كثر الحديث في هذا العصر عن مقاصد الشريعة وتأويلاتها وكيف يمكن التعامل مع نصوص الشريعة وتنزيلاتها على الواقع.
وهذا تعريف مختصر وإجمالي لعلم مقاصد الشريعة وتاريخه.
أولا : تعريف مقاصد الشريعة.
- لغة:
المقاصد من "القصد: استقامة الطريق. قَصَد يقصد قصداً، فهو قاصِد. وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾[سورة النحل، الآية:9]، أي على الله تَبْيينُ الطريق المستقيم، والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة؛ ﴿وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾ [سورة النحل، الآية:9]، أي ومنها طريق غير قاصد. وطريق قاصد: سهل مستقيم. وسفر قالصد: سهل قريب...والقصد: العدل."[1]
وكذلك "القصد: استقامة الطريق، والاعتماد، والأَمُّ، قَصَدَه، وله، وإليه، يقصده"[2]
وأيضا "قصد – (القصد) إتيان الشئ وبابُه ضَرَب تقول (قَصَدَهُ) وقَصَدَ له وقَصَدَ إليه كله بمعنى واحد. و(قَصَدَ) قصْدَه أي نحا نحوه"[3].
- اصطلاحا:
في الاصطلاح فإنه "لم يوجد عند العلماء الأوائل تعريف واضح أو محدد أو دقيق لمقاصد الشريعة، وإنما وجدت كلمات وجُمل لها تعلق ببعض أنواعها وأقسامها، وببعض تعابيرها ومرادفاتها، وبأمثلتها وتطبيقاتها، وبحجيتها وحقيتها.
فقد ذكروا الكليات المقاصدية الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل أو النسب والمال) وذكروا المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية. وذكروا بعض الحكَم والأسرار والعلل المتصلة بأحكامها وأدلتها"[4]، و"المراد بمقاصد الشريعة الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها"[5].
وكذلك "فمقاصد الشريعة – أو مقاصد الشارع - هي المعاني والغايات والآثار والنتائج، التي يتعلق بها الخطاب الشرعي، ويريد من المكلفين السعي والوصول إليه"[6]، وهي: "الغايات التي تهدف إليها النصوص من الأوامر والنواهي والإباحات، وتسعى الأحكام الجزئية إلى تحقيقها في حياة المكلفين، أفرادا وأسرا وجماعات وأمة"[7].
و"المقاصد التي ينظر فيها قسمان:
أحدهما يرجع إلى قصد الشارع.
والآخر يرجع إلى قصد المكلف.
فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة، ومن قصده في وضعها للإفهام، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها؛ فهذه أربعة أنواع".[8]
و"تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: أن تكون تحسينية."[9]
هذا "ومجموع الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة"[10]، كما قال الغزالي: "وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزّجر عنها، يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل، ولا شريعة أريد بها إصلاحُ الخلق"[11].
ثانيا : تاريخ المقاصد
إن الفكر المقاصدي بدأ مع الصحابة رضي الله عنهم، فقد كانوا يتعاملون مع روح الشريعة مقاصديا، إلا أنهم لم يكونوا يتعاطون مع ذلك كعلم مدون، وإنما كعمل وممارسة دعا إليها اجتهادهم في الأحكام، ولم يبدأ النظر في المقاصد بمعناه العلمي المتعارف عليه إلا في القرن الرابع فما فوق، فبدأ بذلك مع ثلة من العلماء أذكرهم حسب الترتيب الزماني:
- في القرن الرابع:
إذ أننا "في القرن الرابع نجد الحكيم الترمذي-وهو غير الترمذي المحدث- هذا ترمذي آخر أيضاً مشهور، وكان فقيهاً وحكيماً- الحكيم تعني تقريباً الفيلسوف- وكان صوفيًّا، وكان فقيها. هذه هي أبرز صفاته العلمية. وله عدة كتب تنم عن اهتمام مكثف بمقاصد الشريعة؛ وأبرز ذلك كتابه الذي سماه "الصلاة ومقاصدها"، وهو كتاب كامل في مقاصد الصلاة".[12]
ثم "تلاه بعد ذلك كل من:
أبو الحسن العمري: أيضا كان له اهتمام بالفلسفة بالإضافة إلى علم الكلام والتشريع...
ابن بابويه القمي: المعروف بالشيخ الصدوق، وهو شيعي إمامي؛ له كتاب "علل الشرائع" وهو مطبوع...
أبو بكر الشاشي: وهو أصولي وفقيه شافعي...وأشهر كتبه "محاسن الشريعة" وهو مطبوع منشور...".[13]
- في القرن الخامس وبعده:
"وأما في القرن الخامس فقد انتقلت حركة الاهتمام بالمقاصد والكتابة فيها من طور التعليلات الجزئية والتفصيلية إلى طور التأصيل والتنظير للمقاصد بصفة عامة وإجمالية، مما أثمر فيما بعد ما نعرفه اليوم من مقاصد ومصطلحات وتقسيمات وضروريات خمس، وغير ذلك"[14].
و"كثير من المصطلحات المعروفة اليوم في التعبير عن مقاصد الشريعة ترجع إلى الجويني، ويرجع الفضل إليه في وضعها وبثها"[15]، والتقسيم الثلاثي (الضروريات والحاجيات والتحسينيات) للشريعة بدأ معه.
ثم "جاء الغزالي، وهو شافعي المذهب، فتوسع في مباحث المقاصد بكتاب "المستصفى"، وتناول الكليات الخمس الضرورية، وجعلها أصلا للمقاصد كلها"[16] و"ظهر بعد ذلك عز الدين بن عبد السلام فألف كتاب "القواعد"، سار فيه على المنهج الذي اختطه الغزالي في المستصفى، وكان شافعي المذهب مثله، وقد جعل الأحكام قسمين باعتبار النظر المصلحي: عبادات ومعاملات. أما العبادات فإنها أحكام تعبدية يجب العمل بها على ما رسمه الشارع لها، دون النظر في تعليلها بعلة عقلية.
وأما المعاملات فإنه يمكن للعقل إدراك عللها وأسبابها لأنها مبنية على مصالح العباد"[17].
ثم "جاء بعد العز بن عبد السلام نجم الدين الطوفي الحنبلي فركز اهتمامه على ما سماه بالمصالح الشرعية، وحصر فيها المقاصد كلها، وأسرف في اعتبار المصلحة حتى زعم وجوب تقديمها على النص والإجماع، وصنف في مذهبه هذا رسالته المشهورة التي سماها "المصالح المرسلة"، وهو لايعني بها المصالح المرسلة على نحو ما عند مالك"[18] و"بعد هؤلاء جميعا ظهر أبو إسحاق الشاطبي فخصص الجزء الثاني من كتاب الموافقات لعلوم المقاصد"[19].
ولم يكن الشاطبي أول من ابتكر علم المقاصد وإنما "الشاطبي هو أنه اتى إلى أفكار المتقدمين في المقاصد فجمعها وزادها بياناً وزادها توضيحاً واستدل لها وبنى عليها فروعاً وقواعد"[20].
- المقاصد في العصر الحديث
في العصر الحديث و"في مطلع القرن الثالث عشر الهجري طبع كتاب "الموافقات"، أي: قبل قرن وربع قرن من الآن. طبع في تونس أولى طبعاته سنة 1302 ه. فكانت هذه هي الولادة الثانية للشاطبي وكتابه وفكره، وكانت هي البداية والانطلاقة للفكر المقاصدي الحديث والمعاصر"[21].
و"في المشرق تلقفه الشيخ محمد عبده، وكان قد زار تونس في هذا الوقت، فصار يحث على قراءة الكتاب ونشره. وكان من أثر ذلك قيام تلميذه الشيخ عبد الله دراز بنشر كتاب "الموافقات" في مصر، وقيام تلميذه الآخر رشيد رضا بنشر كتاب "الاعتصام". ومن مصر انتشر الكتابان وشاع تداولهما في عدد من الأقطار العربية"[22].
وكذلك "في المغرب كان الأثر المباشر لطباعة هذا الكتاب وصوله إلى المغرب، هو أن أحد علمائه أخذه، وبطريقته وطريقة عصره، قام بنظمه، وهو الشيخ ماء العينين محمد فاضل بن مامين. وسمى منظومته "مواقف الموافقات". ثم قام بشرح النظم في كتاب آخر سماه "المرافق على الموافق". وطبع في حياته سنة 1324 ه"[23]. هذه نبذة مختصرة في التعريف بهذا العلم وتاريخه، ولمن أراد الاستزادة من معرفة هذا العلم فعليه بالعودة إلى مصادره القديمة والحديثة وهي في متناول الجميع.
الهوامش:
1 - لسان العرب لابن منظور، ص: 3642.
2 - القاموس المحيط للفيروز آبادي، ص: 1328.
3 - مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة لبنان- بيروت، س ط: 1986، ص: 224.
4 - علم المقاصد الشرعية، نور الدين الخادمي، مكتبة العبيكان، ط:1، س ط: 1421ه-2001م، ص: 15.
5 - مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، دار الغرب الإسلامي، س ط : 1993، ص: 7.
6 - مدخل إلى مقاصد الشريعة، أحمد الريسوني، دار الكلمة، ط:1، س ط: 1434ه-2013م، ص: 9.
7 - دراسة في فقه مقاصد الشريعة، يوسف القرضاوي، دار الشروق، ط:3، س ط: 2008، ص: 20.
8 - الموافقات، أبو اسحاق الشاطبي، دار ابن عفان، ط:1، س ط: 1417ه-1997م، ج:2، ص: 7- 8.
9 - المصدر نفسه، ص: 17.
10 - المصدر نفسه، ص: 20.
11 - المستصفى من علم الأصول، تحقيق محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، س ط: 1417ه- 1997م، ج:1، ص: 417.
12 - محاضرات في مقاصد الشريعة، أحمد الريسوني، دار الكلمة، ط:2، س ط: 1434ه-2013م ، ص: 62.
13 - المصدر نفسه، ص: 64- 66.
14 - المصدر نفسه، ص: 68.
15 - المصدر نفسه، ص: 70.
16 - الشاطبي ومقاصد الشريعة، حمادي العبيدي، دار قتيبة، ط:1، س ط: 1412ه-1992م، ص: 135.
17 - المصدر نفسه، ص: 135- 136.
18 - المصدر نفسه، ص: 136.
19 - المصدر نفسه، ص: 137.
20 - محاضرات في مقاصد الشريعة، أحمد الريسوني، ص: 88- 89.
21 - المصدر نفسه، ص: 92.
22 - المصدر نفسه، ص: 92- 93.
23 - المصدر نفسه، ص: 93.