لقد أرست الشريعة الإسلامية القواعد الأخلاقية للتعامل مع غير المسلمين من أبناء الدولة والمقيمين على أرضها، فلم تنكر الشريعة الإسلامية على مواطنيها من غير المسلمين حقاً لهم، فقررت أن لهم ما للمسلمين، وأن عليهم ما على المسلمين، فالجار له حقوق الجوار، والصاحب له حقوق الصحبة، والقريب له حقوق القرابة.. وهكذا.

ونود أن نوضح أننا لا نقصد بالمواطنين غير المسلمين أهل الكتاب من اليهود أو النصارى فقط؛ وإنما يتعداهم القصد إلى كل من ليس له ملة ولا يدين بدين، فهؤلاء يعاملون معاملة أهل الكتاب، فقد روي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ)[2] .

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ظلم غير المسلمين، أو انتقاص حقوقهم، أو الإخلال بواجب العدل فيهم، فقد روي عن صفوان بن سُلَيْمٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَلا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِداً[3]، أَو انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ[4] يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[5] .

 

وقال ابن حزم: من كان في الذمة[6] وقصده العدو في بلادنا وجب الخروج لقتالهم حتى نموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن تسليمه إهمال لعقد تلك الذمة[7] .

إلا أن الشريعة الإسلامية قد زادت في ذلك أنها خصت أهل الكتاب بأن أوصت بهم خيرا، وأكدت على حقهم في أمور أهمها :

1) المعاملة بالحسنى: حيث حرصت الشريعة الإسلامية على إكرام أهل الكتاب ومعاملتهم بالحسنى، كما أمرت ببرهم، وإنصافهم، ويتضح ذلك من قوله تعالى :

(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[8] .

وروي عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ، أَلا وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ وَعَظْتُ وَأَمَرْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا بِإِذْنٍ، وَلا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ، وَلا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ إِذَا أَعْطَوْكُم الَّذِي عَلَيْهِمْ)[9] .

قال القرافي: فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك؛ فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة الإسلام[10] .

وفي كتاب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عدي بن أرطأة: (أما بعد فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام واختار الكفر عتيا وخسرانا مبينا، فضع الجزية على من أطاق حملها، وخلِّ بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك صلاحا لمعاشر المسلمين وقوة على عدوهم، ثم انظر من قبلك من أهل الذمة من كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك، قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه)[11] .

وروي عن شريح القاضي قال: لما توجه علي إلى صفين افتقد درعا له، فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة أصاب الدرع في يد يهودي، فقال لليهودي: الدرع درعي لم أبع ولم أهب، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فقال: نصير إلى القاضي، فتقدم علي فجلس إلى جنب شريح وقال: لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أصغروهم من حيث أصغرهم الله". فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين؟ فقال: نعم هذه الدرع التي في يد اليهودي درعي لم أبع ولم أهب، وقال اليهودي: درعي وفي يدي، فقال شريح: ألك بينة يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي، فقال شريح شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال علي: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه، أشهد أن هذا هو الحق وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وأن الدرع درعك[12] .

2) أن تطبق عليهم شرائعهم: حيث أوصت الشريعة الإسلامية بتطبيق شرائع أهل الكتاب عليهم، وذلك في كل ما فيه حكم فيها، ولا يتعارض مع نظام الدولة وأحكام الإسلام، ويحكم بينهم قضاة من أنفسهم، قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[13] .

وقال جل شأنه: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ)[14] .

وهذه القضية نحب أن نتعرض لها بشيء من التوضيح والتفصيل؛ حيث يجب أن نفرق بين حالات أربع كالآتي :

الحالة الأولى: أن ينشأ نزاع بين نصارى، أو بين يهود وفي شريعتهم حكم لهذا النزاع لا يتعارض مع نظام الدولة أو أحكام الإسلام، وهنا يحكم بينهم قضاة من أنفسهم .

الحالة الثانية: أن ينشأ نزاع بين نصارى، أو بين يهود وفي شريعتهم حكم لهذا النزاع ولكنهم يلجؤون، أو يطلبون التحاكم إلى شريعة الإسلام، هنا يرفع الأمر إلى رئيس السلطة القضائية في البلاد وله أن يقبل منهم ويندب لهم قاضيا مسلما ليحكم بينهم، وله أن يرفض بحسب ما يقتضيه الحال، وبما لا يثير عداوات أو فِتََََََََََََََنا .. إلخ .

قال تعالى: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)[15] .

الحالة الثالثة: أن ينشأ نزاع بين نصارى ويهود، أو بين أي منهم وبين مسلمين أو غير ذلك، أو بين نصارى اختلفت مذاهبهم أو طوائفهم، ففي هذه الحالة تطبق أحكام الشريعة الإسلامية عليهم، قال تعالى :

(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)[16] .

الحالة الرابعة: أن ينشأ نزاع بين نصارى، أو بين يهود ولا يوجد في شريعتهم حكم لهذا النزاع، ففي هذه الحالة تطبق أحكام الشريعة الإسلامية عليهم .

قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[17] .

** ويرجع أصل حق أهل الذمة في الرعاية ومعاملتهم كالمسلمين إلى الصلح الذي تم بين نصارى نجران وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أهل نجران خبر وفاته؛ بعثوا وفدا ليجددوا عهدهم، فقدموا إلى أبي بكر فكتب لهم كتابا أقرهم فيه على ما صالحهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولما فتح المسلمون بلاد الشام تصالح نصارى الشام مع المسلمين وقطعوا عهودا ومواثيق، واشترطوا على أنفسهم شروطا وافق عليها المسلمون فيما يشبه العقد فيما بينهم، ومن تلك الشروط ما تضمنه كتاب نصارى أهل الشام لعبد الرحمن بن غنم الذي بعث به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فوافق على ما جاء فيه وأمضى فيهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلحه مع نصارى نجران، وإقرار أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الصلح .

قال الشعبي: قال علي حين قدم الكوفة: ما جئت لأحل عقدة شدها عمر[18] .

هكذا أرسى الإسلام مبدأ حسن معاملة غير المسلمين، ذلك المبدأ الذي رعاه علماء المسلمين وحكامهم جيلاً بعد جيل في كل عصر ومصر .

فالمجتمع المسلم ليس عنصريا ولا طائفيا، لا يعرف التمييز بين أبنائه بسبب لون أو عرق أو دين، وإن كان هناك معيار للتقييم والتفضيل فهو معيار العمل ونفع المجتمع.

فالفرد يستمد فضله وقدره بقدر علمه وعمله ونفعه لمجتمعه، بلا وساطة أو محسوبية، وبغض النظر عن لونه أو عرقه أو دينه .


[1] - للكاتب من كتابه (تركة المصطفى صلى الله عليه وسلم وشريعة الإسلام – جـ3) .

[2] ـ موطأ الإمام مالك .

[3] - المعاهد: مَن بينه وبين المسلمين عهد .

[4] - الحجيج: الخصم الغالب يوم القيامة .

[5] - سنن أبي داود .

[6] - الذمة: هي عقد وميثاق بين المسلمين وغيرهم ممن يقيمون في دولة الإسلام، بموجبه يدفعون الجزية على أن يكون لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات للدولة، والذمي: هو من يشمله ذلك الميثاق ويلتزم به .

[7] - بدائع السلك في طبائع الملك .

[8] - سورة الممتحنة الآية: 8 .

3- سنن أبي داود .

[10] - بدائع السلك في طبائع الملك .

[11] ـ كتاب (أحكام أهل الذمة) للإمام ابن القيم .

[12] ـ كتاب (تاريخ الخلفاء) للعلامة جلال الدين السيوطي .

[13] ـ سورة المائدة ، قلب الآية: 48 .

[14] ـ سورة المائدة ، صدر الآية: 47 .

[15] ـ سورة المائدة ، صدر الآية: 42 .

[16] ـ سورة المائدة الآية: 48 .

[17] ـ سورة المائدة الآية: 49 .

[18] ـ كتاب (تاريخ الخلفاء) للعلامة جلال الدين السيوطي .

 

التدقيق اللغوي لهذه المقالة: أبو هاشم حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية