* مقدمة:
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].
أما بعد، فقد يبدو العنوان غريباً للوهلة الأولى. ولكن بعد التأمّل الجيد فيما سأعرضه وأبيّنه في هذا المقال، ستتجلى حقيقة الأمر، بإذن الله تعالى.
إن أكثر المثقفين المسلمين يجهل حقيقة علم أصول الفقه، ويخلط بينه وبين الفقه، فيحسب أنه أمهات مسائل الفقه، فكان لا بد من بيان حقيقته باختصار، ثم تمييزه عن علم الفقه، لأنتقل بعد ذلك للدخول في صلب الموضوع، والوصول إلى بيت القصيد.
أما الفقه، فهو في أشهر تعريفاته: "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية". وكذلك يُطلق على الأحكام الشرعية العملية نفسها، من عبادات ومعاملات، ونحوها.
وأما علم أصول الفقه، فهناك عدة تعريفات له، تختلف بألفاظها وتتقارب بمعانيها، وليس المقام مقام عرضها والمقارنة بينها. ولكنني سأختار هنا أحدها، وهو تعريف جمهور الأصوليين؛ لأنه الأوضح والأقرب إلى تحقيق غرضنا.
ينص هذا التعريف على أن علم أصول الفقه هو: "العلم بالقواعد الكلية التي يتوصّل بها المجتهد إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية".
وبالنظر إلى تعريف كل من الفقه والأصول، يتضح الفرق بينهما، ونكتشف أن الفقه ثمرة الأصول، وأن الغاية من علم الأصول هي الوصول إلى الفقه. فأصول الفقه آلة أو أداة تنتج الفقه، فالأصول مقصودة لغيرها، والفقه مقصود لذاته؛ لأن كل مسلم يحتاج إلى الفقه، وأما الأصول فيحتاجها العلماء، وخصوصاً الفقهاء منهم.
ولا يفوتني أن أنبّه إلى أن الفقه في اللغة معناه الفهم، فهو عمل العقل البشريّ فيما يُعرض عليه من أقوال وأفعال ونحوها، وكذلك الأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها هي أفهام عقول بشرية، ولكنها صادرة من عقول خاصة مؤهّلة بجملة من المؤهلات الشخصية والعلمية، تُسمّى شروط الاجتهاد.
* نبذة تاريخية مهمة:
وهنا أضع بين يدي القارئ نبذه تاريخية عن نشأة علم أصول الفقه وتدوينه؛ لأنها ستضيء لنا الدرب في تجلية أثر أصول الفقه في الحدّ من التطرّف في الرأي والاجتهاد الفقهي، الذي يخرج عن المقصود منه.
أما عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان عصر التأسيس والبناء لصرح الشريعة الإسلامية الغرّاء، ولا غرو في هذا؛ لأن الشريعة الإسلامية ربّانية المصدر، أي إن مصدرها الوحي الإلهي، والوحي الإلهي تجلّى في مظهرين اثنين، لا ثالث لهما، القرآن الكريم والسنة النبوية. فأما القرآن الكريم، فهو وحي مَتْلُوٌّ، أي باللفظ والمعنى، وهو مُتَعَبَّدٌ بتلاوته، لا تصح الصلاة إلا به، ويؤجر قارئه، حتى لو لم يفهم معناه. وأما السنة النبوية، فهي وحي من الله تعالى أيضاً، لكنه غير مَتْلوٍّ، أي وحي بالمعنى دون اللفظ، وتشتمل السنة النبوية على الأحاديث الشريفة المنقولة إلينا نقلاً صحيحاً أو حسناً، بحسب شروط المحدّثين في القَبول، سواء أكانت أحاديث عادية، أي منسوبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو قُدْسية، وهي التي ينسبها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الله عزّ وجل، وسواء أكانت سنة قولية، أي من قوله -صلى الله عليه وسلم-، أو فعلية، أي من فعله عليه الصلاة والسلام الذي يحكيه لنا بعض الصحابة رضي الله عنهم، أو من تقريراته -صلى الله عليه وسلم-، أي إقراره لقول أو فعل صدر من بعض أصحابه، بإظهار الرضا عنه أو السكوت مع العلم به.
وهنا يبرز سؤال مهم، وهو: هل كان للتشريع الإسلامي، في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، مصدر آخر غير الوحي؟ وبعبارة أوضح: هل كان اجتهاد الرأي، الصادر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو عن بعض صحابته رضي الله عنهم، مصدراً للأحكام الشرعية؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أو التساؤل، أقول: إنّ اجتهاد الرأي قد وقع فعلاً في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، منه عليه الصلاة والسلام ومن بعض أصحابه، في حالات قليلة محدودة، وهي معروفة مشهورة في كتب السيرة وكتب التفسير وكتب أصول الفقه، وكان الغرض منها بيان مشروعية الاجتهاد عند عدم ورود النص الصريح، إضافة إلى تدريب فقهاء الصحابة عليه لما يُستقبل من الزمان.
ولكن الاجتهاد في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مصدراً للتشريع الإسلامي، فإن كان صواباً أقرّه الوحي، وإن كان خطأ صوّبه الوحي.
وبعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، تولّى فقهاء الصحابة رضي الله عنهم أمر الإفتاء لبيان الأحكام الشرعية للناس، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة، والمشهورون بالفقه والفتوى منهم، كالعبادلة الأربعة: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، إضافة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وبما أنّ الوحي قد انقطع بوفاته عليه الصلاة والسلام، ومن جهة أخرى نزلت نوازل، ووقعت وقائع، واستُجدت مسائل، في عصر الصحابة، ولم يكن نص صريح بأحكامها في القرآن أو السنة؛ كان لا بد من مواجهتها وإيجاد الحلول الشرعية لها من خلال الاجتهاد الفقهي، القائم على الرأي المحمود من المؤهلين له من الصحابة رضي الله عنهم. وهذا ما تمّ فعلاً بنجاح باهر دون ارتباك أو تردد منهم؛ لأنهم كانوا قد أخذوا "الضوء الأخضر" من معلمهم ورسولهم، إضافة إلى الدربة عليه، بين يديه عليه الصلاة والسلام.
وفي عصر التابعين –وهم الذين تلقّوا العلم عن الصحابة- وأتباعهم، مضى حال التشريع الإسلامي على ما كان عليه في عصر الصحابة، مع توسّع ملحوظ في جانب اجتهاد الرأي، وهو توسّع طَبَعيّ تستدعيه التطورات الحاصلة في المجتمعات الإسلامية، حيث توسّعت الدولة الإسلامية، فامتدت من الهند شرقاً إلى الأندلس غرباً، ومن اليمن جنوباً، إلى أرمينيّا وأذربيجان شمالاً، ودخل في دين الله تعالى أمم وشعوب لا حصر لها، تحمل من الثقافات والأعراف والعلوم والصناعات مما لا عهد للعرب في جزيرتهم به، وبرع في العلوم الشرعية من الأعاجم أضعاف العلماء من العرب.
وعليه، فقد كان الاجتهاد الفقهي في المستجدات من الأمور أمراً منطقياً مشروعاً، بل مطلوباً، وهوالواجب الكفائي الذي قام به أهله من الفقهاء في كل عصر.
وفي عصر التابعين وأتباعهم أيضاً، ظهرت مدرستان كبيرتان في الاجتهاد والنظر في المسائل الجديدة، هما: مدرسة أهل الحديث في الحجاز، وكان منهجها يقوم على الأخذ بالنصوص من القرآن والسنة وإجماع الصحابة وأقوالهم، والإقلال من اجتهاد الرأي ما أمكن. ومدرسة أهل الرأي في العراق، وكان منهجها كسابقتها في الجملة، غير أنهم توسّعوا في الرأي وأكثروا من الاجتهاد، حتى اجتهدوا لمسائل افتراضية لم تقع في زمانهم. وكان سائر العلماء في سائر الأمصار الإسلامية، كالشام ومصر واليمن، يتبع هذه المدرسة أوتلك، ولكنهم في الغالب يميلون إلى مدرسة الحجاز.
