَعَ ، قَالَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا أَرَدْتُ ، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، قَالَ : فَهَلا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ)[24] .
وعن العفو عن القصاص حتى بعد رفعه إلى الحاكم فقد روي عن عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلٍ عَنْ وَائِلٍ قَالَ : شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَ بِالْقَاتِلِ يَقُودُهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ فِي نِسْعَةٍ[25]، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ : أَتَعْفُو ؟ قَالَ : لا . قَالَ : فَتَأْخُذُ الدِّيَةَ ؟ قَالَ : لا قَالَ : فَتَقْتُلُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : اذْهَبْ بِهِ ، فَلَمَّا ذَهَبَ فَوَلَّى مِنْ عِنْدِهِ دَعَاهُ ، فَقَالَ : أَتَعْفُو ؟ قَالَ : لا . قَالَ : فَتَأْخُذُ الدِّيَةَ ؟ قَالَ : لا . قَالَ : فَتَقْتُلُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : اذْهَبْ بِهِ . فَلَمَّا ذَهَبَ فَوَلَّى مِنْ عِنْدِهِ دَعَاهُ ، فَقَالَ : أَتَعْفُو ؟ قَالَ : لا . قَالَ : فَتَأْخُذُ الدِّيَةَ ؟ قَالَ : لا . قَالَ : فَتَقْتُلُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : اذْهَبْ بِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ : أَمَا إِنَّكَ إِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ ، فَعَفَا عَنْهُ وَتَرَكَهُ فَأَنَا رَأَيْتُهُ يَجُرُّ نِسْعَتَهُ)[26] .
وعن أبي الدَّرْدَاءِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي)[27] .
6ـ كما يجب على الحاكم مراعاة عدة أمور عند إقامة الحد ، من هذه الأمور :
· لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه ، وذلك لمصلحة الناس ، وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم . والإمام أقدر على إقامة الحدود لشوكته ، ومنعته ، وانقياد الرعية له ، كما أن تهمة الانتقام أو التشفي أو الميل أو المحاباة أو التواني عن الإقامة منتفية في حقه .
· آلة الحد هي السوط ، ويضرب المحدود معتدلاً قاعداً ، غير مربوط مخلي اليدين ، على الظهر والكتفين دون غيرهما ، ويفرق عليه الضرب في ظهره ويتجنب مقاتله .
· يجرد الرجل من ثيابه بما يكشف ظهره ، ويترك على المرأة ما يسترها ولا يقيها حر الضرب .
· ومتولي الضرب يكون وسطاً من الرجال ، فلا يكون قوياً ، ولا ضعيفاً ، قال الإمام أبو حنيفة : ضرب الزاني أشد من ضرب القاذف ، وضرب القذف أشد من ضرب الشرب .
· وتقام الحدود على الفور ، ولكن يؤخر الحد إن خشي هلاك المحدود ، وينتظر للجلد اعتدال الهواء ، وإن خيف على السارق أن يقطع في البرد أخر ، ويؤخر المريض حتى يشفى ، إن الواجب هو الجلد أو القطع وكان المرض مما يرجى برؤه ، فإن كان المرض مما لا يرجى برؤه ، أو كان الجاني ضعيفاً لا يحتمل السياط ، فهذا يقام عليه الحد في الحال ، إذ لا غاية تنتظر ولكنه يضرب ضرباً يؤمن معه هلاكه ، فقد روي عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ : كَانَ بَيْنَ أَبْيَاتِنَا إِنْسَانٌ مُخْدَجٌ[28] ضَعِيفٌ لَمْ يُرَعْ أَهْلُ الدَّارِ إِلا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إِمَاءِ الدَّارِ يَخْبُثُ بِهَا ، وَكَانَ مُسْلِمًا فَرَفَعَ شَأْنَهُ سَعْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : (اضْرِبُوهُ حَدَّهُ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ ، قَالَ : فَخُذُوا لَهُ عِثْكَالاً[29] فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ[30] فَاضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً وَخَلُّوا سَبِيلَهُ)[31] ، أما إن كان الحد الواجب هو الرجم فلا يؤخر تنفيذه للمرض لأن نفسه مستوفاة ، إذ لا فرق بينه وبين الصحيح ، فإن كان ثبوت الحد بالإقرار أخر حتى يبرأ ، لأنه ربما يرجع في إقراره أثناء الرمي .
· ولا يقام الحد رجماً كان أو غيره على حبلى ولو من زنا حتى تضع حملها ، لئلا يتعدى إلى الحمل ، لأنه نفس محترمة لا جريمة منه . ثم إن كان الحد رجماً لم ترجم حتى تفطمه ليزول عنه الضرر ، فإن وجد من يكفله أقيم عليها الحد ، وذلك لما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنْ الأَزْدِ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي ، فَقَالَ : وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ . فَقَالَتْ : أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ . قَالَ : وَمَا ذَاكِ ؟ قَالَتْ : إِنَّهَا حُبْلَى مِنْ الزِّنَى . فَقَالَ : آنْتِ . قَالَتْ : نَعَمْ . فَقَالَ لَهَا : حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ . قَالَ : فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ ، قَالَ : فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قَدْ وَضَعَتْ الْغَامِدِيَّةُ ، فَقَالَ : إِذًا لا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ : إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ . قَالَ : فَرَجَمَهَا)[32]. وإن كان الحد جلداً ، فتحد بعد الوضع وانقطاع النفاس إذا كانت قوية يؤمن معه هلاكها ، أما إن كانت في نفاسها أو ضعيفة يخشى عليها ، فلا يقام عليها الحد حتى تطهر وتقوى ليستوفى الحد على وجه الكمال من غير خوف فواته وذلك لما روي عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِيِّ قال : خَطَبَ عَلِيٌّ فَقَالَ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى أَرِقَّائِكُمْ مَنْ أَحْصَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ وَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا فَأَتَيْتُهَا فَإِذَا هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا ـ أَوْ قَالَ تَمُوتَ ـ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ أَحْسَنْتَ)[33] .
· يؤخر إقامة الحد على السكران حتى يفيق ليحصل المقصود من إقامة الحد ، وهو الزجر ، والردع ، لأن غيبوبة العقل أو غلبة النشوة تخفف الألم .
· ويقام الحد في السفر وفي الحضر ، ويقيم أمير الجيش الحدود ببلاد الحرب على أهل الجيش في السرقة وغيرها ، فقد روي عن الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ أَنَّهُ جَلَسَ مَعَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَالْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيِّ فَتَذَاكَرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِعُبَادَةَ يَا عُبَادَةُ كَلِمَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا فِي شَأْنِ الأَخْمَاسِ فَقَالَ عُبَادَةُ قَالَ إِسْحَاقُ فِي حَدِيثِهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فِي غَزْوِهِمْ إِلَى بَعِيرٍ مِنْ الْمَقْسِمِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَاوَلَ وَبَرَةً بَيْنَ أُنْمُلَتَيْهِ فَقَالَ : (إِنَّ هَذِهِ مِنْ غَنَائِمِكُمْ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي فِيهَا إِلا نَصِيبِي مَعَكُمْ إِلا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ ، وَلا تَغُلُّوا فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَجَاهِدُوا النَّاسَ فِي اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ ، وَلا تُبَالُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ ، وَأَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عَظِيمٌ ، يُنَجِّي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ الْغَمِّ وَالْهَمِّ)[34] .
· لا رأفة في الحدود ، قال تعالى في سورة النور : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) ، قيل هو في إسقاط الحد وقيل في تخفيفه ، وقيل : هو محمول عليهما معاً ، فلا يسقط الحد على الزاني ، ولا يخفف عنه دون موجب .
· ويقام الحد علانية أمام الناس لردع المحدود ، وزجر من شهده ، وليشيع حديثه فَيٌعْتَبَر به من بعده ، قال تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)[35] .
· وأخيراً تحرم إقامة الحدود في المساجد ، لما روى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (لا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَلا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ)[36] ، ولأن تعظيم المسجد واجب ، وإقامة الحدود فيه ترك لتعظيمه ، ولا خلاف في إقامتها في الحرم على من ارتكب موجب الحد فيه ، أما من ارتكبه خارج الحرم ولجأ إليه فلا يستوفى فيه الحد لقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا)[37] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ ، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)[38] .
[1] - سورة الحجر آية : 39 : 40 .
[2] - سورة النساء آية : 120 .
[3] - رواه الترمذي ، وأحمد ، وابن ماجه ، والدارمي ، وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مَسْعَدَة عن قتادة .
[4] - كان المعتقد السائد عند غير المسلمين أن المجرم شخص تمتلكه روح شريرة ، وهو تفسير ما يزال موجوداً في المجتمعات التي ينتشر فيها السحر ، والجهل ، والتي تعزو الانحراف والجريمة إلى استحواذ جني أو عفريت على عقل الإنسان وروحه .
[5] - الحدود في الإسلام بين الوقاية والعلاج ـ د/ محمود محمد عمارة ـ الأستاذ بجامعة الأزهر .
[6] - الأحكام السلطانية للماوردي .
[7] - إعلام الموقعين عن رب العالمين جـ 2 .
[8] - من هذه المخالفات : شهادة الزور ، والتعامل بالربا ، وتطفيف الكيل والميزان ، والغش في المعاملات ..الخ .
[9] - إن الغرامة وإن كانت عقوبة إلا أنها يتم تحصيلها لمصلحة وزارة العدل ، ونظراً لعدم استفادة المضرور أو المجني عليه منها مباشرة ، فإنه يرى أنه حتى مع الحكم بها أن الجاني قد أفلت من العقاب !!
[10] - سورة الحديد آية : 16 .
[11] - ذوي الهيئات : أصحاب الخصال الحميدة والأخلاق المرضية .
[12] - العثرة : الزلة والسقطة .
[13] - سنن أبي داود .
[14] - سنن النسائي .
[15] - رواه البخاري .
[16] - سنن الترمذي .
[17] - ردغة الخبال : الطين والوحل ، وما يسيل من عصارة أهل النار .
[18] - سنن أبي داود .
[19] - مسند الإمام أحمد .
[20] - سنن الترمذي .
[21] - موطأ الإمام مالك .
[22] - تعافوا الحدود : أي تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إلي ، فإني متى علمت بها أقمتها .
[23] - سنن النسائي .
[24] - مسند الإمام أحمد .
[25] - النسعة : حبل من جلد مضفور .
[26] - سنن النسائي .
[27] - سنن ابن ماجه .
[28] - مخدج : ناقص ضعيف .
[29] - العثكال : جريد النخل .
[30] - شمراخ : أي أغصان النخل عليها الثمر .
[31] - رواه أحمد .
[32] - رواه مسلم .
[33] - سنن الترمذي .
[34] - مسند الإمام أحمد .
[35] - سورة النور آية : 2 .
[36] - سنن الترمذي .
[37] - سورة آل عمران الآية : 97 .
[38] - رواه البخاري .
تدقيق لغوي : أحمد اللطيّف