في التعريف اللغوي للحكمة كما في القاموس؛ "الحكمة بالكسر: العدل، والعلم، والحِلم، والنبوَّة، والقرآن، والإنجيل. وأحكمه: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد، كحكمه حكما"[1].
وبالنصب "(الحَكَمَة) وزَانُ قَصَبَة للدابة سُمِّيت بذلك لأنها تذلِّلها لراكبها حتى تمنعها الجِماح ونحوَه، ومنه اشتقاق (الحِكمة) لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال"[2]. وكذلك "الحكمة: العدل. ورجل حكيم: عدل حكيم. وأحكم الأمر أتقنه... والحكيم: المتقن للأمور"[3]. وأيضا "الحكمة: وضع الشيء في موضعه"[4]، و"الحكمة من العلم، والحكيم العالم وصاحب الحكمة. والحكيم أيضا المتقن للأمور"[5]. و"الحكمة: علم يُبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود بقَدْر الطاقة البشرية، فهي علم نظري غير آليّ"[6].

- الحكمة في القرآن الكريم:
جاء ذكر الحكمة مرات كثيرة في القرآن الكريم، وفي عدة أماكن من آياته وسوره، وعلى عدة معان حسب المواضيع التي تناولها القرآن الكريم، منها: "حكمة- أ: صواب من قول وعمل، وعلم نافع.
حكمة: ﴿(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾)[سورة آل عمران، الآية:81].
حكمة بالغة- بـ: عظة وعبرة.
حكمة بالغة: ﴿(حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ)﴾[سورة القمر، الآية:5].
الحكمة: (﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)﴾[سورة البقرة، الآية:129]. واللفظ في 151/ 231/ 251/ 269/ مكرر/ البقرة أيضا، و48/ 164/ آل عمران، و54/ 113/ النساء، و110/ المائدة، 125/ النحل، و34/ الأحزاب، و20/ ص، و63/ الزخرف، و2/ الجمعة"[7].
وأن الله تعالى أمر بالحكمة فقال: ﴿(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾)[سورة النحل، الآية:125].
وقد اختلف المفسرون في تحديد معنى الحكمة في القرآن الكريم كما ذكر ابن كثير في تفسيره، في قوله تعالى: (﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ﴾)[سورة البقرة، الآية:269]. "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله. وروى عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا (الحكمة القرآن).
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: يعني بالحكمة الإصابة في القول.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد (﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ)﴾ ليست بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن.
وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله فإن الله رأس كل حكمة... وقال أبو العالية في رواية عنه: الحكمة الكتاب والفهم.
وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم.
وقال أبو مالك: الحكمة السنة، وقال ابن وهب عن مالك قال زيد ابن أسلم: الحكمة العقل، قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله. وقال السدي: الحكمة النبوة"[8].
وبعد أن ذكر ابن كثير كل الأقوال التي قيلت في الحكمة، أردَف قائلا: "والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في بعض الأحاديث"[9].
وفي تفسير الكشاف للزمخشري: "((يؤتي الحكمة)) يوفق للعلم والعمل به، والحكيم عند الله هو العالم العامل"[10].
و"الحكمة: هي الصواب في القول والعمل، وعلى التحقيق فالحكمة: إصابة الحق بين المتشابه، وفعل ما هو الأولى والأفضل مع وجود الموانع، والحكمة أيضا: فهم القرآن الحكيم"[11]. وكذلك "الحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وهذا هو الذي وُصف به لقمان في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾)[سورة لقمان، الآية:12]. ونبَّه على جُملتها"[12]، وأيضا فإن: "حكمة: صواب من قول وعمل وعلم نافع"[13].

- الحكمة في السنة النبوية:
سأكتفي بذكر الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحكمة، وهي:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسُلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)"[14].
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "ضمّني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: (اللَّهُمَّ عَلِّمْه الحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ)"[15].
كذلك عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، أن رسول الله قال: (إن من الشعر حكمة)"[16].
وقال ابن حجر العسقلاني: "قوله (إن من الشعر حكمة) قولا صادقا مطابقا للحق. وقيل: أصل الحكمة المنع، فالمعنى إن من الشعر كلاما نافعا يمنع من السفه"[17].
هذه جملة الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها وهناك غيرها مشتهرة على ألسنة الناس لكنها ضعيفة.

الله تبارك وتعالى أعطى أهمية للحكمة حتى قرنها بالقرآن الكريم في العلم والحكم والتزكية والعمل، قال الله تعالى: (﴿وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾)[سورة النساء، الآية:113].
وقال تعالى: (﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾)[سورة البقرة، الآية:151].
وقال تعالى: (﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾)[سورة النساء، الآية: 54].
وقال تعالى: ﴿(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)﴾[سورة الجمعة، الآية:2].
وقال تعالى في حق لقمان الحكيم: (﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾)[سورة لقمان، الآية:12].
وقال تعالى في الحكمة: (﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ، وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾)[سورة البقرة، الآية:269].
يتبين لنا أن الحكمة غير القرآن وغير السنة عكس ما ذهب إليه الكثيرون ممن اعتبروا الحكمة هي السنة، فالحكمة هي الآراء العقلية الصائبة، والأنبياء أيضا كانوا يجتهدون في الرأي، والنبي صلى الله عليه وسلم اجتهد في فهم القرآن وتطبيقه، ومن هنا جاءت السنة النبوية التي هي الفهم النبوي للقرآن، وهي مؤيدة بالوحي في حق النبي، ويمكن القول بين الحكمة والسنة عموم وخصوص.
فالحكمة إذن عامة لكل الناس الذين يحسنون ترتيب المبادئ الذهنية والاجتهادات العقلية، وفي ذلك قوله تعالى في حق لقمان: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾، فلقمان لم يكن نبيا وإنما كان رجلا حكيما وقد خلد الله كلامه في القرآن في وصاياه العشر لابنه وهو يعظه.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى عن الحكمة : (﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ، وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾). فالحكمة هي هبة إلهية للإنسان.
ومن هنا نفهم أن العلم بالقرآن لا يحصل إلا بالحكمة التي تتحصل عن طريق التدبر والتفكر واستعمال العقل، وكذلك نخلص إلى أن القرآن الكريم كتاب يجعل من العقل أداة لفهمه وليس كما يدعي الجاهلون أن لا دخل للعقل في الحكم على النقل، وسمى المسلمون الأوائل الفلسفة بالحكمة إذ اعتبروا أن الفلسفة هي نشاط عقلي وترتيب ذهني ينتج عنه الحكم الصحيح لوضع الأشياء في موضعها المناسب، و(الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق الناس بها) كما في الأثر المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد "أطلِق لفظ الحكمة عند اليونانيين على العلم، ثم أطلق على إحدى الفضائل الأصلية، وهي: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة، ثم أطلق بعد ذلك على العلم مع العمل"[18]، و"الحكمة أيضا هي الفلسفة، أي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم"[19] وكذلك "قيل: الحكمة معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة، وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة ما للإنسان وما عليه، أو هي معرفة الحق لذاته، ومعرفة الخير لأجل العمل به"[20]، فالحكمة بهذا تكون هي إصابة الحقيقة، وكل ما يفيد العلم والعمل به.

-------------------------------
الهوامش :
[1] القاموس المحيط للفيروز آبادي، دار الحديث، القاهرة، س ط: 1429ه-2008م، مادة: (حكم)، ص: 389.
[2] المصباح المنير للفيومي، دار المعارف ، ط:2، دون ذكر سنة الطبع، ج:1، ص:145.
[3] لسان العرب لابن منظور، ص:953.
[4] الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، للقاضي زكريا محمد الأنصاري، دار الفكر المعاصر، بيروت-لبنان، ط: الأولى، 1411ه-1991م، ص: 73.
[5] مختار الصحاح للرازي، مكتبة لبنان، بيروت، س ط: 1986. مادة: (حكم)، ص : 62.
[6] معجم التعريفات، الجرجاني، تحقيق محمد صّيق المنشاوي، دار الفضيلة، القاهرة، بدون ذكر الطبعة وسنة الطبع، ص:81.
[7] معجم ألفاظ القرآن الكريم، ج:1، مجمع اللغة العربية، مصر، ط:2، 1409ه-1988م، ص : 312.
[8] تفسير ابن كثير، مكتبة النور العلمية، بيروت، دون ذكر الطبعة ولا سنة الطبع، ج:1، ص:304.
[9] المصدر نفسه، ص:304.
[10] تفسير الكشاف للزمخشري، دار المعرفة، بيروت-لبنان، ط.3، س ط: 1430ه-2009م، ص:151.
[11] تفسير ابن برجان، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط:1، س ط: 1434ه-2013م، ج:1، ص: 455-456.
[12] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت-لبنان، دون ذكر الطبعة وسنة الطبع، ص: 127.
[13] معجم ألفاظ القرآن الكريم، ج:1، ص: 312.
[14] رواه البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، رقم الحديث: 73.
[15] رواه ابن ماجة، باب فضل ابن عباس، رقم: 166.
[16] فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، دار الريان للتراث، سنة النشر: 1407ه-1986م، ح:1، ص: 554.
[17] المصدر نفسه، ص: 556.
[18] المصدر نفسه، ص:491-492.
[19] المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، دون ذكر الطبعة، س ط:1982، ج:1، ص :491.
[20] المصدر نفسه، ص : 992.

 

 

التدقيق اللغوي: أبو هاشم حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية