الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فحينما كنت أعدّ حلقة إذاعية في تفسير بعض الآيات الكريمات من سورة المائدة، وكان منها قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100]. لفت نظري كثرة تكرر كلمتي الطيب والخبيث ومشتقاتهما في القرآن الكريم والسنة النبوية، وأنهما تأتيان عامّتين مطلقتين في مواضع كثيرة، في الماديات المحسوسات وفي المعنويات المدركات بالعقل بالنفس، وتأتيان أوصافاً لأمور كثيرة، مادية ومعنوية أيضاً.
فعنّ لي أن يكون كثرة وورودهما وتنوّعه دالاًّ على ميزان ومعايير تضبط دلالاتهما، ليسير عليها المسلمون في حياتهما.
فرأيت أن أخصص جزءً من الحلقة الإذاعية لهذه القضية، ثم رأيت أن أكتب هذه مقالة فيها.
فما دلالات كلمتي (الطيب والخبيث) وما إليهما، في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؟ وهل هناك روابط تجمعها؟ ثم ما الميزان الذي يضبط لنا هذه الدلالات للعمل بمقتضاها؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة أذكر أهم معانيهما اللغوية:
فالطيّب كما جاء في مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني: هو "ما تستلذّه الحواسّ وتستلذّه النفس"[المفردات، ص527]، وقال الراغب أيضاً: "والطيب من الإنسان: من تعرّى من نجاسة الجهل والفِسق وقبائح الأعمال، وتحلّى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال، وإياهم قصد بقوله تعالى: "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين". [المفردات، نفسه].
والخبيث على العكس من الطيب في الوصف، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "الخاء والباء والثاء، أصل واحد يدل على خلاف الطيّب"[مقاييس اللغة 2/238].
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه: "والخبيث نعت كل شيء فاسد، خبيث الطعم، وخبيث اللون. ... وخبث الحديد، وغيره مما يذاب بالنار، هو ما يبقى من رداءته إذا أُخْلص جيدُه". [معجم العين، الخليل بن أحمد، ج4ـ ص249]
دلالاتهما ومعانيهما الشرعية:
- أما الطيب والخبيث شرعاً، فقد وردت عدة أقوال في تفسيرهما، فقيل: هما الحلال والحرام، وقيل: المؤمن والكافر، وقيل: الرديء والجيد، والصحيح كما قال القرطبي: "إن اللفظ عام في جميع الأمور، يتصّور في المكاسب والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر، والطيب وإن قل نافع جميل العاقبة. قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً}[الأعراف 7/ 58].
ولا شك أن التعميم الذي ذكره القرطبي رحمه الله هو الصحيح، ويؤيّده استقراء مواضع ورودهما في القرآن الكريم، وكثير من الأحاديث النوية.
وفي تفصيل ذلك أقول: كلٌّ من الطيب والخبيث يُطلق على الماديات والمعنويات، ومما وُصف في القرآن الكريم بالطيب: الطعام، والرزق، والنساء، والإنسان، كما في الآيات الكريمة الآتية:
- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا..}[البقرة: 168]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ..}[البقرة:172]
- وقوله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3].
- وقوله عز وجل: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ..}[النحل:32]
والخَبَث كذلك يكون في الماديات وفي المعنويات:
فمن المحسوس الماديّ، الخبث بمعنى النَّجَس، كما في الحديث الشريف: "إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل الخبث"([1]).
ومن المحسوس خبث المعادن المُذابة، وهو الشوائب التي تخرج منها بالصهر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة"([2]).
وكذلك ما جاء في وصف الحُمّى أنها تنفي الخطايا والذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم لصحابية أصيبت بالحمى: «لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ»([3]).
وسمّى الرسول صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل بالشجرة الخبيثة، بقوله: "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنّا في مسجدنا"([4]). وخبث الثوم والبصل في رائحته، كما بينه الرسول نفسه حين ظن الناس أنها حُرّمت، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا»([5]).
ومن المعنويّ إطلاق لفظ الخبيث على الكسب الحرام، كمهر البغي. كما قال عليه الصلاة والسلام: "مهر البغيّ خبيث"([6]).
وقريب منه ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم في وصف المدينة المنورة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «المَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا».
ومنه خُبْث النفس، حين ينام المسلم عن صلاة الصبح، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًاً طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ»([7]).
والمراد ب(خبيث النفس) هنا، أن يصبح مكتئباً كسلان، يلوم نفسه على تقصيره في ترك الخير والقيام في الليل.
ولكن يكره للمسلم أن يقول خبثت نفسي. فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي»([8]) [أخرجه البخاري].
قال صاحب القاموس: "ولَقِسَتْ نفسُه إلى الشيءِ، نازَعَتْه إليه، ومنه: غَثَتْ، وخَبُثَتْ. وإنما كَرِهَ النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، لَفْظَ خَبُثَتْ لِقُبْحِهِ، ولِئَلاَّ يَنْسُبَ المُسْلِم الخُبْثَ إلى نفسِه"([9]).
ومما ورد فيه الخبث المعنوي وصف ذكور الشياطين وإناثهم بالخُبُث والخبائث في حديث الخلاء. كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ»([10]). وجاء في شروح الحديث أنّ الخُبُث ذكور الشياطين والخبائث إناثهم.
ومن الاستعمال المعنوي التعبير بالطيب عن الحلال، كما في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}[النساء: 3]، ومنه بمعنى الطاهر، كما في وصف الصعيد بقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}[النساء: 43].
ومن جهة أخرى، فقد ورد كلٌّ من اللفظين -الطيب والخبيث- عاماً، وورد كلٌّ منهما مُخَصَّصاً أو مُقيّداً بوصف معيّن.
فمن ورودهما عامّين قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}[البقرة: 172]. وقوله: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}[النساء: 3]. فالمراد أي خبيث لا تتبدلوه بأي طيب([11]).
ومن أمثلة ورودهما على العموم أيضاً قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ}[المائدة: 100]. ولعل هذه الآية أعم آية وأشملها، فالخبيث هنا يعمّ كل خبيث، ويستغرق جميع أنواعه وأحواله، في الماديات والمعنويات، في البشر وغيرهم. وكذلك لفظ الطيب جاء عاماً مطلقاً، فيشمل كل طيّب في الماديات والمعنويات، في صفات البشر وغيرهم.
ومن ذلك أيضاً قوله عز وجل في ذكر بعض خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}[الأعراف:157]
ومما ورد منهما مقيّداً ما جاء في وصف الذريّة بالطيبة في قوله سبحانه: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}[آل عمران: 38].
وفي وصف المساكن في الجنة بالطيبة بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ..}[التوبة:72].
ووصف الريح بالطيبة: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا}[يونس:22].
ومن ذلك وصف الكلمة بالطيبة وبالخبيثة في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم:24]. وقوله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[إبراهيم:26].
والمقصود هنا بالكلمة الطيبة كلمة التوحيد لله تعالى، وبالكلمة الخبيثة كلمة الكفر والشرك.
وكذلك وصف الحياة بالطيبة، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل: 87].
وكذا وصف كلٍّ من القول والكَلِم بالطيب، في قوله عز وجل: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}[الحج:24]، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:10].
ومنها وصف التحية بالطيبة بقوله سبحانه: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}[النور: 61].
هذا، وسواء أجاءت هاتان الكلمتان -أعني الطيّب والخبيث- عامّتين، أو خاصتين ببعض الأمور دون غيرها، فإنهما من أكثر الألفاظ وروداً وشمولاً لمعاني الخير والشر، والحسن والقبح.
فما الميزان الذي يضبط هذه الاستعمالات الكثيرة لهما، وما معاييره؟
ميزان الطيبة والخباثة في ضوء الشريعة الإسلامية:
السؤال الآن: هل هناك ميزان دقيق لمعرفة الطيب من الخبيث؟
والجواب: نعم هناك ميزان عامّ دقيق، وله معياران منضبطان في الجملة، وما عداهما يدخل في دائرة اجتهاد العلماء، ويكون في مُستجدات الحياة في الطعام والشراب والمعاملات وغيرها:
أما المعياران المنضبطان، فواحد للطيبات، وواحد للخبائث.
- فكل ما ثبت طلبه والأمر به في الشريعة الإسلامية من المعاني والماديّات، فهو طيب بلا ريب. وأمثلته: الإيمان والإحسان والعمل الصالح والأخلاق الحسنة، وكذا طيبات الطعام من اللحوم والثمار والخضروات، وأشباهها التي جاءت النصوص صريحة بإباحتها وحِلّها، وكذا النكاح الحلال على وفق ما جاءت به الشريعة الغراء.
- وكل ما ثبت تحريمه في الشريعة من معنويات وماديات، فهو من الخبيث بلا شك. وأمثلته: الكفر والفسوق والنفاق، والأخلاق السيئة، والمحرمات من الطعام والشراب، كالخنزير والميتة والخمر.
ومما يدل على هذين المعيارين الآياتُ التي أوردناها سابقاً، وآيات كريمة أخرى، ومنها:
قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}[البقرة:267]
وقوله عز وجل: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ..} [آل عمران:179]
وما عدا المعيارين المذكورين لمعرفة الطيب والخبيث وضبطهما، فإن الأمر متروك لمجتهدي الأمة بإلحاق الأمور المستجدة بأحدهما.
فإنْ أجمعوا على أمر بأنه طيّب، فهو طيّب بلا شك، وإن أجمعوا على أمر بأنه خبيث، فهو خبيث بلا ريب؛ لأنهم لا يُجْمعون على ضلالة أو خطأ، كما جاء بالأحاديث الشريفة([12]).
وإن اختلفوا في أمر، أهو خبيث أو طيب -وهذا قلما يحدث-؛ أو حرام أو حلال، فالأولى الأخذ بمذهب جمهورهم وأكثرهم، والسير مع السواد الأعظم، فهذا أسلم.
هذا، وقضية وضع ميزان لمعرفة الطيب من الخبيث في كل أمور الحياة، ذات صلة بقضية التحسين والتقبيح، التي شغلت حيزاً كبيراً من النقاش والأخذ والرد بين علماء الكلام (العقيدة)، التي أثارها المعتزلة لعدة قرون من التاريخ الإسلامي.
ولا أريد إثارة هذه القضية، ولكن لا بُدّ من الكلام العامّ فيها؛ لأن عدّ الشيء طيباً يعني تحسينه، وعدّه خبيثاً يعني تقبيحه.
وفي الجملة كان هناك رأيان بارزان في قضية التحسين والتقبيح؛ إذ كان يرى فريق المعتزلة أنّ التحسين والتقبيح عقليان، أي أن العقل هو الذي يحكم بهما ويقطع، ويرى جماهير المسلمين أنهما شرعيّان، فما يعدّه الشرع حسناً فهو حسن، وما يعدّه قبيحاً فهو قبيح، ولكن لا يعارض العقل في الجملة، بل العقل يتفق مع الشرع؛ لأن الشرع جاء متلائماً مع الفطرة الإنسانية، ولا يحصل التعارض إلا في مسائل قليلة، يضطرب فيها العقل، وهنا نرجّح الشرع الثابت قطعاً على العقل.
ولا شك أن مذهب جمهور المسلمين هو الراجح؛ لأن أموراً كثيرة قد تراها عقول كثيرة حسنة وهي في الشرع قبيحة، كأكل الربا فهو من الموبقات في الشرع، وهناك أمم وشعوب كثيرة تراه حسناً، وتتعامل فيه، بل إنه انتشر في كل البلاد، حتى الإسلامية منها، وكذا الزنى وشرب الخمر فهما من الكبائر المحرّمة شرعاً، ولكن عقولاً بشرية كثيرة متقدمة علمياً ترى أن الزنى بالتراضي لا بأس به، وكذا الخمر إذا كان بمقادير محدودة.
وتحريم هذه الأشياء ثابت قطعاً، وهو بوحي من الله الحكيم الخبير، فلا بد من ترجيحه.
وكذلك الرهبانيّة والزهد في الحياة وأكل الطيبات، قد تراهما عقول كثيرة أمراً طيباً، ويحبه الله تعالى، ولكن الشرع جاء بخلاف ذلك.
وفي المقابل، قد ترى عقول كثيرة أنّ وجود الحشرات، كالذباب والبعوض والنمل وغيرها، شيئاً قبيحاً، ولكن الشرع يرى أنّ كل ما خلقه الله إنما خلقه لحكمة، إذ كل ما خلقه الله تعالى يؤدي وظيفة في الحياة، وحكمة الله سبحانه حسنة بلا ريب.
ومثل ذلك إيلام الأطفال بالمرض والسقوط والجروح ونحوها، وهم دون البلوغ، وليس عليهم ذنوب، فهي بحسب الظاهر تخالف العدل، ولكن الحِكم الكثيرة التي تنتج عنها أكبر كثير من وقوع الألم أو الجرح عليهم. وهكذا سائر الأمور المشابهة.
ولكن الأمور المسكوت عنها في الشرع، وما يتبدّى منها شيئاً فشيئاً من مستجدات الحياة، بعد انقطاع الوحي، هي أمور اجتهادية في ضوء الشرع، وقد حصل الخلاف في تحليل بعض المطعومات وبعض التصرفات، بحسب إلحاقها بالحلال أو بالحرام، كاختلافهم في أكل الخيل والزرافة والفيل، وبعض أنواع الطيور، وأشباهها.
وهذه الأمور هي دائرة العفو، ويختلف فيها الناس عامة، والعلماء خاصة، بسبب اختلاف البيئات والعادات. والميل فيها إلى الإباحة والجواز هو الراجح، ما لم يكن فيها ضرر واضح؛ لأن الأصل في الأشياء النافعة الإباحة، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]. ويؤيده الآيات التي تبيّن تسخير الله تعالى ما في السموات وما في الأرض للإنسان.
وبنحوٍ عامٍّ، فإن دائرة الحلال في الشرع أوسع من دائرة الحرام بكثير، ويكفيك أن تقارن عدد المحرمات في المأكولات والمشروبات والملبوسات بأعداد المباحات منها، لتعلم صحة هذه النظرية.
وأختم مقالتي هذه بالتذكير بأمر مهم، ألا وهو أنّ الله سبحانه وتعالى اتصف بصفة الطيّب، على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا"([13]).
وعليه، فإن على كل مسلم، وكل إنسان عاقل، أن يتحرّى الطيّب في كل شأن وكل أمر من أمور حياته وشؤونها؛ لأن الله تعالى طيّب، ولا يقبل إلا الطيب.
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
([1]) هكذا عن عند الدارقطني في سننه، وفي شرح معاني الآثار للطحاوي: خبثاً بدل الخبث، وكذلك في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، وللطحاوي في شرح مشكل الآثار بلفظ: "فليس يحمل الخبث".
([2]) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وأحمد في مسنده، والترمذي في سننه.
([3]) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
([4]) أخرجه مسلم، وعند أحمد وابن خزيمة بلفظ: "فلا يقربنَّ مسجدنا".
([5]) وعند أحمد: "ليس لي تحريم ما أحل الله".
([6]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى.
([7]) أخرجه البخاري.
([8]) أخرجه البخاري.
([9]) القاموس المحيط، للفيروزآبادي.
([10]) أخرجه البخاري.
([11]) هنا أود أن أذكر فائدة مهمة في استعمال فعل (استبدل) أو (بدّل): إنَّ الاستعمال اللغوي الصحيح لهما يكون بإدخال اللام على الشيء المُبْدل منه، على خلاف ما نستعمله في كلامنا العامي. ومن أدلة ذلك قوله تعالى لبني إسرائيل: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}. وكذلك قوله هنا: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}.
([12]) منها قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمعُ أمّتي على ضلالة". ورُوي بلفظ: "إنّ أمتي لا تجتمع على خطأ"، وبألفاظ أخرى. انظر الروايات في: كشف الخفاء للعجلوني، برقم (2999)، ومجمع الزوائد للهيثمي (7/211)، والمقاصد الحسنة للسخاوي، برقم (1288)، وهو حديث صحيح لطرقه.
([13]) جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه برقم (1015). وتتمته: "وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}[البقرة: 172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟". والطيب في صفة الله تعالى -كما جاء في شرح النووي على مسلم- بمعنى المنزَّه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس.