عرضت سورة هود في موضوعها القصصي العام؛ الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفاسدة، في القرى القديمة التي أهلكها الله، بعد تحذير مجتمعاتها مما هم فيه من فساد في الفكر، وانحراف في السلوك، وإقبال على الترف والطغيان، وإنكار للبعث، وإعراض عن الحق، وبالمقارنة بين هذه الظواهر المذمومة المعروضة في السورة، وبين المبادئ التي تقوم عليها العلمانية؛ نجد تقاربا كبيرا، لذلك يمكن اعتبار موضوع السورة أكبر من يشخص النظام العلماني، ويبين الأسس التي يقوم عليها وينقضها، وينقض كل ما يقوم عليه هذا النظام من مبادئ فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية، فهذه السورة أكثر سورة في القرآن تشخيصا للعلمانية، ومظاهرها العامة، ومقرراتها المعلنة، وقواعدها المتحكمة في المجتمعات.

 

هذه السورة هي أكثر سورة في القرآن تحدثت عن القرى والمجتمعات، ومحاولات المنحرفين عن العقل والفطرة والوحي الإلهي، فصل الدين والأخلاق عن الحياة، ومنها يستفاد سنن قيام الحضارة وسقوطها، ولا يعني هذا أن العلمانية من حيث نظامها السياسي قديم؛ وإنما يعني أن جملة المبادئ التي تقوم عليها العلمانية قديمة قدم انحراف الإنسان عن المبادئ العقلية والفطرية والدينية، ونحن نجد هؤلاء العلمانيين يصفون من يدعو إلى المبادئ التي جاء بها الدين بالرجعيين، والحق أن الرجعية الحقيقية هي الرجوع إلى مبادئ الأمم السابقة التي جاء الإسلام لينقضها، وتتمثل هذه المبادئ العلمانية في عدة مظاهر، أعرضها ومعها ما ينقضها من آيات القرآن الكريم من سورة هود:

1- تبديل الأحكام الإلهية المنزلة في الكتاب:

وذلك أننا نجد النظام العلماني يلغي كل الأحكام الواردة في الكتاب، ويستبدلها بقوانين وأحكام وضعية؛ دون مراعاة أن هذه الأحكام هي من لدن الله، وهو حكيم في خلقه وتدبيره، وقضائه وقدره، وخبير بشؤون المجتمعات الإنسانية، فلا يمكن له أن ينزل نظاما للحكم ناقصا، أو قابلا للخطأ، فهو نظام كامل صالح لكل زمان ومكان، وفي أول آية من سورة هود، يقول الله تعالى: ((الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ))[هود:1]، فيها دلالة على أن هذا الكتاب لا يقبل التغيير ولا التبديل، وقد فصل الله فيه أحكام الشريعة كلها عبادات ومعاملات وأخلاق.

2- تغييب تفكير الإنسان عن حقيقة وجوده في الأرض:

يقوم النظام العلماني -بوسائله المختلفة- بتوجيه تفكير الإنسان نحو غاية اللعب واللهو، والمتعة والترف؛ لأجل تحريك الاقتصاد، وتوفير الإنتاج، وإعلاء أرباح الشركات الصناعية الكبرى، والبنوك، وإثراء الطبقة الرأسمالية، وهذه ليست غاية وجود الإنسان على الأرض، إنما غاية وجوده التكليف والاستخلاف والعمران، بمقتضى مسؤولية حمل الأمانة، قال الله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))[هود:7]، فالتفكير الحق يجب أن يوجه نحو حقيقة خلق السماوات والأرض، كما قال الله في سورة آل عمران: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))[آل عمران:191]، فيصلون من خلال ذلك إلى معرفة حقيقة الخلق، ومعرفة علة وجودهم، فيعملون لما يُصلِح المعاش الدنيوي، وما يقوّم العمران، وما يوجب خلودهم في الحياة الآخرة، وبذلك تكون حياتهم طيبة، ومنسجمة مع حقيقة وجودهم.

