المقدمة:
تستمد النهضة الحضارية اصولها من فلسفة توجه الفكر بعناصره المتعددة الى أمام , وتعلو بالإنسان والمجتمع الى حالة اكثر رقياً مما كان عليه الأمر لحظة الانطلاق.
وبوصفنا مسلمين مؤمنين برسالة الله عز وجل, فإن أي نهضة حضارية لا تتخذ من القرآن الكريم والسنة الصحيحة اساساً ومنطلقاً, تظل نهضة عرجاء, وناقصة التكوين, ومشوشة الرؤى. لذلك فإن تحديد اسس المكونات الحضارية يعد المقدمة الاولى الصحيحة لصحة المسيرة وضمان نجاحها وجدواها, وبالنسبة للمجتمعات المسلمة فإن تحديد هذه الاسس لا يكون إلا عبر الكتاب والسنة.
ولأن الاقتصاد يعد بحق تكثيفاً للحضارة, فإن تحديد أصوله ينبغي أن يكون استناداً الى القرآن الكريم والسنة المطهرة, من أجل أن يكون بحق اقتصاداً اسلامياً يساهم بدور فاعل وكفوء وكبير في تصحيح مسار الحضارة الانسانية المعاصرة.
ولأن هذين المصدرين من السعة والشمول بحيث يصعب على باحث مفرد القيام بمهمة تحديد اصول الاقتصاد الاسلامي في ضوئهما وفي بحث محدد الصفحات, لذلك فقد خصصنا هذه الدراسة لبيان اصول الاقتصاد الاسلامي في القرآن الكريم, أملين أن نفرزها متباينة تعتمد السنة النبوية, منطلقين من اسلامية المعرفة والتأصيل الاسلامي للعلوم, رؤية منهجية وقاعدة مفاهيمية تضبط مسار البحث والتحليل.
تقوم قضايا الاقتصاد على أصول عقدية/ فلسفية , فالأصل هو الاساس الذي يقوم عليه أي بناء, ونحن هنا لا نستخدم مصطلح (أصول) بالمعنى السائد في الفقه الاسلامي, إنما نستخدم بوصفه القواعد التي يقوم عليها الاقتصاد بالمنظور الاسلامي, وفي ضوئها تنشأ مؤسساته في إطار الاستخلاف بمستوياته صفات, الفردي والجماعي والعام وفي ضوئها تحدد ألية النشاط الاقتصادي كذلك, وتحدد الوسائل والغايات, وتحدد المشروعية.
جاءت أصول الاقتصاد بالمنظور القرآني نقضاً للأصول التي كان عليها ( اقتصاد قريش) الظلم والربا والتطفيف . وأقام قواعد النظام الاقتصادي الجديد وهي العدل والخير والانصاف والاحسان وفي إطار عقيدة التوحيد التي هدمت عقيدة الشرك.
وإن أصول الاقتصاد بالمنظور القرآني, هي كذلك نقض للتصورات الغربية والاستشراقية, عن القرآن الكريم, التي تصور القرآن الكريم على أنه كتاب منشغل بالأخرة, وأحكامه خاصة بالبيئة العربية.
إن اصول الاقتصاد بالمنظور القرآني هي القواعد الدائمة في صناعة التمكين الحضاري, ذلك أن الاقتصاد في القرآن الكريم يحتل مكان الصدارة في الشريعة ومقاصدها, كونه أحد الميادين المهمة لتحقيق مقاصد الشريعة في عمارة الارض والانسان, ذلك أن هذه الاصول هي قناديل الهدى للعقل الانساني في سعيه الابدي لعمارة الارض والانسان.
تقوم الدراسة على مقدمة خمسة مباحث و وتنتهي بخاتمة، وعلى النحو الآتي:-
المبحث الاول: الاصول العقدية/ الايمانية للاقتصاد الاسلامي.
يعالج هذا المبحث العلاقة بين العقيدة والاقتصاد, وأثر العقيدة في توجيه النشاط الاقتصادي على المستويين النظري والعملي, من خلال التركيز على الابعاد العملية للتوحيد وأثاره الحضارية, في ضوء المحاور الآتية:-
* التوحيد * التسخير * الاستخلاف
المبحث الثاني:- الاصول العلمية: ويعالج هذا المبحث المحاور الآتية:-
* طبيعة مفاهيم الاقتصاد الاسلامي.
* طبيعة موضوعات الاقتصاد الاسلامي.
* اهداف علم الاقتصاد الاسلامي
المبحث الثالث:- الاصول المنهجية: يعالج هذا المبحث مناهج التفكير القرآنية وأثرها في توجيه البحث العلمي في قضايا الاقتصاد الاسلامي:-
* المنهج التجريبي * المنهج الاستنباطي * المنهج الاستوائي
المبحث الرابع: الأصول التشريعية. وبعالج هذا المبحث التشريعات الاقتصادية الكلية كما هي في القرآن الكريم من خلال الإشارة قيمة العمل والإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك وعمارة الأرض وما إلى ذلك.
المبحث الخامس:- الاصول الاخلاقية : ويعالج هذا المبحث العلاقة بين الاقتصاد والاخلاق في ضوء القرآن الكريم, من خلال المحاور الآتية:-
* مفهوم الاخلاق
* الابعاد العملية في الاخلاق الاسلامية ( الاختيار, التزكية, الفلاح, الاستقامة )
* الضوابط الاخلاقية للاقتصاد الاسلامي
والله أعلم وهو ولي التوفيق.
المبحث الأول:- الاصول العقدية ( الإيمانية)
تقودنا أصول الفكر الاقتصادي الى وحدة المعرفة الاسلامية, ذلك أن القرآن الكريم يعالج موضوعات الايمان/ العقيدة, والشريعة, والمعرفة والمنهج برؤيته الاعجازية, فالمنظومة المعرفية لأي من المفاهيم القرآنية, إنما تعمل في إطار سياق النص القرآني بشكل معجز, ولسنا بصدد استعراض الدراسات البلاغية من الاعجاز في القرآن الكريم, وإنما نشير هنا الى نمط إعجازي جديد ثاوٍ في منظومة المفاهيم القرآنية والمنظومة المعرفية في القرآن الكريم, إذ بدأ المفكرون ومؤسسات فكرية وجامعات اسلامية تركز في دراستها على البعد المعرفي في القرآن الكريم, فضلاً عن مفكرين مسلمين قدموا جهوداً طيبة في هذا المجال. ذلك أن مصطلح ( المنظومة المعرفية) في القرآن الكريم يسع كل الاقوال التي عالجت قضية الاعجاز القرآني, ويضيف اليها أمراً جديداً يمثل في:-
1- إظهار الارتباطات بين الموضوع محل الدراسة والموضوعات التي احاطت به.
2- بيان كيفية صياغة هذه الارتباطات .
3- تحديد الموضوعات وتحديد درجة ارتباطها بالموضوع محل الدراسة.
4- الاطار الذي نظمت به هذه الارتباطات.
5- جعل موضوع ما يمثل المحور الارتكازي ثم إحاطته بأطر لها منهجها في الترتيب.
ولتحديد الاصول العقدية, نعتمد آيات القرآن الكريم التي تناولت قضايا الايمان . فالقرآن الكريم لا يستخدم مصطلح (العقيدة)، إن مصطلح العقيدة صياغة بشرية لاحقة.
تنوع مفهوم الايمان من خلال تنوع الصياغات اللغوية له, فهو ثاوٍ في الافعال والاسماء والصفات ( آمِنوا, آمَنوا, آمنتم, آمنا) التي وردت في القرآن الكريم في (258) موضحاً منها:
- (( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل )) البقرة/ 108
- (( وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله او ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لأتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله اعلم بما يكتمون ))
آل عمران /167
- (( إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذاب اليم )) آل عمران/177
- (( ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن امنوا بربكم فأمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الابرار )) آل عمران /93
- (( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين )) المائدة / 5
و تتوالى الآيات.. لتعكس اثر الايمان في السلوك الانساني, ونتائجه العملية:
- (( وبشر الذين أمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل )) البقرة / 25
-((فأما الذين أمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم )) البقرة / 26
-((والذين أمنوا وعملوا الصالحات اولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون )) البقرة /82
-((والذين أمنوا اشد حباً لله )) البقرة /169
-((يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى )) البقرة /178
وهكذا تتوالى الآيات في توضيح أثر الايمان في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي والاخلاقي, فالإيمان يؤسس قواعد العدل والحرية والعمل الصالح والكفاءة الملازمة له, ويحدد طبيعة العلاقة مع الاخر, العلاقة القائمة على احترام ايمانه مالم يقاتل.
إن اجواء السلام والعدل والحرية التي يؤسسها الايمان بالله تعالى كفيلة بأن تؤسس لنظام اقتصادي عادل, تبدو عدالته واضحة من خلال توضيح التشريعات الاقتصادية على مستوى الاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي والاقتصاد الدولي .
إن سنن الله عز وجل في الخلق تشمل العالم كله, وبالتالي فإن الاحكام التي شرعها الله عز وجل, هي احكام كلية, تصلح للعالم كله , وللأمم أن تفكر في اطارها.
فالحرية سنة من سنن الله في اطارها يقام نظام اقتصادي يؤشر للبشرية كرامتها وحاجتها الاساسية.
والحرية مدعومة بالعدل فلا يستأثر قوم بالمال على حساب قوم اخرين .
والحرية والعدل يعملان في اطار القانون الذي يحمي الدين والدنيا, ((ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين )) الاعراف /85 .
كل هذه المنظومات تعمل داخل ((منظومة التوحيد)) فهي القوة الماسكة لنمط الحياة الاسلامية من خلال احكامها العملية المتمثلة في الاتي :
1- التوحيد :- إنه المنظومة الايمانية التي تنظم كل فعاليات الحياة بعناصرها المتعددة العلمية والاجتماعية والاقتصادية وما الى ذلك، ومنه تتفجر ينابيع الحق والحقيقة والخير والعدل والجمال, إن العلوم التي تبنى في ظل التوحيد مستلهمةً مقاصده, هي الاقدر على تقديم الحلول لمشاكل المجتمعات الانسانية, لأن منظومة التوحيد العملية, هي مصدر محايد ينبع من الحق, ويدافع عن الحق والحقيقة.
يقف في مقدمة تلك العلوم علم الاقتصاد بفروعه كافة, ذلك أن الاقتصاد وعلومه اكثر الفعاليات الانسانية والاجتماعية اهمية وخطورة في مسيرة المجتمعات الانسانية, فهو مصدر القوة والضعف ومصدر العدل والظلم, ومصدر الرفاه والحرمان, حين نحسن توظيفه الحضاري او نفشل في ذلك .
2- وحدة الخلق:-
تشير خطة الخلق الالهي للعالم والانسان الى أن وحدة الخلق حقيقة كونية, وإن وعيها في ضوء القرآن الكريم تعمق ادراكنا للعالم وللإنسان وللقوانين العاملة في مسيرته الحضارية, فماهي خطة الخلق العامة.
خلق الله عز وجل الانسان وألهمه مقومات الخير والشر, وترك له الخيار امام معطيات الحياة وزينتها.
-(( إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملا )) الكهف /7
يفصل القرآن الكريم هذه الزينة في عناصر اساسية ضمتها الآية 14 من سورة آل عمران ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ))
إن مضمون العناصر الاساسية للخطة هي :
– النساء ومنتجاتها ( الاولاد ) القوة العاملة . او بعبارة اقتصادية ( السكان).
- الاموال بعناصرها النقدية والزراعية والتجارية .
- الشهوة التي تنظم عناصر الحياة .
الانسان منظومات متعددة عقلية واخلاقية ومعرفية قوامها الخير والعدل والامانة والوفاء والطاعة والرحمة والعلم والصبر والمودة والمغفرة والكرم, وهناك ايضاً نوازع الشر والحقد والحسد والبخل والشح والطمع والعجلة.
-((ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها* قد افلح من زكها وقد خاب من دساها )) الشمس /7-10
إن تفاعل الانسان مع عنصري المال والشهوة سنة كونية, في الحياة الانسانية, فالمجتمعات الانسانية قاطبة مقوماتها الانسانية هي هذه العناصر الاتية من خلال ثنائيات معروفة, هي ثنائية الروح والجسد, وثنائية النفس من حيث الفجور والتقوى, وفي كلتا الحالتين فان هذه الدوافع هي واحدة عند البشر ولا بد من اشباعها, الامر الذي يحتاج الى جهود اضافية تتضافر لتحقيقها, فكان الاقتصاد بعناصره الاساسية, الانتاج والتبادل والتوزيع والاستهلاك, هو المبدأ الاكثر حضوراً في بقاء المجتمعات الانسانية, غير أن طبيعة التفاعل بين عناصر الخلق الانساني هي التي ميزت الافكار والرؤى في المعالجة واشباع الحاجات الاساسية, وفي كيفية التعامل مع زينة الحياة التي افترقت عندها المجتمعات الانسانية بحكم تغليب احد الامرين, التقوى أم الفجور.
3- المعرفة ووحدة الحقيقة:-
يتعرض العقل الانساني الى الاوهام والضلالات والشكوك, وبرغم قدرات العقل الفائقة على ادراك الوجود, غير أن الوجود عند الاتجاه العلماني مختصر في عالم الشهادة, أي ادراك سنن الكون وقوانين الطبيعة المادية, إلا أنه غير قادر على ادراك عالم الغيب, الامر الذي يعني أن ادراكه مقتصر على ادراك جانب واحد من الوجود, إن اعتماد الوحي مصدراً لإدراك الوجود بشقيه عالم الغيب وعالم الشهادة هو الذي يعين على تأكيد صحة المبادئ الاولية او المطلقة من خلال اعتماد البرهان والدليل المنطقي المدعوم بالإيمان المطلق بحقائق الخلق التي يؤكدها الوحي في الكتاب العظيم, القرآن الكريم.
إن المعرفة في ضوء هذه الحقيقة سوف تقوم على مبدأ قرآني، الا وهو (وحدة الحقيقة)، هذه الوحدة مستمدة من وحدانية الله المطلقة, ولأن الله واحد أحد فرد صمد, فإن الحقيقة واحدة, لا تتعدد, والله يعلم الحقيقة كاملة, ويوحي من علمه الكامل اليقيني بالحقيقة الى خلقه, ومن هنا تتأكد وحدة الحقيقة بين ما يوحي وبين العالم الواقعي, لأنه هو الموحي وهو الخالق, ولا يمكن التناقض بين ما يوحي به وبين الحقيقة الواقعية. ولذلك فإن مفاتيح ادراك الواقع بما اودع الله من سنن كونية واجتماعية وانسانية قابلة للإدراك , وتستخدم في بناء العالم ومصالح الإنسان، وحين الاستعانة بالوحيلإدراك حقائق الوجود، يأتي العلم ونتائجه والمعرفة واحكامها يقينية.
إن قواعد الاقتصاد الاسلامي تعمل في ضوء ثلاثة احكام منبثقة عن وحدة الحقيقة:-
أ- لا تعارض بين حقائق الوجود, وحقيقة الوحي, فكل ما يقرره الوحي يكون صادقاً منسجماً مع الواقع, فما يبنى على الصدق فهو صادق, لذلك فإن عملية التصحيح الاقتصادي لابد أن تكون في ضوء ادراك الوحي وحقائقه.
ب- إن وحدة الحقيقة المطلقة تفرض أنه لا يوجد تعارض او خلاف بين الوحي والعقل, وإذا ظهر تناقض, وهو ظاهري حتماً, فإن الوحي هو الذي يتكفل بحل هذا التناقض واعادة النظر فيما توصل اليه الانسان من نتائج يعتقد انها صحيحة.
ج- إن وحدة الحقيقة المطلقة, وطبيعة قوانين المخلوقات والسنن الالهية, تفرض أن باب النظر والبحث في طبيعة الخلق, أو في أي جزئية من والوجود لا يمكن أن تغلق, فإن الاستعداد لقبول الجديد من المدركات والبراهين والاصرار على متابعة البحث خصائص لازمة للعقل المسلم الذي قبل مبدأ وحدة الحقيقة, وإن البحث الدائب وراء قوانين الطبيعة لا تكون نهائية, ونقد الدعاوى الانسانية , هما في الوقت ذاته شرطان لازمان للمنهج الاسلامي, وفي ضوء هذه الحقيقة فإن الاحكام تبقى غير ثابتة في ظل حركة العقل الاسلامي الباحث في قوانين الوجود, وفي هذا سر تطور العلوم والمعارف والحضارة.
4- وحدة الحياة :-
تؤكد آيات الخلق في القرآن الكريم, على أن خلق الانسان له سبب ومقصد, يتمثل في اعمار العالم وعبادة الله, على وفق ما اقتضته إرادة الله. التي تتوزع على أمريين, القضاء والقدر فأما القضاء فيتحقق عن طريق الحرية والاختيار, وفي اطار القوانين الخلقية التي تتعايش مع قوانين الطبيعة بمعنى انها تتحقق في سياق حركة الحياة الانسانية, وأما الضرب الثاني فهو القدر, وهو أمر محقق حتماً, ويشمل هذا النوع السنن الالهية التي يعمل الكون بموجبها , وهي قوانين الطبيعة والنظم الانسانية , وهي قابلة للفهم والادراك عن طريق العقل أو الوحي أو كليهما. .
إن ادراك هذين الضربين من ارادة الله عز وجل , هو الذي يعين على بناء النظام الاقتصادي الاسلامي, ليشمل العالم, مستوعباً حرية الانسان, وحتمية التاريخ , على وفق منظومة القيم الالهية , ومنظومة القيم العلمية المدركة لقوانين الطبيعة.
يعزز هذا الادراك , فهم الموقع الذي وضع الله تعالى الانسان فيه , موقع (الخلافة) , النيابة عن الله تعالى في إعمار العالم , من خلال تنفيذ أحكام الله تعالى ومنظومته الاخلاقية والعلمية والمعرفية والتشريعية , فمقصد الدين الاساس هو إعمار الانسان والعالم , والاقتصاد هو أهم ادوات هذا البناء والاعمار.
ثانياً:- التسخير : هيأ الله تعالى الكون لتنفيذ إرادته في خلق الانسان, فجاء الكون مسخراً ذلولاً للإرادة الانسانية , اودع فيه قوانين وسنن تفيد الذين يعملون على إعمار العالم .
وقد أكد القرآن الكريم على هذا المبدأ من خلال جملة من الآيات نورد منها الاتي :
-((الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الامر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون )) الرعد /2
-((الله الذي خلق السموات والارض وانزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار )) إبراهيم /32-33
-((ألم تر أن الله سخر لكم ما في الارض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا بأذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم )) الحج / 65
إن تسخير الكون للإنسان , هو المقدمة الالهية لخلق الانسان , ليكون الأمين على ملك الله , في ادارة الموارد وتوظيفها بما يحقق مصالح الدين والدنيا , وبقدر العمل في ضوء أحكام التشريع الالهي في ادارة موارد الارض , يتحقق العدل والرفاه والامان والاقتصادي .
((و ألو استقاموا على الطريق لأسقيناهم ماء غدقاً )) الجن /16.
-((ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة الى قوتكم ولا تتولوا مجرمين )) هود/52
ثالثاً:- الاستخلاف . هو جوهر الملكية في الاقتصاد الإسلامي، والملكية في الاقتصاد الإسلامي هي وظيفة اجتماعية، أي مهمة استخلافية، تناط بالفرد أو المجموعة بحكم شرعي من الخليفة أو الإمام، في ضوء الأحكام التي حددها الله تعالى للإنسان في التعامل في إطار هذه الوظيفة، كونه المالك الأصلي للكون. من حيث التحصيل والإنفاق في إطار الإنتاج والتوزيع والإدارة، ويكون من حق المستخلف الاستمرار في أداء وظيفته هذه طالما هو يتحرك ضمن ضوابطها ومحدداتها. وبخلاف ذلك تسحب هذه الوظيفة منه.
المبحث الثاني : الاصول العلمية:
قيمة العلم ليس في قواعده وقوانينه وهي مهمة , إنما في اهدافه وسلوكه الأخلاقي كذلك , وعلم الاقتصاد اكثر العلوم الاجتماعية ملامسة لحقوق الانسان والمجتمع, فبكفاءته وعدالته , يسعد الانسان والمجتمع والعكس صحيح جداً .
أن لعلم الاقتصاد علاقة بالعقل من حيث البحث عن اكفأ السياسات التي تحقق العدالة والانصاف , ولعلم الاقتصاد علاقة بالعدل كذلك , من حيث هو الميزان الذي يعطي كل ذي حق حقه .
وهذان المطلبان يؤكد عليها القرآن الكريم كثيراً , وفي ضوء ذلك يتحدد هدف علم الاقتصاد الاسلامي، والعلم بالمنظور الاسلامي يختلف عنه بالمنظور الغربي، فاذا كان علماء الغرب يرون العلم في ما هو محسوس وتجريبي , ويبعدون عنه كل مالا يخضع للمختبر والتجربة , فإن العلم بالمنظور الاسلامي يحتوي هذا المفهوم الذي هو اصلاً نتاج الوعي بالثقافة الاسلامية , ويتجاوزه الى اعتماد الوحي مصدراً للعلم بوصفه الصادر عن خالق العالم الخبير بخلقه , فالعلم بالمنظور الاسلامي هو الادراك الجازم الثابت المطابق للواقع عن دليل ومصدره الوحي والوجود والعقل والحس . ولأن العلم بالمنظور الاسلامي يعتمد الوحي مصدراً مهماً, فهو إذن يتكون من فرعين ثابت ومتغير , الثابت هو القواعد الكلية المقننة المنبثقة من الوحي, والمتغير هو ادراك الانسان للوحي في ضوء حركة التاريخ, وابتكارات العقل الانساني في إطار الحضارة وعلومها المتعددة الاقتصادية وغير الاقتصادية, ولذلك تنوعت معطيات العلوم الاسلامية, بين علوم شرعية وغير شرعية , علوم المجتمع وعلوم النفس واحوالها (التصوف) وعلوم السياسة وعلوم الزراعة والطب والصيدلة , كلها لها خيط قوي مع الوحي , او تستمد من اشعة الوحي ضوء قناديلها , وهو يبدو واضحاً على سبيل المثال لا الحصر عند الفارابي عندما اضاف معارف التصوف طريقاً معرفياً ثالثاً مع المعرفة التجريبية والحسية في مدينته الفاضلة.
لم يحدد الله تعالى الى اي العلماء الذين سما بهم حتى قرنهم بنفسه والملائكة في الشهادة بوحدانيته والاقرار بعدله :(( شهد الله أنه لا اله إلا هو والملائكة واولي العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم )) آل عمران/18
والعلم في الاسلام لا يكون ألا مقروناً بالإيمان , فهما صنوان لا يفترقا في شجرة الوحي , ((يرفع الله الذين امنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير )) المجادلة /11
وفي ضوء مصادر العلم آنفة الذكر يمكن صياغة اصول الاقتصاد الاسلامي العلمية وعلى النحو الاتي :
1- مفاهيم علم الاقتصاد منبثقة من القرآن الكريم , الامر الذي يضبط التفكير الاقتصادي في ادراك المشكلة الاقتصادية, ويضع الحلول المناسبة لها .
2- التجربة مصدر مهم من مصادر الاقتصاد الاسلامي, وأصل هذه القاعدة في قصة ابراهيم عليه السلام والطيور الاربعة .
3- ادراك عالم الغيب والشهادة, جذوره شرعية /علمية .
فإذا كان عالم الشهادة يدرك بالعقل الذي اراده الله تعالى مصدراً لإدراك العالم , فان ادراك الغيب لا يكون إلا عبر الوحي ودلالاته , ولذلك حذر القرآن الكريم من الاقتصار على ادراك ظاهر الحياة الدنيا , فهو سلوك علم الكافرين , ((يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون )) الروم /7
4-جماعية القرارات العلمية الاقتصادية من خلال (( وأمرهم شورى )) فهي صفة العلماء الذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وينفقون مما رزقهم الله , ومن هذا نستنبط شرعية مراكز البحث العلمي , وفرق العمل العلمي التي تصل معاً من اجل الوصول الى اليقين العلمي .
5- الملاحظة الدقيقة والتأمل المركّز كونه داعية البحث والمنشئ له .
6- اعتماد التكميم والاحصاء , اي تحويل الاوصاف والكيفيات الى كميات قابلة للعد والاحصاء , وقد أكد القرآن الكريم على أهمية ((الاحصاء )) ودقته , فهو وسيلة الهية في عرض الحقائق واليقين . ((واحاط بما لديهم واحصى كل شيء عدداً )) الجن / 28
- ((لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها )) الكهف/49
7- وعي الصيرورة وادراك قوانينها فهي منطلق التجديد , واصلها القرآني إعمال النظر في ملكوت السموات والارض والانفس , ((قل سيروا في الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين )) الانعام /11
-(( أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا اشد منهم قوة واثاروا الارض وعمروها اكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون )) الروم/9
والتجديد منبثق من الرؤية النقدية التي تقوّم العطاء دائماً وتراقب المسيرة .
المبحث الثالث : الاصول المنهجية
يفترق الاقتصاد الاسلامي عن غيره من الاقتصادات باعتماد الوحي مصدراً اساسياً في بناء منظومته المفاهيمية والعلمية و المنهجية, وعليه فإن اصول الاقتصاد الاسلامي المنهجية هي الاخرى تجد نفسها في القرآن الكريم , مستوعبة مناهجه في إدارك العالم وبناء المجتمع والانسان والعلوم كافة .
يقوم منهج الاقتصاد الاسلامي على الانطلاق من قراءة الوحي في ضوء الوجود , وقراءة الوجود في ضوء الوحي، وقوام هذه القراءة في الاتي :
1- قراءة في الوجود لاكتشاف اسرار الخلق , وعلاقات الموجودات واشكال الظواهر, وخصائصها وسننها, وادراك القدرة الالهية المدبرة لها، للوصول الى وحدانية الله , التي تعين الانسان على التحرر من أسر الخوف والتقليد, واغلاق العقل عن كل فاعلية وابتكار , بغية القيام بوظيفة الاستخلاف بكفاءة والاستفادة من قوانين التسخير .
2- قراءة في الكتاب المسطور (القرآن الكريم ) من خلال التدبر والتفكر والتفهم لتجليات القدرة الالهية البارزة في نشاط الظواهر وحركاتها ووجودها وتفاعلاتها والسنن والقوانين التي تحكمها , وكلها من صنع الله تعالى. ((الذي احسن كل شيء خلَقَه ..)) السجدة /7 , والانطلاق نحو حفظ الامانة والقيام بمهمة الخلافة, واستعمال قوانين التسخير لتحقيق حالة ( الشهود الحضاري ) واخراج الامة الوسط, وبناء الامة الخيّرة .
إن المنهج القرآني يضع الباحث العلمي في الاقتصاد الاسلامي وغيره من العلوم الاسلامية , أمام حقيقة ( التوحيد والمعرفة ) وبالتالي امام وجوب البحث والكشف عن تطبيقات هذا المنهج في التعامل مع الظواهر الكونية والانسانية والاجتماعية والإقتصادية، بغية تحقيق بناء افضل للعلوم الاقتصادية, فماهي الاصول المنهجية للاقتصاد الاسلامي:-
1- اليقين : لقد جعل الله تعالى اليقين مصدراً اسمى لحياة الانسان المؤمن في دنياه واخرته , واليقين لغة ( هو العلم الذي لاشك فيه) اما في الاصلاح فهو ( اعتقاد الشيء بانه كذلك مع اعتقاد انه لا يمكن إلا كذا, مطابقاً للواقع غير ممكن الزوال ) كما ورد في (التعريفات) للجرجاني.
لقد جعل القرآن الكريم اليقين مقصداً للايمان والعلم في كثير من الآيات :-
-(( يدبر الامر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) الرعد/2
-(( أفحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون)) المائدة / 50
-((وفي الارض آيات للموقنين )) الذاريات /2
2- التجربة : يدعو المنهج القرآني الى اعتماد التجربة والبرهان للوصول الى الحقيقة ومعرفتها وهو لا يتردد في الدعوة الى الاتيان بمثله تحدياً للكافرين , وهي دعوة لا تضاهيها دعوة في اثبات صدق وجوده ومرجعيته الالهية , ((أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله ؟إن كنتم صادقين )) هود/13
إن التجريب الاسلامي يقر بوحدة الحقيقة, وهي أن لا يكون هناك تعارض بين حقائق الوجود وبين ما يأتي به الوحي وكل ما يقرره الوحي لابد أن يكون صادقاً منسجماً مع الواقع موافقاً له لان كليهما من الله عز وجل.
تستمد ( وحدة الحقيقة ) وجودها من الله تعالى, الذي هو خالقها وسببها الحقيقي, وكذلك تستمد معناها من ارادته التي تعد غايتها وغرضها النهائي, وتقاس فاعلية تلك الحقيقة بمقتضى تحقيقها او عدم تحقيقها للقيمة .
كما أن التجريبية الاسلامية تقرر ان هناك اكثر من مستوى للوجود, او اكثر من نظام وميدان معرفة, فهناك عالم الشهادة , وهناك عالم الغيب, وهناك الوجود الذهني للأشياء, مثل مقولات العقل, وهناك وجوود واقعي متحقق له ذات وصفات, متعال عن المادة ومنزه عن الزمان والمكان وسائر صفات الموجودات المادية هو الله تعالى .
إن استعراض النموذج الابراهيمي في الكشف عن الحقائق والوصول اليها, كما يقدمه القرآن الكريم, يوضح حدود المنهج التجريبي الاسلامي, إنه حوار دائم بين الانسان والكون , وبين الانسان والانسان , وبين الانسان والحضارة , تحت مضلة اليقين الالهي الامر الذي يعطي للنشاط الاقتصادي الاسلامي وعلوم الاقتصاد عمقاً قرآنياً, يعينه على تحقيق عمارة الارض بكفاءة.
3-التحليل : لقد طرح القرآن الكريم مسألة ( المنهج ) في مقدمة عوامل التغيير بكل مستوياته الفردية والاجتماعية والحضارية, فإذا كان اليقين والتجربة يشكلان بعض ملامح هذا المنهج, فإن ( التحليل ) يأتي عاملاً معززاً لهما لتستقر نهائياً ملامح المنهج الاسلامي في فهم الوجود بمستوياته وعناصره المتعددة في ما عبر عنه القرآن الكريم بـ ( السير والنظر) .
إن السير والنظر في القرآن الكريم هو خلاصة معالم المنهج الاسلامي في الوصول الى الحقيقة عبر تحليل الظواهر الكونية والوجودية والمعرفية والاقتصادية وما الى ذلك, واعادة تركيبها معرفياً في ضوء هدى الله عز وجل في صيغة ( قانون ) يفسر ظواهر الوجود المتعددة.
المبحث الرابع : الاصول التشريعية
تضم الشريعة مجموعة من الاحكام التي هي بمثابة القوانين والسنن التي تحكم الظواهر الانسانية والاجتماعية المتعلقة بالنشاط الاقتصادي, وهذه القوانين إنما هي بيان للطبيعة الانسانية والاجتماعية, ومن هذه القوانين والضوابط تستنبط الاصول التي ينطلق منها النشاط الاقتصادي وعلم الاقتصاد في ادراك الظواهر الاقتصادية وآليات عمل الاقتصاد , بغية الحفاظ على مصالح الناس وحقوقهم .
يقوم الاقتصاد الاسلامي على قطاعات ثلاثة هي :-
1- القطاع الخاص /الاستخلاف الفردي ويعالج في اطار الاقتصاد الجزئي.
2- القطاع الاجتماعي/ الاستخلاف الاجتماعي ويعالج في اطار الكلي كذلك .
3- القطاع العام / الاستخلاف العام: وهو وظيفة الدولة الاقتصادية ومسؤوليها في ادارة النشاط الاقتصادي ويعالج في اطار الاقتصاد الكلي والاقتصاد الدولي.
وعند استعراضنا لنصوص القرآن الكريم في هذا الميدان يمكننا استنباط الاصول الاتية لعمل القطاعات الاقتصادية الثلاثة:-
1- عمارة الارض (( هو الذي انشأكم من الارض واستعمركم فيها) هود / 61
2- الوسطية في ادارة الحياة (( وابتغ في ما اتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)) القصص /77
3- التوازن بين الاستهلاك والانفاق (( والذين اذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)) الفرقان/ 67
4- العمل عبادة (( هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور)) الملك /15
5- كسب المال ضرورة استخلافية (( وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)) الحديد/7
6- اكتناز المال تعطيل لعمارة الارض(( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم)) التوبة/34
7- اقامة المؤسسات الاقتصادية والمالية والادارية تعزيز للوظيفة الاستخلافية وهو احد المهمات الاساسية للدولة وهو شكل من اشكال اقامة الدين .
8- ادارة العلاقات مع الدول جزء من التعارف الحضاري (( انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبر))الحجرات /13 ومن معاني التقوى سيادة السلام في العالم
9- اعداد القوة (( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة )) الانفال/60 إذ في اعدادها حفظ للأمن والسلام الاجتماعي وفي مقدمة القوة المطلوبة القوة الاقتصادية التي تعزز قطاعات الانتاج بأشكاله المتعددة.
يعمل الاقتصاد الاسلامي في ضوء هذه الاصول التشريعية وبالتنسيق مع الاصول الاخرى , على انجاز البحوث العلمية التي تفرزها كمية القران الكريم في اطار حركة التاريخ , وانجاز عمارة الارض, والعبودية لله وحده, وفي ضوء هذه الاصول ايضاً, يعمل علم الاقتصاد الاسلامي على تحديد قوانين حركة التاريخ واكتشاف سنن الله عز وجل في النهوض الحضاري, تفادياً لسقوط حضاري غير مسوّغ او استنهاضاً لكبوة حضارية .
وفي ضوء هذه الاصول كذلك, يعمل علم الاقتصاد الاسلامي على تقصي الاحكام الاقتصادية في القرآن الكريم .
إن الانطلاق من الاصول الاقتصادية في القرآن الكريم في بناء النشاط الاقتصادي الفعال يعطي علم الاقتصاد افاقاً اوسع في الكشف والتغيير واعادة البناء، فيكون ( العمل) قوة استخلافية منسجمة مع احكام الله وارادته في اعمار العالم, وإن اي تلكؤ في هذا لا يعني إلا أن نتجاهل أحد احكام الله في ادارة النشاط الاقتصادي, ويكون( توزيع) الموارد قائما على ( العدل) الالهي, وآلياته الاقتصادية فيحقق الاستفادة القصوى من الموارد الطبيعية في تطوير الانتاج والارتقاء به وفي تحقيق الرفاه الاقتصادي للمجتمع.
وفي ضوء هذه الاصول كذلك تكون السوق اكثر عدلاً وكفاءة في اشباع حاجات المنتجين والمستهلكين, وفي حالة توازن واستقرار نقدي وسلعي وفي سوق العمل لان مبدأ (عمارة الارض) يجعل الاسواق في حالة حركة متوازنة لتحقيق مطالب الاستخلاف .
وفي ضوء هذه الاصول ينتظم الاستهلاك الفردي والاجتماعي في ضوء المنظومة الاخلاقية للاستخلاف .
المبحث الخامس: الأصول الأخلاقية
في الأخلاق يتميز الإنسان عن غيره من الكائنات، وفي الأخلاق يتميز الناس بعضهم عن بعض، ذلك أن الأخلاق هي السعي الدائم للصلاح والإصلاح، وهي الضابط للفعل.. وبذلك هي الضابط للعلم كذلك، فحين يفتقد العلم للأخلاق، يتحول الإنسان عنده الى رقم أو سلعة، وبذلك يمكننا القول بأن العلم ينقسم على قسمين : علم ملتزم بالأخلاق، وعلم لا أخلاقي، يركز على العقلانية وحدها ويعدّها الخلاص النهائي للإنسان..
في ضوء هذه الحقيقة، نستطيع الجزم بأن علم الاقتصاد الإسلامي علم أخلاقي، لأنه ينبثق من شريعة أخلاقية الهية مقوماتها، الاختيار والإلزام والمسؤولية والتزكية والفلاح والاستقامة والتقوى، في هذه القيم العليا يعمل الاقتصاد الإسلامي على ادارة شؤون الثروة والموارد وإعمار الأرض .. ملتزما بأحكام الله عز وجل بوعي واختيار، فالإلزام كما هو في القران الكريم، اختيار عقلاني رشيد للحق بعد توفر أدلته، ذلك أن الله تعالى قد ألهم النفس الإنسانية بصيرة أخلاقية، ( بل الانسان على نفسه بصيرة) القيامة/14 ، هذه البصيرة قادرة على معرفة الفضيلة والرذيلة، والعالِم الاقتصادي يستطيع – رغم كل المغريات أن يجاهد نفسه في إطار مخافة الله عز وجل: ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى) النازعات/ 40-41
إن هذه البصيرة تمارس فعلها سلطةً داخلية في توجيه العقل الإنساني، ( قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) الشمس/ 9-10، إلا أن ميزة هذه السلطة، أنها لكي تفلح في التزكية لابد لها من هدى الله عز وجل، الذي اخترناه على علم وبصيره، وإلا فلا إلزام في الأمر. ( ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) النساء /80 ، ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) البقرة /256
ولأن علم الاقتصاد الإسلامي، ينطلق من القواعد القرآنية، فهو لا ينفصل عن الأخلاق الاسلامية في تعامله مع العالم، والأخلاق الاسلامية هي العبادات وأخلاقياتها في ميادين الحياة كافة. وهو علم منضبط بقواعد الشريعة الأخلاقية، ويسعى لتطوير منظومة أخلاقية تستمد مقوماتها من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وبذلك يكون علم الاقتصاد الاسلامي في إطار الأخلاق، هو علم جهادي، تتمثل جهاديته في كونه جهداً مقاوما لقوى القهر الإنساني، المادية منها أو الفكرية، بقوة الشريعة والعدل والعقل المؤدب بالمنظومة المعرفية القرآنية.
إن علم الاقتصاد الاسلامي، عمل عقلي في منظومة الأخلاق الإسلامية لا ينفصلان عن بعضهما، والعلاقة بينهما طردية، ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة، أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) يوسف/108. والبصيرة هي مزيج من عقل وايمان وأخلاق وعلم.
إن قيمة المنظومة الأخلاقية في العلم، هي أنها تنعكس في سلوك العلم والعالِم في البناء الاقتصادي للمجتمع، إذ أن القيم الأخلاقية العليا هي السقف الذي يعمل تحته علم الاقتصاد الإسلامي، ويستمد منها اساليب التعامل مع الإنسان والمجتمع والموارد.
يقف مفهوم التزكية، ضمن البنية المفاهيمية الأخلاقية في الإسلام وفي مقدمتها، فهو من المفاهيم القاعدية في القرآن الكريم، إذ تقف عليها وتنطلق منها جملة من المفاهيم التي تنظم الوظيفة الإستخلافية للإنسان. ومن أهم القوى التي تحتاج هذه التزكية، هي ( العقل)، ذلك لأن العقل مناط التكليف، وهو أداة التفكر والتدبر والنظر والفهم والإدراك، فالذين يفكرون ويعقلون ويتدبرون ويفهمون، هم صناع المعرفة، فعندما يكون هذا التعقل والتفكر، في إطار هدى الله عز وجل تكون نتائجه في خدمة الإنسان والبشرية، وأسباب الهداية في القرآن الكريم كثيرة، كلها معروضة للتعقل والتدبر والتفكر، ولهذا فإن العلم الناتج عن وعي العلاقة بين الهدى والتعقل، هو علم يعمل في ظل قوانين الله عز وجل وسننه وأحكامه وأخلاقه: ( ألم، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين، أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) السجدة/38، وفي ضوء هذا الارتباط العضوي بين الهدى والعقل والعلم، تتألق أخلاق العلوم الإسلامية في نشر الخير وتحقيق السلام العالمي.
الخاتمة
الرؤية التوحيدية للعالم، ومنظوماته المعرفية والمنهجية والأخلاقية والتشريعية ، هي الحصن الحصين للعلوم الإسلامية بعامة والاقتصاد الإسلامي بخاصة، وهي مصدر تميزه بين الاقتصادات السائدة.
ولهذا فإن أي إسقاط للفكر الرأسمالي أو الاشتراكي على الاقتصاد الا سلامي سرعان ما ينكشف ويضمحل تأثيره في البناء الاجتماعي ،
إن الاقتصاد الإسلامي علم وسلوك، ولد في أحضان اقيم الإسلامية العليا، التوحيد والتزكية ولفلاح والاستقامة والتمكين..
إنه العلم الذي يجعلنا نرى سنن الله في الطبيعة والأنفس إنجازات كبيرة في خدمة الإنسان والإنسانية، كونه العلم المنبق من وحدانية الله والايمان به والانتماء الى نور النبوة، والايمان بوحدة الحق والحقيقة.
مصادر البحث
القرآن الكريم
1- اسلامية المعرفة- المبادئ العامة, خطة العمل، الإنجازات . المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندين – فرجينيا – الولايات المتحدة. ط/5 – 1986م
2- بريمة. محمد الحسن (د.) – المعرفة بين النموذج الإسلامي والنموذج العلماني، دراسة نقدية مقارنة، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، إدارة تأصيل المعرفة، الخرطوم – السودان، 1995م
3- الجرجاني، ابو الحسن علي بن محمد بن علي، التعريفات، وزارة الثقافة والإعلام – بغداد –العراق- دون طبعة وتاريخ.
4- دراز. محمد عبدالله- دستور الأخلاق في الإسلام-ترجمة عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة ودار البحوث العلمية ببيروت والكويت، ط/4- 1402ه – 1982م
5- صافي. لؤي – العقيدة والسياسة ، معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي _ هيرندن- فرجينيا – ط/1 – 1996م
6- عارف. نصر محمد(د.) – قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية ( تحرير) مجموعة مؤلفين- المعهد العالمي للفكر الإسلامي- القاهرة – ط/1 – 1996
7- عبد الرحمن. طه- سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. المركز الثقافي العربي، ، الدار البيضاء- المغرب و بيروت، لبنان- ط/3 ، 2006
8- الفارس. جاسم(د.)- أسس البحث العلمي الإسلامي ، مجلة الأحمدية، دار البحوث والدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي, العدد العاشر، محرم 1423ه – 2002 م –ص 213-223
9- مجلة التجديد – الجامعة الاسلامية العالمية بماليزيا – السنة الأولى ، العدد الثاني، يوليه 1997م بحث الدكتور عرفان عبد الحميد.
10- المحاسبي. أبو عبد الله حارث بن أسد(ت 240ه) ، آداب النفوس، دراسة وتحقيق عبدالقادر أحمد عطا، - دار الجيل – بيروت = لبنان. ط/2 – 1987
11- ملكاوي. فتحي حسن(د.) ( تحرير) – نحو نظام معرفي اسلامي، حلقة دراسية- عمان الأردن – ط/1 –2000 م
12- ملكاوي. فتحي حسن، منظومة القيم العليا، التوحيد، التزكية، العمران- المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان الأردن-ط/1- 2013
13- النورسي. سعيد- رسالة الاقتصاد، ترجمة احسان قاسم الصالحي، ط/1- مطبعة الحوادث- بغداد. 1994م