ثم ظهرت نجوم أعلام من العلماء، أصبحوا فيما بعد أئمة في الفقه يُقتدى بهم ويُتّبعون ويُقلّدون، وكان منهم الإمام زيد بن علي (122-79هـ) في الكوفة، والإمام أبو حنيفة، النعمان بن ثابت (80-150هـ) في العراق، والأوزاعي، عبد الرحمن بن عمرو(157-88هـ) في الشام، والإمام مالك بن أنس (179-93هـ)، والصادق، جعفر بن محمد (148-80هـ) في المدينة المنورة، والليث بن سعد (94-175هـ) في مصر، وغيرهم كثير.
ثم سطع نجم الإمام الشافعي، محمد بن إدريس (204-150هـ)، واضع علم أصول الفقه، ومدوّنه الأول.
* تدوين الشافعي لعلم أصول الفقه:
قبل أن أتكلم عن تدوين الشافعي لعلم أصول الفقه، في كتابه الفذ (الرسالة)، لا بد من أن أبيّن باختصار أهم المؤهّلات العلمية التي حصّلها الشافعي –رحمه الله- حتى أمكنه تدوين هذا العلم الفريد.
ولد محمد بن إدريس بن شافع، الذي يلتقي نسبُه نسبَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، في جده الخامس (عبد مناف)، في مدينة غزة سنة 150هـ، ومات أبوه وهو طفل رضيع، وبعد سنتين من ولادته عادت به أمه إلى مكة المكرمة، لينشأ بين أهله ويتلقى العلم عن علمائها.
فنشأ في مكة، وتعلم القراءة والكتابة والحساب، وحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وأخذ التفسير والفقه عن علماء المسجد الحرام، وما إن بلغ الخامسة عشرة من عمره حتى بدا كأنه عالم من العلماء، وقال له بعض أساتذته: "أفتِ يا أبا عبد الله، فقد آن لك أن تفتي".
ولكن الشافعي لم يغترَّ بهذا الكلام، ولم تعجبه نفسه، بل أدرك أنه ما زال في بداية طريق العلم، وأن عليه أن يستأنف علمه ويرحل في طلبه ليتبحّر في العلوم، فقرر الارتحال إلى المدينة المنورة، ليلقى عالمها المتميز، ذائعَ الصيت، إمامَ دار الهجرة، مالكَ بن أنس، صاحبَ (الموطأ).
وقد تهيأ لهذه الرحلة العظيمة تهيئة خاصة، تعظيماً للمرحول إليه، فاستعار نسخة من موطأ الإمام مالك، وحفظه غيباً، ثم طلب رسالة توصية من والي مكة إلى والي المدينة، ليقبله مالك طالباً علم عنده. وتمّ له ما أراد، ووصل المدينة، ولقي مالكاً النجم، وامتحنه مالك امتحاناً شفهياً سريعاً، فوجده أهلاً لطلب العلم وأعجب به، وألحقه بمجلسه في المسجد النبوي.
ولازم الشافعيُّ شيخَه مالكاً إلى أن توفي -رحمه الله-، أي حوالي تسع سنين.
ومن الغريب في حياته، أنه رحل إلى البادية، ليأخذ العربية بصفائها من أصولها، وهو العربي القرشي الفصيح، فاختار قبيلة هذيل، وهي من أفصح القبائل يومئذ، فحفظ أشعار شعرائها، وتعلّم فيهم الرمي والطب.
ثم رحل إلى العراق مرة أولى ليأخذ فقه أهل العراق، ولقي محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة، ومدوّن فقهه، فأخذ عنه حمل بعير.
وعاد إلى مكة، ثم رحل إلى اليمن رحلة قصيرة، لم تدم أكثر من سنتين، تولى فيها القضاء قليلاً، وأخذ عن علمائها علم الجدل والمناظرة، حتى صار مناظراً من الطراز الأول.
وبعد أن بلغ الأربعين من عمره، وقد أصبح عالماً مشهوراً، قام برحلة ثانية إلى العراق، واستقر فيها مدة أخذ عنه العلم كثيرون، كان أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل (164- 241هـ)، الذي تميّز بالحديث وعلومه، فأفاد من فقه الإمام الشافعي، وأفاد الشافعي منه في الحديث.
وممن لقيه في هذه الرحلة، وعرف مكانته العلمية، العالم المحدّث الفقيه عبد الرحمن بن مهدي، وهو الذي طلب من الشافعي أن يكتب له رسالة في أهم قواعد الاستنباط، التي تحد من كثرة الاختلاف في الآراء الاجتهادية، وقد أجابه الشافعي إلى طلبه وكتب له رسالة، كانت هي النواة لرسالته الكبرى المشهورة التي أملاها في أواخر سنوات حياته في مصر، فكانت حجر الأساس في علم أصول الفقه، فهو أول تدوين لهذا العلم العظيم.
وعاد إلى مكة، وكان يلقى العلماء القادمين لأداء فريضة الحج، ويناظرهم، ويأخذون عنه العلم.
وفي سنة (199هـ) زار العراق المرة الأخيرة زيارة قصيرة، ثم قرر الارتحال إلى مصر ليستقر فيها، فلقيه أهلها بالترحيب لما ذاع من صيته وانتشار علمه. ومن جهته، فقد وجد في مصر علماء كثيرين وعلماً لم يكن يعلمه من قبل، إضافة إلى اختلاف البيئة والأعراف والأحوال.
وكل هذا جعله يغيّر كثيراً من آرائه الفقهية التي دونها في العراق في كتابه (الحُجّة)، فصار له في مصر مذهب جديد يغاير في كثير منه مذهبه القديم في العراق، دوّنه في كتابه (الأم).
والأهم من ذلك هنا، أنه أعاد كتابة رسالته في الأصول، بنحو أوسع وأكمل من رسالته إلى ابن مهدي، وأملاها على تلميذه الربيع بن سليمان، وهي التي وصلت إلينا كاملة، وأفاد منها جميع علماء المسلمين في جميع الأقطار والأصقاع، وأقرّوا له بالسبق والتأصيل في علم الأصول.
وكان هدفه الرئيس منها أن تكون ميزاناً للاجتهاد الفقهي، فيُعرف به الصواب من الخطأ فيه، أو على الأقل ما هو أقرب للصواب فيما لا يمكن الجزم به.
وبقيت رسالة الشافعي المرجع الوحيد والحجة للموافقين والمخالفين مدة قرن ونصف تقريباً بعده، لم يظهر فيها كتاب شامل في أصول الفقه، اللهم إلا شروحاً للرسالة نفسها، وكلها الآن في حكم المفقود، ليس شيء منها بين أيدي العلماء.
ومنذ أواسط القرن الرابع الهجري كثر التأليف في أصول الفقه، واختط الحنفية طريقة مغايرة لطريقة الشافعي، وهي مشتقة من الفروع الفقهية التي تركها أئمتهم، فصار لدينا طريقتان أو منهجان للتأليف في الأصول، الأولى تسمى طريقة الشافعية أو طريقة المتكلمين؛ لأن كثيراً من المعتزلة وعلماء الكلام كتبوا فيها، وأضافوا عليها. والثانية تسمى طريقة الحنفية أو طريقة الفقهاء؛ لأنها أصول مستخلصة من الفروع الفقهية، وأول من كتب بها علماء الحنفية.
وفي أواخر القرن السابع الهجري ظهرت طريقة ثالثة للتأليف في علم أصول الفقه، تسمى طريقة المتأخرين، وهي تجمع بين الطريقتين السابقتين، فتأخذ مزايا كل منهما، وتترك عيوب كل منهما.
واستمرت هذه الطريقة حتى العصر الحديث، قبل نحو قرن من يومنا هذا، حيث ظهرت الطريقة الحديثة المقارنة، فكتب بها العلماء المعاصرون بالأسلوب الحديث من حيث التبويب والتصنيف، وهي أقرب ما تكون إلى طريقة المتأخرين، دون تعصب لمذهب من المذاهب، أو طريقة من الطرق.
وعلى كل حال، فليس بيان هذه الطرق هدفنا في هذه المقالة، وإنما بيان الأهداف التي وضع لأجلها علم الأصول، والفوائد التي يحققها في حياة المسلمين.
وفيما يلي أسرد أهم الأغراض والفوائد التي نجنيها من خلال دراسة علم أصول الفقه، ونشره بين المثقفين، تلخيصاً مما ذكره العلماء المعاصرون، استنتاجاً من كتب الأقدمين:
1- إنه يرسم للمجتهد الطريق القويم إلى استنباط الأحكام، ويضع أمامه منهجاً واضحاً ومستقيماً في كيفية الاستنباط من خلال القواعد الكلية لذلك.
2- إنّ علم أصول الفقه يبين المنهج الذي سلكه الأئمة المجتهدون في الاستنباط والاجتهاد، لتطمئن القلوب لعلمهم، وتزداد الثقة بهم.
3- يرسم علم أصول الفقه الطريق للعلماء في كل عصر لمعرفة حكم الله تعالى في المسائل المستجدة، فيبقى التشريع مسايراَ لتطورات الزمن مع وجود الحاجة الملحة للتشريع الدائم، والاجتهاد المستمر؛ لأن التشريع نفسه وليد الحاجة.
4- إنّ علم أصول الفقه يضبط الفروع الفقهية بأصولها، ويجمع المبادئ المشتركة، ويبين أسباب التباين أحيانا في الجزئيات، ويظهر أساس الاختلاف.
5- إنّ علم أصول الفقه هو الدعامة الرئيسية لدراسة المذاهب المختلفة، والمقارنة بينها، وخاصة في عصرنا الحاضر الذي شاع فيه البحث المقارن والدراسات التشريعية المقارنة.
6- إنّ علم أصول الفقه يعطي الدليل الجازم والتفسير الكامل لعظمة الثروة الفقهية التي خلفها الفقهاء المسلمون، ويبين أنّ أسباب الاختلاف بين الأئمة موضوعية وعلمية، وليست أسباب شخصية أو عشوائية.
7- كان علم أصول الفقه –ولا يزال– الوسيلة الناجحة لحفظ الدين من التحريف والتضليل، فكان علم أصول الفقه العقبة الكأداء في وجه المنحرفين والمضللين الذين حاولوا الدس في الأحكام، كإنكار السنة، وحُجّية خبر الآحاد، وغير ذلك.
وهذه الفائدة الأخيرة هو ما سيأتي بيانه مفصلاً في الفقرة التالية:
* علم أصول الفقه يحارب التطرف الفكري والاجتهادي:
كانت الفائدة المذكورة آخراً لعلم الأصول أنه كان –ولا يزال– الوسيلة الناجحة لحفظ الدين من التحريف والتضليل، فكيف يكون ذلك على وجه التفصيل؟
إنّ علم الأصول، كما رأينا في تعريفه، علم بالقواعد الكلية التي يستند إليها المجتهد او الفقيه ليتمكن من استنباط الأحكام الفقهية للمسائل الجديدة.
وعليه، فإن هذه القواعد والقوانين الاجتهادية، التي يتفق عليها الأصوليون بنسبة عالية في مضامينها، وإن اختلفت صيغها وألفاظها بينهم؛ إن هذه القواعد هي التي تضبط سير المجتهد حين يمارس عملية الاجتهاد، ليصل إلى حكم شرعي فقهي، أجاز الشرع نفسه لنا قبوله والعمل به، حتى لو اختلف مع حكم شرعي فقهي من مجتهد آخر، في المسألة نفسها.
ومن أقوى الأدلة على مشروعية الاجتهاد، ومشروعية العمل بنتيجته سواء أكانت صواباً أو خطأ، حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، حينما أرسله النبي–-صلى الله عليه وسلم-– قاضياً إلى اليمن فسأله: "كيف تقضي إذا عَرَض لك قضاءٌ ؟" قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجدْ في كتاب الله؟" قال: فبسنة رسول الله –-صلى الله عليه وسلم-–، قال: "فإن لم تجدْ في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟"، قال: أجتهد رأيي ولا آلُو (أي لا أقصّر)، قال: فضرب رسولُ الله --صلى الله عليه وسلم-- في صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله"([1]).
ففي هذا الحديث الشريف تقرير صريح من النبي -صلى الله عليه وسلم- لخطة معاذ في القضاء، وتتلخص بالبحث عن الحكم في القرآن الكريم، فإن لم يجد يبحث عنه فيما يعلم من السنة النبوية، فإن لم يجد في النصوص انتقل إلى الاجتهاد مستأنساً بمعاني القرآن والسنة، بالقياس عليها أو الأخذ بالمصلحة المرسلة أو العرف أو الاستصحاب، أو غير ذلك من الأدلة الاجتهادية.
والأصرح من حديث معاذ، قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر"([2]).
فهذا الحديث يصرّح بانقسام الاجتهاد من حيث النتيجةُ إلى صواب وخطأ، وبأن المجتهد يحصّل أجراً في كلا الحالتين.
ولكن علماء الأمة مجمعون منذ عهد الصحابة أن الاجتهاد المعتبر، وينطبق عليه الحديث الشريف، هو الاجتهاد الصادر من أهله في محله.
ولذلك وضعوا شروطاً، تكاد تكون مجمعاً عليها أيضاً، لمن يحق له الاجتهاد، فليس كل عالم أو داعية يصح أن يُطلق عليه مصطلح مجتهد أو فقيه. ولما ضعف الاجتهاد في الأمة بعد القرن الرابع الهجري، جعلوا للاجتهاد مراتب أو مستويات، وللمجتهدين طبقات، وكل واحد يعرف حدوده فيلتزم بها، ويعرفها له العلماء الآخرون.
وبناءً على ما سبق، فإن الاجتهاد الفقهي الصحيح يسير في طرق محددة تضبط سيره، وتمنعه من الانحراف عن الخط العريض المتفق عليه من جماهير العلماء، ومن الضلال في صحراء الآراء والرغبات؛ لأن معظم النصوص الشرعية ظنية الدلالة، وتتعدد فيها الاحتمالات في المعاني، ولكن هناك احتمالات تتقبلها الأصول، واحتمالات ترفضها الأصول.
وهذه الاحتمالات التي تأباها أصول الفقه هي المزالق والأنفاق التي يسير فيها المتطرف في تفكيره، والمنحرف مع أهوائه، فيسير في صحراء الآراء ومتاهاتها.
وهناك يكمن الخطر، وقد ظهر في التاريخ الإسلامي فِرَقٌ وجماعات انحرفت عن الخط العام الذي سار عليه الصحابة والتابعون وفقهاء الأمة عموماً، ولكن معظمها انقرض، وبعضها استمر على أنه من المذاهب الإسلامية([3]).
وفي عصرنا الحالي، تعدد الانحراف والمنحرفون، وتنوع التطرف الديني والمتطرفون، على نحو فاق ما ظهر في التاريخ الإسلامي السابق كله، أو أننا نراهم كثيرين بسبب سهولة انتشار أفكارهم ومقولاتهم في وسئل النشر المتنوعة.
فيظهر علينا أشخاص بصفة مفكرين أو دعاة، يريدون أن يفسروا آيات القرآن الكريم بحسب أوائل خواطرهم، وبادئ الرأي عندهم، حتى لو لم يكن لتفسيراتهم أي مستند من أصول أو لغة عربية، بل إن أكثرهم لا يجيد تلاوة آية كريمة واحدة تلاوة صحيحة.
وظهرت جماعات متطرفة، هي أقرب ما يكون إلى فرق الخوارج الذين ظهروا في عصر الصحابة والتابعين، وقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهم، وهؤلاء يكثر فيهم من يحفظ القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، لكنهم جاهلون بقواعد الفهم الصحيح للآيات والأحاديث، أي إنهم جاهلون بعلم أصول الفقه، ويأخذون بظواهر النصوص، وليس لديهم القدرة على الجمع بين النصوص، ولا الغوص في معانيها، لاستنباط عِلَل الأحكام ومقاصدها وحِكَمها، ولا يقدرون على ربط الجزئيات بالكليات، فيدخلون في بوابات التيه الفكري والفقهي، كمن يسير في صحراء دون طرق أو علامات.
ومن هنا تظهر أهمية علم أصول الفقه، الذي يرَشّد تدبّر المتدبّر في آيات الله تعالى، ويوجّه تفكير المتفكّر في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوجهة الصحيحة، فيجب على كل عالم مسلم أن يطلع على هذا العلم الجليل اطلاعاً واسعاً، كما يجب على كل مثقف مسلم، مهما كان اختصاصه أو مجال عمله، أن يُلمّ به إلماماً؛ لكي يدرك كيف اجتهد الأئمة السابقون الراسخون في العلم، المجمع على مكانتهم وعلمهم، ولا يتأثر بالآراء الشاذة أو المنحرفة أو المتطرفة، التي تأباها روح الشريعة الإسلامية وأصولها.
وتطبيقاً على ما سبق من العرض النظري للمعلومات، آخذ مثالاً واحداً، يُعد أمَّ القضايا، وأخطر ما تعاني منه الأمة الإسلامية اليوم؛ ألا وهو قضية التكفير.
لقد استسهل كثير من المسلمين رمي بعضهم بعضاً بصفة الكفر أو الفسق، حتى أصبحنا نشعر بأننا نعيش في مجتمعات كافرة، ولم يعد يوجد في الأرض مؤمنون أو مسلمون، وهذا أخطر ما ابتلي به المسلمون في هذا العصر.
فما هو الموقف الصحيح لدى جماهير علماء الأمة -إن لم نقل كلهم- سلفاً وخلفاً منذ عهد الصحابة، وامتداداً على مدى أكثر من ألف ومئة عام معتمدين على علم أصول الفقه، الذي أوصلهم إلى هذا الموقف؟
إنهم اتفقوا على عدم تكفير أحد من أهل القِبلة. فما دام ظاهر المرء الإسلام، ولم يقل عن نفسه إنه كافر، فلا يحق لأي فرد أو جماعة أن تكفّره، مهما انطوى في داخله على معاني الكفر والفسق.
وهذا الموقف مستنبط من موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين؛ فلم يتّهم أحداً منهم بالكفر، ولم يحاكم أحداً فيهم، سوى سؤالهم عما صدر منهم من أقوال، فيحلفون له كذباً، ويقبل منهم.
فقد عامل الرسول -صلى الله عليه وسلم- المنافقين بالظاهر منهم، مع علمه ببواطنهم، ومع كثرة السور والآيات الكريمة التي فضحتهم، ببيان صفاتهم ودخائل نفوسهم والحكم عليهم بالكفر وبالفسق، وبأنهم في الدرك الأسفل من النار.
وكذلك كانت مواقف الصحابة، وأوضح مثال على ذلك، موقف سيدنا علي t، من الخوارج، فلم يكفّرهم، مع أنهم كفّروه، وكفّروا سائر المسلمين سواهم، بل أرسل إليهم من يحاورهم، ويفنّد شبههم.
وعلى هذا سار أئمة التابعين، والأئمة المجتهدون أصحاب المذاهب الفقهية المشهورة، وكذلك أتباعهم والمقلدون لهم على مدى أكثر من ألف عام.
ولم يشهد التاريخ الإسلامي القديم تكفيراً وقتلاً للإنسان بناء على رأيه، إلا حالات محدودة معدودة، وكانت بإشراف الحاكم، وليس للأفراد أو الجماعات دخل في ذلك.
وما نقله لنا التاريخ من حوادث التآمر والقتال إنما كانت بناء على أهواء سياسية ومطامع دنيوية، وليس بناء على مسألة التكفير.
وأختم مقالتي بالنصيحة التالية:
أنصح نفسي، وأنصح كل مسلم مثقف حريص على دينه، وسلامته في الدنيا والآخرة، أن يسير على منهاج جماهير علماء الأمة، فيجتنب كلمة التكفير أو التفسيق لأي مسلم مهما كان، وليحذفها من قاموس مفرداته، لما يترتب على استعمالها وانتشارها بين المسلمين من مخاطر وكوارث، من استحلال الدماء والأعراض والأموال، وقد شهدنا كثيراً منها في أيامنا هذه.
وكل ما يحق للمسلم أن يفعله تجاه من يعتقد أنه كافر أو فاسق أن يجتنبه أو يحذر منه. وإن استطاع أن يقدم نصيحته وتوجيهه، فليفعل. وإن كان عالماً بالفقه وأصوله يمكنه أن يرد على شبهات أصحاب الأهواء والشبهات ردوداً علمية، من خلال التأليف والتدريس، ليظهر الحق ويزهق الباطل.
وأما الحكم على بعض الأشخاص بالارتداد، فهذه مهمة الحاكم المسلم، بناء على أدلة وبينات، بعد مناقشة من يُتهم بالردة وإبطال شبهه واستتابته.
هذا، والله أعلم. وفقني الله وإياك قارئي الكريم، إلى ما يحب ويرضاه، ونجّانا من الضلال في الدنيا ومن اخسران في الآخرة.
د. خالد الخالد
([1]) أخرجه أبو داود برقم (3592) في كتاب (الأقضية) باب (اجتهاد الرأي في القضاء) واللفظ له، والترمـذي برقـم (1327)، وأحمد برقم (21595)، وغيرهم. وقد صححه المحقّقون. انظر التفصيل في جامع الأصول لابن الأثير، ج10 ص177- 178، ط 1- دمشق، بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط –رحمه الله- الذي لخّص أقوال العلماء فيه.
([2]) أخرج الحديثَ عن عمرو بن العاص وأبي هريرة، رضي الله عنهما، كلٌّ من: البخاري برقم (6919) في كتاب (الاعتصام) باب (أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) ، ومسلم برقم (1716) في كتاب (الأقضية) باب (بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ). وأخرجه أيضاً أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه. وعندهم (فأصاب) (فأخطأ)، بدلاً من (ثم أصاب) (ثم أخطأ).
(3) يمكن الرجوع إلى كتب الفرق والملل لمعرفة أشهر الملل والفرق والآراء المنحرفة إلى الكتب التالية: الفَرق بين الفِرق، للبغدادي التميمي، عبد القاهر بن طاهر (المتوفّى:429هـ)، والفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم الأندلسي، علي بن أحمد القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ)، والملل والنحل للشهرستاني، محمد بن عبد الكريم (المتوفى: 548هـ)،