عرفة
"الحج عرفة". عَرَفَة ذروة سنام الحج. هنا التصاعد، والترقّي، والتسامي.
هذا زمان العتق ومكانه. جاء في الحديث: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة"، والعتق هنا يتلاءم مع رحلة إعادة ولادة الروح، هي ستُولد روحا مُعتَقة من ماضيها، وستولد أيضا روحا قادرة أكثر من ذي قبل على الانعتاق من إغراء الذنوب. إنّها ليست روحا وليدة وحسب، بل نسخة مطوّرة تلقت التطعيمات اللازمة، تطعيمات لا تحميها من الذنوب المستقبلية بالمطلق –فهذه ليست مهمتها- لكنها تخفف من وطأتها. نعم، سيذنب الحجيج بعد الحج، لكن عتق من كُتب الله لهم العتق منهم يقضي بأن الذنوب ستكون أقليّة في أعمالهم.
عرفة، عرفات. تفاسير أصل الاسم كثيرة، منهم من قال إنّه مكان يتعارف فيه الناس أي يقيمون، فسمي عرفة. ومنهم من يقول إنّه المكان الذي التقى فيه آدم حواء بعد أن هبطا من الجنة، فعرفا بعضيهما. ومنهم من يقول إن جبريل طاف بإبراهيم وكان يريه المشاهد فيقول له: "أَعَرَفْتَ؟ أَعَرَفْتَ؟"، فيرد إبراهيم: "عَرَفْتُ، عَرَفْتُ"، فسميّ عرفة.
ها نحن نقف بعرفة. والوقوف المقصود هو البقاء والتوقف، لا الوقوف بمعنى عدم الجلوس كما يفعل بعض الحجاج الذين يحجمون عن الجلوس ويسيرون طول اليوم! لقد فاتهم المعنى. الوقوف هو التربص، الوقوف المجازي، شحن الطاقات، هذه هي فرصة العمر، فرصة العتق، هذه هي ليلة القَدْر الخاصة بالحج إذا جاز التعبير! لذا يليق أن توصف بالوقوف، هو شيء شبيه بقيام الليل، لكن بالنهار. قيام ووقوف بالدعاء والتضرع والتبتل. هذا مقام يليق به أن ندعو {... ربنا أتمم لنا نورنا ...} استبشارا باليوم الذي سنقول هذا، في موطننا الأصلي الذي نشتاق إليه.
خير أيام الدنيا العشر من ذي الحجة كما أخبرنا المصطفى عليه الصلاة والسلام، وخير ليالي الدنيا العشر الأواخر من رمضان. وإذا كانت خير ليلة في العشر من رمضان، ليلة القدر، قد أخفيت علينا، فإن خير الأيام من العشر عُرّف لنا؛ يوم عرفة. ولهذا أزعم أنّه سمي عرفة.
وإن كان عرفة-المكان مخصوصا للحجاج، فإن عرفة-الزمان شأن جميع المسلمين. الكل يقف تعظيما لهذا اليوم، الحاج يتوقف بعرفة وينعزل ليغتسل من الداخل، وغير الحاج يوقف حياته الاعتيادية ليصوم. كلاهما ينقطع عن المعتاد، كلاهما يوقف سيرورة حياته ليعيد النظر فيها.
هذا يوم يباهي الله فيه الملائكة بعباده. أجل، الملائكة المنزّهون عن كل ذنب، الملائكة الذين سألوا عن الإنسان النازع للفساد، الملائكة الذين يُضرب بهم المثل في الطاعة والانقياد، ها هي الطاولة تنقلب ونصير نحن مضرب الأمثال، نصير موضع مباهاة لله. الطين هنا خير من النور، لأن الطين انقاد طوعا. وأما المخلوق من النار –وحُقّ له ذلك- فيأكل بعضه بعضا اليوم! جاء في الحديث الشريف: "ما رُئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة."
هنا وقف النبي-عليه الصلاة والسلام- ليسلّمنا وصاياه الأخيرة في خطبة الوداع. وهنا نزلت {... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ...}". هذا إذًا مقام الإكمال والإتمام والرضا. هذا يوم عيد قبل العيد! لهذا قال أحد اليهود لعمر رضي الله عنه حينما سمع الآية، "لو علينا يا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا".
وآية التمام، الآية-العيد، هي ذاتها الآية-النعي؛ فمنها فهم أبو بكر الصديق أن رسول الله سيرحل قريبا. أمر هذه الآية جليل، فكيف لآية مثلها أن تنزل محاطة بأحكام الصيد واللحوم، بأمور دنيوية تماما، بشؤون أرضية؟ من يتمعن في الآية وسياق نزولها يفهم أن الإسلام لا يقوم على أفراد، بل على أساس من الأحكام متين، وبهذا ديمومته إلى يوم الدين. ومن تمام هذا الدين أنه لا يتحرّج من مناقشة أمور دنيوية صغيرة يراها البعض مبتذلة. هذا دين يدرك قيمة ما صغر وما كبر من الأمور، لهذا هو دين الكمال. بهذا تتم النعمة، وبهذا يكون الرضا.
مزدلفة
ننفر من عرفة إلى مزدلفة، من منطقة جبلية إلى أخرى، وإبليس يقف هنالك يحثو التراب على رأسه! فقد دعا النبي –عليه الصلاة والسلام- لأمته عشية عرفة، فأجابه الله تعالى بالغفران لهم ما عدا المَظالم (أي حقوق العباد الآخرين عليهم)، وحين طلب النبي عليه الصلاة والسلام من الله أن يحمل عنهم ذلك، لم يجبه إلا حينما كرر طلبه في صبيحة مزدلفة، فأجابه الله. وحين علم إبليس بذلك "أخذ التُّرابَ فجعل يحثوه على رأسِه ويدعو بالويلِ والثُّبورِ"، حتى أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ضحك من جزعه.
نترك إبليس منشغلا بالتراب، وننشغل بالذكر وجمع الحصى. ورغم أنّ النبي عليه الصلاة والسلام لم يجمع الحصى من مزدلفة تحديدا، لكن الناس تعارفوا على ذلك بسبب طبيعة المنطقة الجبلية من ناحية، ولأن الجميع في مزدلفة –بعكس عرفات مثلا- يبيتون في العراء وجها لوجه مع التراب والحصى. أيا كانت نجوم الفندق الذي نقيم فيه، هذه الليلة نبيت تحت النجوم! قد يبدو الأمر شاعريا؛ نزهة ليلية لطيفة. لكن حينما تجابهنا مواقف الحياة الطبيعية مثل قضاء الحاجة أجلكم الله، أو النوم في مكان معتم يمكن لأي أحد أن يدوس عليك سهوا، أو التعامل مع الحر الشديد الممزوج بدخان شواء الحملات، فإن حكمة الأمر تبدأ بالتجلي. وهذا المبيت (الليل كله أو معظمه) أصعب وأمتع ما يمكن أن يمر علينا. فهناك المقارنة الأليمة بين المكان الذي كنا فيه قبل سويعات، وبين المكان الذي نجلس فيه على بُسط خشنة، ونتعلم كيف نستعمل الماء باقتصاد، ونكتشف أن قنينة ماء متوسطة سعتها 330 مليلترا تكفي للوضوء، ويجابه بعضنا شهور الشتاء بردا لافحا. التشرد والانكسار مطلوبان في هذا المقام، بهما وحدهما يمكننا أن نقف موقف الرحمة والشفقة –لا موقف التضجر والنفور- من إخواننا الذين أتوا من فجاج قصيّة، يختلفون عنا لا في العادات والثقافة وحسب، بل في المستوى المادي. نراهم طوال فترة الحج، ينامون في الطرقات وفي ساحات الحرم، ويتقاطرون على المرافق العامة، ويسيرون ممسكين ببعضهم مدافعين من حولهم، لأن ضياع أحدهم نكبة (لاحظوا أن كثيرا منهم لا يملكون هواتف نقالة، وبعضهم يتكلمون لغات لا يكاد أحد يفهمها). لا بد أن نتمثّل بحالهم كي نرفق بهم، وكي نشعر تجاههم بالوقار. وما يدرينا، لعل حجهم أرجح من حجنا المرفّه المترف.
نتخلّى عن ما كانت تفعله قريش؛ تدع السعي بين الصفا والمروة، ولا تفيض من حيث يفيض الناس، وتستغل الحج للتفاخر بآبائها، ولا تأتي البيوت من أبوابها. كل هذه "البدع" الأرستقراطية يجب أن تسقط في الحج. في الحقيقة لا تسقط تماما في كل المناسك، فهناك مخيمات فاخرة، وهناك من يفترش الأرض، لكن لا مفر من الاختلاط بالآخرين، وملاصقتهم كتفا بكتف في كثير من المناسك، تكرار هذا سيكسر تلك الأنا الاستنكافية، وسيجبرنا أن نخرج من شرنقاتنا المريحة لنتعارف على اختلاف شعوبنا وقبائلنا.
دروس لا تحصى نتعلمها من جمع الحصى. فهناك الإتقان في تحري حجمها، ومواقف طريفة واستشارات عن صحة حجم الحصاة تلك، وعن أصل تلك الأخرى أهي حجرية فعلا أم حصى متكسرة من قار الشارع. وأتذكر أني سألت إحداهن عن ملائمة حجم حصاة التقطتها، فقالت لي إنها غير مناسبة ويجب أن تكون بين حجم حبة الحمص وحجم شيء آخر يؤكل نسيت اسمه! لا تقولوا لي أن هذا تنطع، وإن كان تنطعا فهو تنطع ممتع، نتعلم من خلاله الدقة، والإحسان، والتشاور. وهناك أيضا التنافس في كسب الأجر، حينما تأتينا عجوز تطلب منا أن نجمع لها الحصى، ونساومها ونطلب منها الدعاء لنا مقابل ذلك.
ليلة مزدلفة يتّضح فيها أنّ الحج شأن شبابي، بعكس الانطباع العام أنّه شأن لكبار السن حتى صار الناس يطلقون لقب "حجي" و"حجيّة" على كبار السن سواء أحجوا أم لم يفعلوا. والاستطاعة المطلوبة في الحج أنواع، لكن الفُتوة برأيي من أهمها. فدونها، يفوت على الحاج استشعار الكثير، وينشغل بألم مفاصله وموعد دوائه. أعترف أن هذه رؤية ضيقة، فهناك من لا يستطيعون الحج إلا بالدخول في قرعة، وهناك من يجمعون مبلغ السفر لسنوات طوال حتى تشتعل رؤوسهم شيبا (بالمناسبة، فلم "أمي تريد الذهاب إلى الحج" الإندونيسي لا بد من مشاهدته، وهو أحد أسباب اتخاذ قراري بالحج)، لكني أتكلم عمّن يملكون الشباب والصحة والمال والوقت والفرصة الجغرافية، لكنهم يؤجلون الحج ظنا منهم أنه شيء يفعلونه لاحقا حينما يفرغون من متع الحياة –وذنوبها- فيأتون ليتخلصوا من آثام الشبيبة والمشيب!
"الحج مرة في العمر" عبارة أسيء فهمها، وصارت حُجة لتثاقل الكثيرين إلى الأرض. فالواجب أن يحج المرء مرة في العمر، لكن ويكأن الناس يظنون أنه لا يجوز لهم أن يحجوا ثانية، فيؤجلون حجهم إلى آخر العمر ليمسحوا به سجلهم الشبابي الحافل!
إذا كانت الظروف تسمح لكَ بالسفر إلى مدينة أوربية كل سنة أو سنتين، وإذا كانت الظروف تسمح لكِ بالادخار لشراء حقيبة من ماركة معروفة، فإنها حتما تسمح لك بالحج مرة في شبابك وأخرى في مشيبك، فلم التسويف؟ ولعل حجة شبابك هذه ستغير مصيرك، ستعتقك، بحيث لا تحتاج حجة أخرى في مشيبك. {لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ...} اخشَ على نفسك أن تكون منهم!
يوم النحر
يوم العيد، يوم النحر، "يوم الحج الأكبر" كما سمّاه النبي عليه الصلاة والسلام.
الابن العزيز الذي نبع الماء بين قدميه، إسماعيل الذي يعوّل عليه إبراهيم. يا إبراهيم اذبحه! هذا مقام الذبح. ونحن، فلنبحث عن أعز ما لدينا، ولنرِقْ حبّه لوجه الله. ثمة أمور يعلمها كل منا جيدا؛ أمور نحبها -على غير مراد الله- آن أوان التضحية بها، وأمور يحبها الله –وهي على غير هوانا- آن أوان التضحية لنجعلها جزءا من حياتنا. هلموا نضحّي ببعض أنفسنا، كما ضحّى إبراهيم بما هو أعز من نفسه؛ ولده. نضحّي، ويأتينا الفداء والثناء كما جاءهما، هذا إذا صدقنا النية والتسليم كما فعلا، {فلما أسلما وتله للجبين}.
{لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ...}. القضية ليست قضية أضحية تذبح، هذا جانب من المسألة فقط. إنها قضية التقوى التي تدفعنا إلى ذلك، التقوى التي تتبرعم في الروح الوليدة التي تفعل ما يأمر به الله، وتنتهى عما لا يريد. اليوم نضحّى بالأنا التي كنا نطوف حولها، عن كعبتنا الداخلية الخفية التي كنا نحج إليها!
الحلق أو التقصير
آن أوان الاعتراف بالجسد، الجسد الذي عزلناه في زاوية قصية في الأيام الماضية. لكن قبل هذا، يجب أن نقتطع منه شيئا، رمزا نعي فيه أن أجسادنا -العائدة إلينا توا- لله، نفعل فيها ما يطلب. هنا يأتي الحلق أو التقصير. والنبي –صلي الله عليه وسلم- دعا للمقصرين بالرحمة مرة، وللمحلّقين ثلاثا. كلاهما أدرك المطلوب، الأُوَل أنفقوا مما يحبون، والآخرون أنفقوا ما يحبون.
ونحن النسوة اللاتي علينا قص قيد أنملة من شعورنا، علينا أن ندرك (وهذا رأي شخصي وليس فقهيا) أنّ الأنملة تكون من الشعر العزيز الذي نحب. فالحج ليس فرصة للتخلص من أطراف الشعر التالفة والمتقصفة! {... ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ...}، فـ"إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيبا". يا امرأة، إن كانت في طرف شعرك عوار، فقصي أكثر حتى تصلي إلى الشعر الثمين الذي أنفقت عليه كثيرا من الوقت والرعاية والمال ليكون بهذا الجمال. من هذا الشعر أنفقي، بهذا الشعر ضحّي.
طواف الإفاضة وسعيها
نُفيض، ليَفيض علينا الإيمان. بعد هذه الرحلة الشاقة التي فارقنا فيها الكعبة، وجلنا بين الجبال، لا بد أن نعود بشوق لننهل من الفيض. بالضبط كما يجب أن نفعل في أيامنا العادية، نمر بأوقات شاقة، ومواقف تستنزف رحيقنا. نتشافى منها بالتوجه صوب الكعبة للصلاة.
{gallery}galleries/haj_hayat/jamarat{/gallery}
رمي الجمار
أبونا إبراهيم –عليه السلام- مجددا. تعرّض له الشيطان عند المناسك ثلاثا، فرماه بالحصى. ونحن اليوم نحاكي فعل أبينا؛ نبكّت إبليس، ونتخذه عدوا، ونجاهر بذلك.
لكن بالمناسبة، أين إبليس؟ كان في يوم عرفة مدحورا محقورا، وفي مزدلفة كان يحثو التراب على رأسه، لعله لا يزال هناك يفعل ذلك. إنْ ندري أين هو، لكنه وإن غاب (حفاظا على ماء وجهه أو ناره بمعنى أدق!) فلا بد أنه بعث رسله وعيونه، ليرى ما نفعل؛ نعلن العداوة له، واليقظة لمخططاته، ونعزم على المداومة على ذلك، فليست حصى أو اثنتان، بل سبع. لا بد أنه منهار تماما الآن، خاصة وأننا بإتقاننا في جمع الحصى، أصبناه في مقتل. إبليس يكره أن تكون الأمة متقِنة ومحسِنة ومنظمة كالبنيان المرصوص. إبليس تسره الفوضى، وتبهج قلبه العشوائية، ويسعده أيّما سعادة إلقاء الأمور كيفما اتفق. عادات متأصلة في ثقافتنا للأسف، وكأننا نذرنا أنفسنا لإدخال السرور على قلب إبليس! الأمل أن يكون الإتقان الذي تعلمناه في الحج مما يبقى معنا، وينتشر، ويثمر.
جمرات ثلاث: جمرة العقبة الصغرى، والوسطى، والكبرى. لماذا؟ لأنّ إبليس مثابر، سيظهر لنا في كل موضع، وكل موقف، في أكابر الأمور، وأواسطها، وأصاغرها. وفي كل الحالات يجب أن نثابر في ردعه حتى يفرنقع.
عند صعود درجات السلم المتصاعد المؤدي إلى الجمرات، وبدل التذمر من المشقة، تذكر أنك كنت في النادي ترفع إعدادات جهاز الجري إلى أقصاها وما تذمرت، بل زادك ذلك فخرا. افخر الآن، افخر بمشقتك هنا.
{gallery}galleries/haj_hayat/mina{/gallery}
المبيت في منى
في أيام التشريق، عبادة النهار الرمي، وعبادة الليل المبيت في منى. هاه! وهل تظنون إبليس الذي رأى عداوتنا له نهارا سيحبط وينطوي على نفسه ويتناول مضادات الاكتئاب ويتابع مسلسلا رقيعا وهو يأكل رقائق البطاطس؟ جَلَد إبليس شيء لا يصدق! سيحاول زيارتنا مساء، يمني النفس أن يفسد ما يمكنه إفساده، وأن يظهرنا بمنظر الكاذبين الذين ادعوا عداوته، لكن أطاعوا أمره فور مجيئه إليهم بعد ساعات.
ويتضح هذا في أحوال الحجاج في أيام المبيت في منى، إذ يحول بعضهم المبيت إلى شيء أقرب إلى نزهة. الكثير من الثرثرة والسمر اللذين قد يمتدان فيشملان الغيبة والنميمة وما لا يرضي الله من القول، أعناق مربوطة بمستطيلات الضوء المستعار ترسف من تفاهات الإعلام الاجتماعي. تثقُل قلوب الكثيرين عن الاستماع إلى الدروس، تحاول العادات القديمة أن تجد لها مسربا. أيام المبيت في منى أول تدريب لنتعلم كيف نقمع مألوفاتنا القديمة ونعيد تقييمها. كيف نقول "لا" لقوة العُصبة. كيف نندمج في الجماعة، لكن نحفظ لأنفسنا مساحة خاصة نمتنع فيها عما لا يرضي الله. اعتزال اللغو واللهو عبادة في منى. هذه أيام إسقاط الإمعيّة.
في منى، تروعنا النفايات الملقاة، قمامات تنوء بها العصبة أولو القوة! وكأننا أمرنا بالطهارة، ولم نؤمر بالنظافة أو إماطة الأذى عن الطريق! أمة تكتب على سطر، وتغفل الآخر بحاجة إلى إعادة برمجة! ماذا لو علم الحاج أن كل قذارة يرميها في هذا المكان المقدس أشد إثما من غيرها؟ قذارة تفت في عضد الحجاج الآخرين، ليس فقط بإيحاش نفوسهم من المنظر، بل بإشعارهم بالصَّغار والبعد عن الحضارة، وتنث في نفوسهم اليأس من أمتهم! إذا كنت قذرا في بيتك، فلا شأن لنا بك، لكن حبا في الله، ولطفا بهذه الأمة، حافظ على نظافة الأماكن العامة في الحج وغيره، لا تنفر الناس من دينهم، ولا تدخل السرور على قلب إبليس.
أما حمامات منى (وهي حمامات عامة تشترك فيها الحملات المتجاورة) فحدث ولا حرج! أعرف من كن يحجمن عن الطعام في ليالي منى كي لا يحتجن زيارة الحمام! هنا نشهد درسا آخر في حرص المسلمين على الطهارة، وإهمالهم النظافة. "... حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". أين نحن منها؟!
طواف الوداع
جاء في الحديث. "لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت." هذا آخر عهدنا بالبيت، وهذا انطلاق لعهدنا الجديد مع الله؛ العهد بأن تكون تولية وجوهنا وقلوبنا إلى هذه القبلة، وكذلك توليه أرواحنا الوليدة الجديدة. طواف الوداع للحج، كتسليمة الختام نهاية الصلاة.
ولادة
"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه." والرجوع هنا يعني المغفرة التامة، العفو الناجز، وهذا المعنى الواضح والقريب. لكن المعنى الأبعد أن الروح تعود كما كانت، نقية من جراح الذنوب، من شؤم المعصية وما تستجلبه من ندوب وكدمات داخلية، من اعوجاجات تكويناتنا النفسية التي تحجبنا عن الله. تعود الروح جديدة ومستعدة لخوض غمار الحياة ببسالة. تعود خالية من "البرمجة" القديمة التي أحدثتها الظروف، والذنوب، وصدمات الحياة. الحج يصفّر العداد مجددا، ويقلب الصفحة ... لا، بل الحج يمنحنا سجلّا جديدا بالمطلق.
هكذا كانت القصة المثالية التي في بالي؛ أحج، تُمحى خطاياي، ثم أموت بعد طواف الوداع! السيناريو المثالي الذي كان يراودني. خطا! لا يكون الحج حجا إلا حينما ينتهي برغبة أكبر في الحياة لا في الموت، برغبة في العودة لمصافحتها/مكافحتها بتلك الروح الوليدة المنقّاة.
جاء في الحديث: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك." الحج، محجة بيضاء، عليها تولد الروح مجددا، نقية لا شِية فيها. والحمد لله الذي أرانا مناسكنا.
عودة إبليس
في رحلة العودة، عطركِ فاحش، كحلك يرفرف على جانبي عينيك. وأنتَ في رحلة العودة تطقطق الشاشة التي أمامك، تختار فلما ينقصه الاحتشام وتترجرج أمامك اللحوم البشرية فيه! ولا يمنعك عن السجائر التي افتقدتها كثيرا سوى إشارة منع التدخين المضاءة في الطيارة.
يا خسارة التراب الذي حثاه إبليس على رأسه. إبليس يبالغ، إبليس طموح كطالب لا يرضى إلا بالدرجة الكاملة. لم عفرت نفسك يا مسكين؟! لقد تعجلت، لقد قسوت على نفسك. ها هم يعودون إلى مجاريهم القديمة. الآن تطمئن نفسك، تشعر بأن سهم البورصة عاد لصالحك، وأن ما أصلح قابل للكسر مجددا. تنفض التراب عن رأسك، وتشرع تفكر كيف تجهز على البقية، على المواليد الجدد، الأجنة الكبار، كيف تلوثهم، أو كيف تحملهم على تلويث أنفسهم.
تعجن عجينة السوء، تودعها خميرة الوسوسة والشر، وتخبز خبز المعصية، وتديره عليهم في صواني الغفلة. بعضهم يأكل منها سادرا، وبعضهم يقلبها في وجهك. تتعرف على مواليد جدد أشداء لا سبيل لك عليهم. مواليد عرفوا معنى الحج، وعرفوا، بياض المحجّة.
الجزء الأول من المقالة:
وإذا الروح وُلدت! (1 من 2)
ملاحظة:
الصور من الحج في عاميّ 1435 و1436.