3- فصل الدين عن المجتمع:

نجد النظام العلماني يفصل الدين عن المجتمع، ويتدخل بقوته وسلطته لثني الناس عن إقامة الشعائر الدينية في كثير من المناسبات، والدولة العلمانية في كثير من الأحيان لا تعمل على تنظيمها بل على منعها، وهذا خلاف توجه الإنسان العام، فالإنسان مفطور على حب معرفة الحقيقة، والبحث عن علة وجوده، ومعرفة مبدئه ومنتهاه، لذلك لا بد من وجود ديانة تُعْلِمه بحقيقته، وهدايته إلى الطريق المستقيم، وقد كانت بعثة نوح (عليه السلام) أول رسالة من الله لهداية الناس بعد أن فسد اعتقادهم الفكري، وطغى بموجب ذلك سلوكهم العملي، فبعث الله نوحا يردهم إلى الطريق الصحيح؛ طريق الهداية، فلا يمكن ترك الناس على ضلالتهم، بل لا بد من وجود الدين في حياة الناس يرشدهم، وفي ذلك قول الله تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)))[هود:25-26]، والملاحظ في دعوة نوح (عليه السلام) أنها كانت ضد الشرك، وضد فساد الاعتقاد بالجملة، وهو أول رسول بعث ليعيد الناس إلى عبادة الله الأحد؛ بعد أن اتخذ الناس عبادة غيره من الآلهة التي جسدوها أصناما وأوثانا، ونتج عن ذلك فساد عملهم وسلوكهم في المجتمع، ويُستفاد من الآية ضرورة بعثة الرسل وإنزال الشرائع لهداية الناس، وأن التوجه إلى عبادة الإله الواحد أمر واجب، فلا يمكن فصل الإنسان عن هذا الأمر، ولا إبعاد الممارسات الشعائرية عن حياته.

والعلمانيون يقصون الوحي والهداية الإلهية عنن المجتمع الإنساني، والكثير منهم يرون أن الكتاب الذي جاء به النبي (عليه السلام) ما هو إلا كلام البشر، والقليل المتبقي ليس مطمئنا لكون هذا الكتاب رسالة من عند الله، ولذلك هم يستخفّون بآراء المؤمنين في الدين، وفي السياسة والاجتماع والاقتصاد، وجميع شؤون الحياة، ويعتبرونهم أراذل المجتمع، وأن كل من يبدي رأيه من خلال ما يقرره الدين؛ فهو بادئ الرأي، ويذكر الله عز وجل مثل قول هؤلاء: ((فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ))[هود:27]، فقوم نوح وصفوا من اتبعه بأنهم حقراء لا قيمة لهم، سطحيو الرأي، وأن هم أهل الرأي المستنير ومن له حق التفكير عن الآخرين، وهكذا هم العلمانيون في صدهم عن الرسالة الإلهية، واتباع طريق الهداية.

4- توجيه المجتمع إلى ما يحصل وفرة الإنتاج والصناعة والقوة فقط:

توجه العلمانية تفكير الإنسان إلى ما يخدم الإنتاج المادي والصناعة والقوة، وليس إلى ما يخدم الإنسان باعتباره كائنا ذا نفس وروح وجسم، وحقيقة الأمر أن وفرة الإنتاج والصناعة والقوة بلا قيم إنسانية وأخلاق لا تحقق كمال الإنسان والمجتمع، فوفرة الإنتاج المادي والتضخم الصناعي وسباق القوة؛ في غياب التوجيه الأخلاقي، ومنطق العقل والحكمة؛ دمار للبشرية وللعالم، ولذلك شرع الله الاستغفار، وهو المبدأ الديني الأخلاقي الذي يعطي أهمية لعلاقة الإنسان بالله، وقيمة تسخير الطبيعة لصالح الإنسان، باعتباره مؤتمنا في الأرض، فيعمل على الانتفاع بها دون إفساد لها، ووفرة الإنتاج والصناعة والقوة بلا ربط علاقة بالله، وطلب المغفرة منه؛ لا تحقق للمجتمع شيئا قيميا، ولا تدوم منفعتها للإنسان، إذ سرعان ما ينتهي ذلك بسبب الترف، فيحل بالمجتمع البوار والكساد، فالمجتمع الكامل هو الذي يربط وفرة الإنتاج بالربوبية وعنايتها بالإنسان، كما قال الله تعالى: ((وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ))[هود:52]، فهذه الآية تفيد في أن الاستغفار والتوبة يسهم في نزول الرحمة على المجتمع، وجلب الرزق إليه، وإخراجه من ضنك المعيشة إلى رغدها، كما قال عز وجل في سورة نوح: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)))[نوح:10-12]، لكن العلمانيين لا يؤمنون بأن بعض الجوانب المعنوية، والعلاقة الروحانية فيما بين الإنسان وربه؛ يمكن أن تسهم في توفير الإنتاج وصلاح المعيشة، بالعمل الصالح، دون إفسادها وتدميرها، بل يؤمنون بفلسفة السيطرة والاستيلاء على الطبيعة، وهي فلسفة توقع في فساد الحرث والنسل.

كذلك العلمانيون لا يوجهون المجتمع الإنساني إلا لتحقيق القوة، ولا يدبرون الشأن العام إلا لخدمة الصناعة، بدل أن يكون ذلك خادما للإنسان؛ بمقتضى حاكمية الأخلاق والقيم، لكنهم فصلوا الدين الذي يحرك التفكير الأخلاقي عن المجتمع، خدمة لأغراض القوة والصناعة، وأرادوا من الإنسان أن لا يفكر قيميا وأخلاقيا، لأن ذلك ليس في صالح الفلسفة المادية التي ينبغي أن تسود المجتمع، والتي تسهم في إعلاء أرباح الشركات الكبرى والبنوك، وإثراء الطبقة الرأسمالية، فالدين يمنع حصول الترف في المجتمع، ويوعد بهلاك المجتمعات المترفة، كما قال تعالى في سورة الإسراء: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا))[الإسراء:16]، وبغير الدين ودعوته إلى الفضيلة، لن يكون هناك مجتمع كامل.

القوة والصناعة مطلوبتان، لكن وفق الحكمة، ومبادئ الدين، كما في قوله تعالى: ((وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ))، وذلك أن قبيلة إرم ذات العماد؛ وهي قرية قوم عاد، كانت ذات قوة وشدة، ولم يكن لها مثيل في البلاد في ذلك الزمان، لكنها طغت في الأرض فأهلكها الله، قال جل جلاله: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)))[الفجر:6-8]، فالقوة والصناعة مطلوبتان كما قلت، لكن وفق ما تقتضيه حكمة الله من خلق الإنسان، وهي حِكم ثلاث، عبادة الله وحده، والاستخلاف في الأرض، وتحقيق العمران، إذ ليس وجود الإنسان عبثا في هذه الأرض، وليس وجوده لتحصيل المتعة واللعب واللهو، قال الله تعالى: ((هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ))[هود:62]، قوله عز وجل: ((وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)) تفيد أن إرادة الله للإنسان استعمار الأرض، هي حكمة من حكم خلق الإنسان ووجوده في الأرض.

5- تغليب متعة الفرد على قيم الجماعة:

العلمانية نظام يعمل لتحقيق المتعة للإنسان؛ كيف ما كانت هذه المتعة، دون النظر إلى الجانب الأخلاقي للمجتمع في الحياة، فمن مظاهر العلمانية شرعنة الشذوذ الجنسي والإباحية، وحق ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، واعتبار ذلك حقا من حقوق الإنسان، وقد قال الله تعالى واصفا الفساد الأخلاقي لقوم لوط: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ))[هود:78]، تنبيه: قوله تعالى: ((قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)) ذلك بمقتضى الزواج، والدليل على أن لوطا (عليه السلام) أرادهن للتزويج وليس للزنا هو لفظ (أَطْهَر) حيث الطهارة لا تكون إلا في الزواج، ولا ينطبق لفظ الطهارة على الزنا، وهذا بخلاف من يفهم من الآية أن لوطا (عليه السلام) أراد أن يقدم بناته لهؤلاء القوم لعمل الفاحشة حماية لضيوفه، فهذا ليس من أخلاق الأنبياء.

وهذا هو حال العلمانيين اليوم، فهم أناس لا يتطهرون، وكل من دعا إلى التطهر فهو رجعي ومتخلف، كما قال تعالى في سورة الأعراف عن قوم لوط: ((وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ))[الأعراف:82]، والعلمانيون أيضا ينشئون أندية لتحصيل المتع المنكرة، والقيام بالأعمال المحرمة، من زنا وشذوذ وخمر ورقص، وتضليل فكري واجتماعي واقتصادي، وغير ذلك من المتع والأعمال المحرمة، كحال قوم لوط في أنديتهم، وقد ذكر الله ذلك في سورة العنكبوت: ((وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ))[العنكبوت:29]، فلا بد للإنسان العلماني الحداثي أن يؤيد رغبات شواذ الجنس من الرجال والنساء، ويحضر ملتقياتهم وحفلاتهم، ولا بد له أن يتخذ خليلات كثيرات، ويسهم في نشر الرذيلة في الإعلام والمنابر الثقافية، وإلا اعتبر رجعيا ومتخلفا.

6- عدم إخضاع المعاملات الاقتصادية والتجارية والمالية إلى مبادئ الدين:

الحديث هنا عن عدم إخضاع المعاملات الاقتصادية والتجارية والمالية إلى مبادئ الدين؛ ليست دعوة إلى ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي أو البنوك الإسلامية، وإنما معناه قيام المعاملات الاقتصادية والتجارية والمالية على المبادئ الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام؛ من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، وإقامة القسط بين الناس، ومن ذلك حرمة التعامل بالربا، ووجوب جمع أموال الزكاة، وأداء الواجبات المالية المشروعة، وصرفها على المستحقين لها، وإعطاء كل ذي حق حقه منها، والنظام العلماني غايته تكديس الثروة وتوجيهها لتحقيق مصالح الشركات، والبنوك، والطبقة الرأسمالية، فيزداد الغني غنى والفقير فقرا، وصرف الأموال في الإعلانات والإشهار لفائدة المؤسسات الاقتصادية والتجارية والمالية؛ بدل صرفها لتنمية أوضاع الطبقة الفقيرة والمتوسطة؛ وتحقيق التنمية الاجتماعية، والاقتصادية، وإصلاح التعليم، فمن مظاهر العلمانية اعتبار أن المال ليس مال الله، وأن للإنسان الحرية في أن يفعل في أمواله ما يشاء، دون أن يصرفه على وجهه الصحيح والحسن، ومثال ذلك سلوك أصحاب المال والاقتصاد، والتجار الكبار من أهل مدين في الأسواق، قال الله تعالى: ((وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)))[هود:84-85]، فبعثة شعيب (عليه السلام) إلى قوم مدين كانت لمعالجة قضيتين في المقام الأول، الأولى قضية الشرك، والثانية قضية الاقتصاد والمال والتجارة، حيث كان التجار يأخذون أموال الناس بالباطل، ويبخسون حقوقهم، عن طريق الإخلال بالمكيال والميزان، مما يزيد الفقير فقرا والغني غنى، وبذلك يختل توازن المجتمع الاقتصادي والاجتماعي، فبعث الله نبيه شعيبا يذكرهم بالله الواحد، ويأمرهم بالقسط في المعاملة الاقتصادية والتجارية، وقياسا على معاملات أهل مدين؛ ما نجده اليوم من اختلالات اقتصادية وتجارية ومالية، أوجدها النظام العلماني، الذي أسهم في بخس الناس أشياءهم وأموالهم، عن طريق سن قوانين اقتصادية وتجارية لفائدة الطبقة الرأسمالية الاقتصادية والتجارية والمالية الكبرى لتنمية مصالحهم، في مقابل الضرر الكبير الذي يحل بالطبقة المتوسطة والعاملة والفقيرة.

7- الاستهزاء بالشعائر الدينية والسخرية ممن يمارسها:

وقد وجه النظام العلماني جهازه الإعلامي، ووسائله الفكرية والمعرفية المختلفة؛ للقضاء على كل مظاهر التدين والممارسات الشعائرية، وتوجيه الناس إلى اقتناء كل ما هو مادي وحسي يوفي بالأغراض الجسمانية، وقطع الطريق عن الثقافة الروحية، وإقصاء كل ما يدعو إلى الفضيلة، وإدخال الرذيلة إلى البيوت، عن طريق القنوات الفضائية، ونشر كل ما هو تافه يحقق غرض الفئات السياسية والرأسمالية، وتزييف وعي المشاهدين لتوجيههم إلى الحياة المادية، وتحقيق المتعة؛ خدمة لمصالح الشركات الكبرى، والبنوك، والطبقة الحاكمة والرأسمالية، وإبعادهم عن كل ما يمكن أن يدعوهم إلى المطالبة بالإصلاح، وقض مضاجع الحكام العلمانيين المستبدين، ومضاجع الرأسماليين المتاجرين بمصير الإنسان.

النظام العلماني يعمل على تحويل الناس إلى مجرد أدوات استهلاك للمنتجات الصناعية، ليس لهم عقول يفكرون بها، ولا قلوب يشعرون بها، بل مجرد كائنات ميكانيكية لا روح فيها، أبعدوا الإنسان عن كل ما من شأنه تلبية الضرورات الروحية، لذلك هم يسخرون من الشعائر الدينية وإقصائها من المجتمع، لأنها تذكر الإنسان بالله وتحرك ضميره الإنساني تجاه مسؤوليته في الحياة، وفي ذلك يقول الله تعالى: ((قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ))[هود:87]، قالوا له ذلك سخرية من تعبده وتنسكه، ولكنها حقيقة، فإن الصلاة تنهى عن مثل هذه الأفعال، كما قال عز وجل في سورة العنكبوت: ((إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ))[العنكبوت:45].

8- الإعراض عن دعوات المصلحين الدينيين والتنكيل بهم:

من طبيعة النظام العلماني الإعراض عن دعوات المصلحين الدينيين المنددين بالتوجه العلماني في المجتمعات، ناهيك عن إعراضهم عن النصوص الدينية أصلا، وعدم الاستماع إليها وقبولها، هذا مع استعمال القوة مع كل من يحاول معارضة هذا النظام العلماني، والدعوة إلى نظام آخر، قال الله تعالى: ((قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ))[هود:91]، ليس أن شعيبا (عليه السلام) لم يستطع أن يبين لقومه ما يقول حتى صعب عليهم فهمه، وقد أرسل الله الرسل بلسان أقوامهم ليبينوا لهم، كما قال جل جلاله في سورة إبراهيم: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ))[إبراهيم:4]، ولكنه الكبر عمل عمله فيهم، فأعرضوا عما كان يقوله، وجحدوا بالحق لما جاءهم واستهزأوا به، كما قال عز وجل في سورة الأنعام: ((فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ))[الأنعام:5]، وهذا هو دأب العلمانيين دائما، في صدهم عن الآراء الدينية، بالإضافة إلى استعمالهم القوة في حق المصلحين الدينيين، ونجد هذا التطبيق جليا عند كبراء أهل مدين، فقد ذكر الله قولهم: ((وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ))، فقد أرادوا مواجهة الحق بالقوة، وهددوا شعيبا بالقتل، وهذا عمل الظالمين الجاهلين في كل عصر، حيث يريدون إسكات صوت الحق بالقوة، ويقتلون المصلحين الذين ينادون بإقامة العدالة في المجتمع، وقد احتكرت الأنظمة العلمانية لنفسها جهاز الشرطة وجهاز العسكر، وبهما تنكل بالمعارضين، وتقتل المصلحين، ولكن الله أوعد هؤلاء بالعذاب الأخروي، قال عز وجل في سورة آل عمران: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍإِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))[آل عمران:21].

9- احتكار النظام العلماني للسلطة والتشريع:

النظام العلماني يخول للدولة الحديثة الحق في الاستئثار بالقرارات السياسية، والاستبداد بالسلطة، واحتكار التشريع؛ دون أن يكون للمجتمع حق التدخل في ذلك، وهذا بخلاف المنهج الإسلامي في التعامل مع الحاكم، ونقد حكمه، وقراراته السياسية غير الرشيدة، وقد قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)))[هود:96-97]، فالآية تؤسس لمنهج التعامل السياسي مع الحاكم، حيث يجب عرض قراراته على العقل الذي هو محل الإدراك والرشد، وميزان الحكمة والشريعة، وبه يتم تقييم أمور الحاكم، ومدى صلاحيتها للمجتمع، وقد نهى الله عز وجل عن اتباع الحاكم في كل أمر، فتلك سياسة فرعون غير الرشيدة، كما قال تعالى في سورة غافر: ((قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ))[غافر:29]، فمقياس الاتباع يكون للمبدأ العادل وليس للمكانة السياسية أو الاجتماعية، وقطعا لم يكم أمر فرعون برشيد لأنه أورد قومه النار، كما قال جل جلاله: ((يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ))[هود:98]، وهذا هو مصير الأنظمة العلمانية وأتباعها الذين أقصوا الهدي الإلهي من تدبير شؤون المجتمعات.

10- النظام العلماني مؤذن بخراب العمران:

يسهم النظام العلماني في خراب العمران، وإهلاك الحرث والنسل، وذلك أنه قائم على مبادئ مؤدّية بذاتها إلى هلاك المجتمع، حيث يتم من خلالها توجيهه إلى ما يحصّل الترف، الذي يخرب العمران، قال الله تعالى: ((وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ))[هود:102]، والترف موقع في الظلم والفسق، وهذا سبب الدمار، كما قال تعالى في سورة الإسراء: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا))[الإسراء:16]، وأخذ القرى الظالمة وإيلامها ألما شديدا ليس ببعيد عن كل قرية ظالمة فاسقة، في كل زمان ومكان، كما قال تعالى: ((وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ))[هود:83].

 

- سبيل النجاة من النظام العلماني

بعد الفراغ من ذكر المبادئ الفاسدة التي تقوم عليها العلمانية، ونقضها قرآنيا من خلال سورة هود، أورد هنا سبيل النجاة من طغيان النظام العلماني، وما يمكن أن يصاحب الإنسان من هلاك بسببه، وهذه الإيرادات من سورة هود أيضا، وهي كالتالي:

1- الاستقامة كما أمر الله وعدم الطغيان:

أمر الله تبارك وتعالى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الذين اتبعوه أن يلتزموا بأحكام القرآن المنزلة إليهم، وأن لا يحيدوا عنها ويتبعوا أهواء الذين لا يؤمنون، قال الله تعالى: ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))[هود:112]، وهذه الآية مناسبة لأول السورة التي جاء فيها، قوله تعالى: ((الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ))[هود:1]، وفيها دلالة على أن هذا القرآن لا يقبل التغيير ولا التبديل، وقد فصل الله فيه أحكام الشريعة كلها عبادات ومعاملات وأخلاق، ولذلك أمر الله تعالى النبي (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين أن يستقيموا كما أمرهم، وأن لا يطغوا، وجعل مخالفة ما أُمِروا به طغيانا، وقد قال الله عز وجل في سورة الشورى: ((فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ))[الشورى:15]، وهي بيان لما جاء قبل، وكل هذا ينقض قول الذين يشرعون للناس من عند أنفسهم، ويلغون العمل بما جاء به القرآن الكريم، لعدة اعتبارات، وهم في الحقيقة إنما يتبعون أهواءهم وقد ضلوا ضلالا بعيدا، كما قال الله عز وجل في سورة الروم: ((بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ))[الروم:29].

