تلقيت رسالة من أحد أصدقائي الجهابذة في اللغة العربية، مقولة منسوبة إلى داعية إسلامي معروف وهو إلى ذلك أستاذ بإحدى الجامعات، ومفاد هذه المقولة أنه من الخطأ الشائع أن نقول (نِعم الله لا تُعد ولا تُحصى) وأضاف قائلا - أي الداعية - إن الصواب أن نقول إن (نِعم الله تُعد ولا تُحصى) ودليله  على ذلك، قول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [إبراهيم، 18]، وأضاف الداعية قائلا: (فقد أثبت الله العد ونفى الإحصاء). انتهى الكلام المنسوب للداعية، وقد سألني صديقي عن رأيي في هذا الكلام ومدى موافقتي له.
فقلت : بداية ينبغي التأكد من نسبة هذا الكلام إلى الداعية المعروف الذي هو أستاذ جامعي متخصص في مجال الشريعة ولاشك أنه أعلم مني بالتفسير. وأضفت: ولكن رأيي الشخصي على هذا الكلام أنه غير دقيق لعدة أسباب؛ منها: أن العد والإحصاء في اللغة هما بمعنى واحد. قال تعالى (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم، 94]. وبهذا جاءت المعاجم، إذ يقول ابن منظور في (لسان العرب) مادة (عدد): (العَدُّ: إِحْصاءُ الشيءِ، عَدَّه يَعُدُّه عَدّاً وتَعْداداً وعَدَّةً وعَدَّدَه). وقال في مادة (حصي): (والإحْصاءُ العَدُّ والحِفْظ). وقال الألوسي في (روح المعاني) في تفسير الآية السابقة [مريم، 94]: (وأصل الإحصاء العد بالحصى فإن العرب كانوا يعتمدونه في العد ثم استعمل لمطلق العد).


وثاني الأسباب أن معنى الآية الكريمة التي استشهد بها الداعية وهي قوله تعالى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) يحتمل من ناحية اللّغة أن يكون المقصود منه، ليس إثبات العد كما توهّم الداعية، وإنما من المحتمل أن يكون المقصود بقوله تعالى (وإن تعدوا) هو (وإن أردتم العد) لأن اللغة العربية قد يأتي الفعل فيها ويكون المراد به لا الفعل نفسه، ولكن نية عمل الفعل. وذلك كما في قوله تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل، 98]، قال الزمخشري في (الكشاف) عند تفسير الآية: (والمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله: "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ"(المائدة: 6))، انتهى كلام الزمخشري. ثم قلت للصديق: وعلى هذا يمكن أن يُحمل معنى قوله تعالى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) أي (إذا أردتم أن تعدوا نعمة الله فلن تستطيعوا إحصاءها). وإنما قلتُ - يُحتمل أن يكون المعنى كذلك - لأني لا أريد أن أفتي في كتاب الله بغير علم. فلم يسبق لي أن سمعت هذا التفسير من عالم، ولا قرأته في كتاب، وإنما هو خاطر خطر لي عندما قرأت المقولة المنسوبة لذلك الداعية.
ثم عنًّ لي أن أراجع كتب التفسير لأرى صحة توجيهي للآية الكريمة. فرجعت إلى أمهات كتب التفسير خاصة ما يهتم منها بالتفسير البياني للقرآن الكريم، وأول ما رجعت إليه هو تفسير (الكشاف للزمخشري)، فلم أجده يفصّل في شرح الآية وإنما يوردها وكأنها معروفة مفهومة. فراجعت تفسير (التحرير والتنوير) لابن عاشور، وهو من التفاسير الرائعة التي تعنى بالتفسير البياني، فلم أجد لديه من التفصيل ما يشفي غليلي، وهكذا راجعت عدة تفاسير منها (روح المعاني) للألوسي، وتفسير الفخر الرازي (مفاتيح الغيب)، و(جامع البيان في تفسير القرآن) للطبري، وكلها لم أجد فيها ما أبحث عنه. وبعد أن كدت أيأس، خطر في بالي أن أراجع خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله، فوجدته يذكر بالنص ما دار بذهني عند قراءة الآية الكريمة، ولم أكن قد سمعته  من أحد قبله أو اطلعت عليه مكتوباً، فحمدت الله تعالى على هذا الالهام وحسن الفهم لكتابه العزيز، وعجبت كيف غاب معنى قريب مثل هذا عن مثل هذا الداعية المعروف.
وإليكم نص ما ذكره الشيخ الشعراوي رحمه الله أورده بتمامه لأهميته:
وأنت إذا نظرتَ إلى قول الحق سبحانه: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا.. } [إبراهيم: 34]. ستجد الكثير من المعاني، ولكن مَنْ يحاولون التصيُّد للقرآن يقولون: إن هذا أمر غَيْر دقيق؛ فما دام قد حدث العَدّ؛ فكيف لا يتم الإحصاء؟ وهؤلاء ينسوْنَ أن المقصود هنا ليس العدّ في ذاته؛ ولكن المقصود هو إرادة العدِّ. ولو وُجِدت الإرادة فليس هناك قدرة على استيعاب نعم الله، ومن هنا لا نرى تعارضاً في آيات الله، وإنما هو نسق متكامل، فأنت لا تُقبِل على عَدِّ أمر إلا إذا كان غالبُ الظن أنك قادرٌ على العَدِّ، وذلك إذا كان في إمكان البشر، ولكن نعم الله فوق طاقة مقدور البشر. والمثَل أيضاً على مسألة إرادة الفعل يمكن أن نجده في قوله الحق: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. ونحن لا نغسل وجوهنا لحظة أن نقومَ بالصلاة؛ ولكننا نغسلها ونستكمل خطوات الوضوء حين يُؤذّن المؤذن ونمتلك إرادة الصلاة، فكأن القول هنا يعني: إذا أردتُم القيام إلى الصلاة فافعلوا كذا وكذا.
وعودة إلى مقولة الداعية، يتضح أن الآية الكريمة لم تثبت العدّ، كما توهّم، بل تثبت إرادة العدّ، كما أن العدّ والإحصاء بمعنى واحد في اللّغة. وعليه، فإن من الصواب أن نقول: (إن نعم الله لا تُعدُّ ولا تُحصى).


المرجع:
http://www.altafsir.com

شاعر وكاتب وباحث إماراتي
عبد الحكيم عبد الله عيسى الزُبيدي. حاصل على الدكتوراه في الإدارة من جامعة أبردين بالمملكة المتحدة 2006م والماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة الشارقة-الإمارات 2011م. حاصل على جائزة الشيخ راشد بن حميد النعيمي للثقافة والعلوم (في الشعر)- 1995، وجائزة سلطان بن زايد لأفضل بحث عن دولة الإمارات– 2011، وجائزة الشارقة للتأليف المسرحي، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2013. له 15 مؤلَّفا، منها: اعترافات متأخرة، اليهود في مسرح علي أحمد باكثير، التناص في الشعر المعاصر في الإمارات (دراسة)، النكوص الإبداعي في أدب علي أحمد باكثير، وغيرها.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية