كنت -رغم وافر تعاطفي- أتضجّر سرّا من المُصلِيات اللاتي يضعن كراسيهن وسط الصفوف، ويُعقن سجود مَن خلفهن، ويؤثّرن على استقامة الصف. هذا إلى أن شاء الله أن أصلي في العشر الأواخر من رمضان هذا العام على كرسيّ لإصابةٍ عارضةٍ في رِجلي. يبدو أن الإنسان مهما أبدي تعاطفا ظاهريا، سيظل تعاطفه سطحيا وغير مكتمل المعنى، إلا إذا خبرَ التجربة بنفسه.
تجربة السجود في الهواء غريبة! ذاك الشعور بالحرمان من أن تمرّغ وجهك من أجله. الآن فهمت قيمة تلك المقاعد المزودة بمسند للوجه للسجود عليه. شعور لا يحتاج إلى مقالة، بل إلى أن تجربه بنفسك، كي تحمد الله على العافية، وكي تتقفن صلاتك، قبل أن تهرم أو تتعرض لإصابة وتنضم لجيش الساجدين في الهواء.
من ناحية أخرى، الصلاة جلوسا قضية فقهية لها ناسها من أهل العلم الشرعي والاجتهاد الفقهي، لكنها أيضا قضية تحتاج إجراءات تنظيمية، تحتاج قواعد تُعمم في المساجد ويُلتزم درءًا للاختلاف والجدال من ناحية، ودرءًا لأن يضيق بعضنا على بعض من ناحية أخرى.
في مُصليات النساء في رمضان، لازلنا نختلف على أمر بسيط وهو من أين يبدأ صف النساء؛ من أقصى اليمين؟ أم من المنتصف قياسا على صفوف الرجال؟ فما بالكم بقضية معقدة مثل الصلاة على الكراسي، إذ أن خلافا أكبر يطرأ عمليا بسبب اختلاف مصلحة كل مصلٍ. والمصلّون على الكراسي أنواع ثلاثة:
منهم من لا يمكنه القيام للصلاة واقفا، ولا السجود أرضا أيضا. وهذا نوع لا يحتاج مساحة أرضية كبيرة أمامه لأنه سيقضي كل الصلاة تقريبا قاعدا. ومنهم من يقف أثناء القيام للصلاة، لكنه يسجد قاعدا. وهو مثل الأول لا يحتاج مساحة أرضية للسجود، لكنه يعاني من كونه على غير استقامة الصف حين يقف. والنوع الثالث منهم يقعد فقط أثناء القيام للصلاة إذ يصعب عليه الوقوف الطويل أثناء القراءة مثلا، لكنه يسجد وقت السجود. وهذا يحتاج إلى مساحة أرضية كافية أمامه، ويعاني أيضا من عدم وقوفه على استقامة الصف أثناء القيام.
رأيت في أحد المساجد ملصقا مصوّرا يحض المصلين على التأكد من أن قوائم الكرسي الخلفية تكون بمحاذاة نقش السجاد الذي فصل بين صف وآخر، أي بمعنى آخر بمحاذاة أرجل الواقفين. وهذا أمر ممتاز إذا عُمم والتزم به الجميع؛ إذ لا يضيق على من خلفه، ويجعل كتف القاعد بمحاذاة أكتاف الواقفين في معظم الصلاة. لكن هذا الحل لا يناسب الذين ينوون السجود، ولا يناسب أيضا الذين يستخدمون الكرسي وقت السجود فقط، ويقفون أثناء القيام لأنهم سيكونون متقدمين عن الصف!
ما الحل إذا؟ المساحة المخصصة للصف وفقا للسجاد الموضوع في المساجد وافرة في العادة، لكن لمن يصلّون بالطريقة المعتادة، لا على الكراسي. إذا، لا بد من تخصيص مساحة للقاعدين، وتخطيطها بحيث تكون هناك مساحة وافرة أمام الجميع، وهذا يفيد من يريد أن يسجد على الأرض. ولكن تظل قضية تقدم الواقف أثناء القيام للصلاة على الصف أمرا يستوجب التفكير إذ أنه متقدم على الصف.
فصلُ المصلين قاعدين وتخصيص مساحة لهم- ولله الحمد- معمول به في رمضان في المساجد الكبرى في الكويت. لكن المساجد الاعتيادية الموجودة في المناطق معرضة لاجتهادات المصليين الشخصية، وكل يجتهد للأسف بما يوفر له الراحة ويحقق مصلحته بالدرجة الأولى. لكن هذا لا يمنع تمرد بعض المصلين حتى في المساجد المنظّمة. ففي صلاتي في أحد المساجد الكبيرة التي فيها مكان ممتاز ومنظم للصلاة على الكراسي، صادفت امرأة أحضرت كرسيا وأصرت على الصلاة مع الواقفات لأنها تريد أن تصلي بجانب صاحباتها، هذا رغم تذمر من خلفها من غزوها لمكان سجودها. وفي مسجد آخر، لاحظت أن المنظمين لصقوا أيدي الكراسي بلاصق. خطوة ذكية لضمان عدم تحريك بعض المقاعد ودسها بين الصفوف الواقفة! لكن هذا قد يكون سببا في تضارب مصالح اللاتي يردن السجود على الأرض، واللاتي يسجدن قاعدات.
ولعل الأمر في غير رمضان لا يكون بهذا التعقيد، إذ يكون عدد المصلين جلوسا قليل أصلا، وغالبا ما نجدهم في أطراف الصفوف، لكن الموضوع ليس موضع قلة أو كثرة، الموضوع موضوع أمة أمرت بالإتقان، والإحسان، وإقامة الصفوف، والاتفاق، هذا فضلا عن الشكل الحضاري الذي يجب أن تكون أمتنا هي من تعلّمه للعالم. ولا يجوز أن تترك الأمور مُهرجلةً بحجة عرضية كثرة المصلين قعودا. فكرسيّ واحد يمكنه أن يجعل الصف أعوج، وقد نهينا عن ذلك.
وأتذكر أني في أول أيامي صلاة جلوسا، كنت تائهة تماما، وآتي بحركات زائدة قد تبطل الصلاة حرصا على أن أكون على استقامة الصف؛ إذ كنت في بداية الصلاة كي أكون واقفة على استقامة واحدة مع الواقفات، كنت أزيح الكرسي وقت القيام ليكون في نطاق سجود التي تقف خلفي، وهي لن تتضرر شيئا منه في هذا الوقت. لكن وقت السجود، أسحبه لتكون قوائمه بمحاذاة أرجل الواقفات كي يمكنني السجود على استقامتهن. وهذه حركة زائدة في النفس منها شك، وحتى إن كانت جائزة ولا تبطل الصلاة، فإنها تودي بالخشوع، وتشغل الفكر عن الصلاة.
مهما حاول المصلون على الكراسي عدم إعاقة من حولهم، عدم وجود مبدأ متفق عليه، سيعطل الأمر. لا بد أن يتفضل المسؤولون عن الأمر بكتابة قواعد تنظم ترتيب الكراسي، وتعلق في المساجد، وينبه لها الأئمة. وقد يكون تخصيص مساحة من الكراسي الثابتة التي لا يمكن تحريكها، مع وصلها بطريقة مرتبة على أجناب الصفوف حل لذلك، هذا مع التأكد من عدم مشابهتها لمقاعد الكنائس. هذا مع الحاجة لفتوى تؤكد صحة صلاة من يقعدون هناك إذا قد يكون لا صف من الواقفين إلى جانبهم، وهم قطعا حريصون على الجلوس في الصفوف لينالوا أجر الجماعة. كما أننا نجد في بعض المساجد من يجتهد مشكورا ويتبرع بمقاعد بلاستيكية بيضاء مخصصة أصلا للحدائق، لكنها حتما نافرة عن معمار المساجد، وحبذا لو استبدل بها مقاعد جميلة، ليجتمع لنا الإتقان والجمال. هذا، حتى نكفي الساجدين في الهواء ما يجابههم من هموم، إلا همّا لا يقضيه إلا الله، همّ الشوق إلى وضع جباههم على الأرض ساجدين.