2- عدم الركون إلى الظالمين:

القائمون على الأنظمة العلمانية كلهم ظالمون، لذلك يحرم موالاتهم، قال الله تعالى: ((وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ))[هود:113]، والواجب على المؤمن أن يجتنب سبيل الظالمين، ولا يتقرب إليهم ولا يؤيد أفعالهم، ولا يعمل معهم عملا، ولا يخدم مشاريعهم الدينية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، وإن كلفوه بذلك، والواجب عليه أن يتبرأ من أعمالهم وينصحهم، ويدعوهم إلى إقامة العدالة الإلهية، وإلى سلك سبيل الله المستقيم.

3- إقامة الصلاة والصبر على الفتن:

عند طغيان النظام العلماني على المؤمن أن يكثر من إقامة الصلاة، والاستعانة بها، والصبر على الفتن الظاهرة والباطنة، قال الله تعالى: ((وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)))[هود:114-115]، وذلك أن الصلاة تذكر بالله، كما قال عز وجل في سورة طه: ((وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي))[طه:14]، مما يدعو إلى اجتناب السيئات، فالصلاة زاجرة وناهية عن الفحشاء والمنكر لما فيها من ذكر لله، كما قال تعالى في سورة العنكبوت: ((إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ))[العنكبوت:45].

4- النهي عن الفساد في الأرض:

كما ذكرت سابقا فإن المبادئ التي تقوم عليها العلمانية مسببة في فساد الحرث والنسل، والأرض جميعا، بسبب ما تدعو إليه من ترف وفجور، وزخرف الدنيا وزينتها، فلا بد مع هذا من النهي عن الفساد الذي أحدثه النظام العلماني، قال الله تعالى: ((فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ))[هود:116]، يدخل المجتمع في دائرة الظلم والإجرام عندما يتبع الترف، والترف مؤذن بالخراب والهلاك، كما قال عز وجل في سورة الإسراء: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا))[الإسراء:16].

5- الإصلاح في الأرض:

الإصلاح يكون قولا وفعلا، وبكل الوسائل المادية والمعنوية، قال الله تعالى: ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ))[هود:117]، وهؤلاء المصلحون هم الذين ينهون عن الفساد في الأرض، ويقومون بالإصلاح، وهذا بيان للآية السابقة ((فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ))، والله لا يهلك القرى بظلم وأهلها يقومون بواجب الإصلاح والدعوة، أو يستغفرون الله، كما قال الله جل جلاله في سورة الأنفال: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ))[الأنفال:33]، إنما يهلك الله القرى بظلم إذا لم يكن في أهلها من يقوم بواجب الدعوة والإصلاح، أو لم يكونوا من المستغفرين، فيكونون جميعا ظالمين، فيعمّهم العذاب، كما قال الله عز وجل في سورة القصص: ((وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ))[القصص:59].

والعذاب ليس معناه أن يرسل الله قوى طبيعية فحسب؛ كما في حال الأمم السابقة، وإنما الهلاك قد يكون ذاتيا أيضا، ناتجا عن تلك المبادئ التي تقوم عليها العلمانية، فيكون سقوط النظام الاقتصادي بسبب الترف والتبذير، أو فساد البيئة بفعل التلوث الصناعي، أو خراب العمران بسبب الكوارث الطبيعية التي تحدثها تلك الصناعات، أو الأمراض الناتجة عن الاستهلاك الغذائي، أو الأضرار الاجتماعية الناتجة عن انفكاك المجتمع والأسر وارتفاع الجريمة، في غياب التوجيه الديني الأخلاقي، ومثال ذلك كله، قوله تعالى في سورة الروم: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))[الروم:41]، فهذا بسبب عملهم الذاتي الفاسد، الذي ينقلب عليهم وبالا وهلاكا.

فهذه جملة المبادئ القرآنية التي تشخص العلمانية وتنقضها، استقريتها من خلال سورة هود، التي تحدثت عن طبائع المجتمعات القديمة الفاسدة فكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وهي نفس الطبائع التي تحكم كثيرا من المجتمعات العلمانية المعاصرة.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية