حذيفة بن حِسْل - ويقال حُسيل - بن جابر بن عمرو بن ربيعة العبسي، كان أبوه حِسل قد أصاب دما، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان لكونه حالف اليمانية وهم الأنصار.

عاش والد سيدنا حذيفة في المدينة، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كان حذيفة يتوق إلى رؤيته، فما إن التقى به حتى سأله أمهاجر أنت أم أنصاري؟

لكون حذيفة مكي الأصل مدني النشأة قال: بل أنصاري يا رسول الله، فضل أن يكون مع الأنصار.

في معركة أُحد في العام الثالث من الهجرة، قُتل والد سيدنا حذيفة بالخطأ بسيوف المسلمين، وكان أبوه مسلما، رأى حذيفة أباه يهوي صريعا على الأرض بعدما اختلطت السيوف بجسده، ما أن رآه حتى نادى بأعلى صوته، أبي أبي...

مات أبوه في المعركة بسيوف صديقة، وهذا وارد في أي معركة حربية.

احتسب سيدنا حذيفة أباه، وقال "يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".

 

لهذا أمر الرسول صلى الله عله وسلم بدفع دية لهذا القتل الخطأ، فقال حذيفة: "يا رسول الله إن أبي كان يطلب الشهادة، وقد نالها، اللهم اشهد أني تصدقت بديته على المسلمين".

بهذه الخطوة ارتفعت منزلة حذيفة عند رسول الله، لأنه عفا عمن قتل أباه.

وعندما ولى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حذيفة واليا على المدائن خرج الناس يستقبلون الوالي الجديد، الذي سمعوا عنه وعن ورعه وتقواه، ولما وجدهم يحدقون فيه، فَهمَ أنهم ينتظرون منه حديثا، حينئذ قال: "إياكم ومواقف الفتن!"

قالوا وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟

قال: أبواب الأمراء، بأن يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدقه بالكذب ويمتدحه بما ليس فيه.

أراد الصحابي الجليل أن ينصح الناس بالابتعاد عن أبواب الملوك والأمراء والسلاطين، وألا يمتدحوهم بما ليس فيهم لأنه يكره النفاق والمنافقين، يقول هذا الكلام لرعيته في بداية ولايته، رغم أن معظم الحكام في زماننا هذا يحبون من يمتدحهم وينظم فيهم الشعر، وينافقهم ويقول ما ليس فيهم.

هذا الصحابي الجليل – وغيره من الصحابة - قد تعلم وتأدب على يد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ونهل من علمه، فلا عجب أنه كان يكره النفاق والكذب والجبن.

في حديثه عن القلوب وحياة الهدى والضلال يقول:

القلوب أربعة:

قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن.

وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر.

وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق.

وقلب فيه نفاق وإيمان، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء طيب، ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم.. فأيما غلب عليه غلبه.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يختار من بين أصحابه الرجل الذي يناسب المهمة التي سيقوم بها على أكمل وجه.

في غزوة الخندق أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقف على آخر تطورات اليهود؛ معسكر الأعداء، كان الليل أشد ظلمة، والرياح شديدة تكاد تقتلع الجبال الراسيات، والجوع والبرد بلغا من المسلمين مبلغهما، فمن يملك القوة أن يذهب إلى معسكر العدو ليأتي بالأخبار إلى القائد العظيم محمد صلى الله عليه وسلم؟

طلب النبي من حذيفة أن يذهب الى معسكر العدو دون أن يشعر به أحد، لبى حذيفة على الفور أوامر النبي وهو يكاد لا يستطيع أن يقف على قدميه من شدة البرد والجوع والخوف، لكنه أمر من الرسول وواجب الطاعة.

انطلق حذيفة واخترق حصار العدو وتسلل إلى المعسكر، ولما دخل كانت الرياح العاتية قد أطفأت النيران، فساد الظلام المكان، واتخذ حذيفة موضعا وسط المحاربين.

هنا خشى أبو سفيان – قائد المعسكر- أن يكون قد تسلل أحد المسلمين داخلهم لأن الظلام حالك.

سمع سيدنا حذيفة أبا سفيان وهو يقول: "يا معشر قريش، لينظر كل واحد منكم جليسه، وليأخذ بيده وليعرف اسمه".

فماذا فعل حذيفة؟

نتيجة لسرعة بديهته وفطنته وذكائه؛ بادر من بجواره بالسؤال عن اسمه.

يقول حذيفة: "فسارعت إلى يد الرجل الذي بجواري، وقلت له من أنت؟ قال فلان بن فلان.."، وهنا نجا حذيفة من أن ينفضح أمره.

ثم استأنف أبو سفيان نداءه وقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلكت الكراع (أي النخيل) والخف (أي الإبل)، وأخلفت بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل"، ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون.

عاد حذيفة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما حدث، وزف إليه هذه البشارة.

وعندما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ظهرت مجموعة من المنافقين.

وجد الرسول حذيفة كتوما للسر وذكيا، لذا أفضى إليه بأسماء هؤلاء المنافقين الذين أطلعه الله عليهم، فكان حذيفة حافظ سر الرسول في شأنهم، كان الصحابي الوحيد الذي يعلم بأسماء المنافقين حسب ما أخبره النبي محمد ؛حيث عمل على حفظ السر، الذي ائتمنه عليه رسول الله، وهذا دليل على مكانته في الإسلام وعند رسول الله..

كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، الفاروق والعملاق في التقوى والورع والزهد والخوف من الله، يخشى أن يكون ضمن هؤلاء المنافقين.

التقى عمر حذيفة ذات يوم، فقال له: "يا حذيفة أنشدك الله، هل وجدت اسمي بين المنافقين؟

هل تعلم، عزيزي القارئ، عم يسأل عمر؟

إنه يسأل إذا كان اسمه بين المنافقين أم لا.

كانوا رجالا أناروا الدنيا والعالم بعظمة أخلاقهم وورعهم وتقواهم، وحبهم لله ولرسوله.

عندما سأله أمير المؤمنين، خجل سيدنا حذيفة ثم أجاب: "لا والله أنت أكرمنا، ولكن لا أزكي بعدك أحدا".

كان حذيفة من المقربين للنبي صلى الله عليه وسلم، ومحط اهتمامه، قال الرسول: "ما من نبي قبلي إلا قد أعطي سبعة نُجباء رفقاء، وأعطيتُ أنا أربعة عشر؛ سبعة من قريش: عليّ، والحسن، والحسين، وحمزة، وجعفر، وأبو بكر، وعمر، وسبعة من المهاجرين: عبد الله بن مسعود، وسلمان، وأبو ذر، وحذيفة، وعمار والمقداد، وبلال"، رضوان الله عليهم.

جزع حذيفة جزعا شديدا وبكى بكاءً كثيرا لما نزل به الموت، وعندما سُئل عن سبب بكائه قال: ما أبكي أسفا على الدنيا، بل الموت أحب إلي، لكني لا أدري أقدم علام على رضى أم على سخط؟

لما وجد كفنه جديدا فارها، ابتسم وقال لأصحابه: ما هذا لي بكفن، إنما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص، فإني لن أترك في القبر إلا قليلا حتى أبدل خيرا منهما أم شرا منهما"، ثم تمتم بكلمات: "مرحبا بالموت، حبيب جاء على شوق، لا أفلح من ندم".

رضي الله عن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.. اللهم ارزقنا شفاعة نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم.. ومرافقته في الجنة.

 

التدقيق اللغوي: حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية