يعاني مفهوم الدنيا (شأنه شأن الكثير من المفاهيم القرآنية) تشوهاً كبيراً، أفقده معناه وحيويته وحضوره في عملية البناء الحضاري للإنسان المسلم والأمة الاسلامية، فكان أحد بوابات التخلف والسلبية التي يعاني منها العقل المسلم .
الدنيا هي وعاء الحياة بعناصرها كافة، فالدنيا هي الاقتصاد وهي السياسة وهي الفكر وهي الثقافة وهي الدين وهي الحب وهي العقل وهي العمل، إنها البغض والرضا، والسخط والقبول، إنها اللعب واللهو والتكاثر، إنها الجد والمثابرة، إنها كل الفعاليات الإنسانية التي يمارسها البشر وهم يبنون حاضرهم ومستقبلهم.
إن الدنيا في ضوء القرآن الكريم هي وعاء حياتنا المكاني، فيها نفكر ونعمل وننهض ونكبو ونعمّر وندمر، غير أن الابتعاد عن القرآن الكريم في بناء منظوماتنا القيمية والمعرفية والحضارية، ضيع جهداً كبيراً في مسيرة النهضة والتقدم الاسلاميين، بفعل عملية (تجهيل) مقصودة أو غير مقصودة، لنصوص القرآن الكريم، وهو النص المؤسس للإسلام، من خلال تغليب الاجتهادات الفردية والمذهبية عليها، أو في أحسن الاحوال تغليب بعض الأحاديث على القرآن الكريم بحجة أن (السُنة قاضية على القرآن) وأنها تنسخه، فألغيت معظم آيات القرآن الكريم وألغيت معها منظومتها المعرفية والعلمية والثقافية وما إلى ذلك .
يسعى البحث الى مواجهة صارمة مع المفاهيم التي سطحّت مفهوم (الحياة /الدنيا) متجاوزة القرآن الكريم ومفاهيمه في الحياة الدنيا . أي مواجهة الجهل المركب الذي أخّر كثيراً بالأمة، وأفقد القرآن حيويته وفاعليته، لينتصر الكسل والسكون الحضاري باسم (الحديث) وعبر أحاديث فُهمت خطأً وكرست كره الحياة مثل حديث (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر). الذي يعبر عن حالة المؤمن عند الوفاة كما يوضح ذلك النووي في شرح الحديث:(معناه أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة المكروهة مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فاذا مات استراح من هذا وانقلب إلى ما أعد له الله من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقص) . ولو كانت الدنيا كما يتصورها العقل القاصر لما أمرنا الله تعالى بعمارتها.
إن تغيب العقل كلياً، واعتماد أي نص ينسب للنبي دون توافق مع القرآن الكريم والغوص في معانيه بعقل مؤدب بالقرآن، معناه تغيب الحياة والحقيقة والقرآن.
إن التجهيل بالقرآن الكريم تم عن طريق تشويه بعض مفاهيم الفقهاء وغيرهم، يتداولها الناس كأنها آيات محكمات، أو نشر مجموعة من الاحاديث تصبح مع الأيام محور رؤية معيّنة للحياة والعالم، هو الذي يضع الحواجز بين العقل والقرآن، فيصيب الأمة خلل معرفي خطير، يفقدها حيويتها وكفاءتها في النهضة والنمو والتقدم، ذلك أن الوقوف عند بعض آراء الفقهاء وحدهم يوقف تطور المفاهيم ويوقف حركة المعرفة، وبالتالي يوقف حركة الحياة، لأن المفاهيم في بيئتهم المعرفية جاهزة وساكنة، شكلت أسس المذاهب وخصائصها، في حين إن القرآن الكريم يطالبك بدوام التفكير في ملكوت السموات والأرض والاجتهاد والنظر في الآفاق والأنفس وحركة التاريخ، من أجل إعمار العقل وإعمار الحياة ونشر الحب والسلام في العالم .
لذلك فإن اعادة بناء المفاهيم الاسلامية في ضوء مناهج القرآن المعرفية، يعد السلاح الأكثر فاعلية في مواجهة التجهيل الذي تعرض له العقل المسلم ولمّا يزل .
يحتاج بناء المفاهيم الاسلامية الى رؤية كلية قرآنية للحياة والمعرفة، ذلك أن القرآن الكريم يعد الأساس الذي تقف عنده المفاهيم الاسلامية وتنطلق منه بمختلف مستوياتها المعرفية والاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية والفكرية والعلمية وما الى ذلك.
تلك المفاهيم التي تؤسس لعملية النهضة والاصلاح العمرانيين في ضوء قوله تعالى: { إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}.الإسراء:﴿٩﴾. وكلما تغلغلت الرؤية الكلية القرآنية في ثنايا الحضارة والعلم والحياة، صار الفكر أكثر كفاءة وفاعلية وجدية وصارت المفاهيم أكثر حيوية في تأسيس واقع رصين وحقيقي .
لذلك فإن الاهتمام بالمفاهيم القرآنية بخاصة، والاهتمام بعملية بنائها، يعد الجهد المعرفي الأكثر ضرورة في إعادة صياغة الحياة على وفق الرؤية الكلية القرآنية، ذلك أن المفاهيم هي الفضاءات التي تتحرك فيها عمليات الاصلاح الحضاري والبناء الجديد، لأنها أحد أدوات قيادة الفكر الى تحقيق أهدافه السامية .
لقد أخترنا أحد المفاهيم القرآنية التي كثر فيها الجدل وتعددت الرؤى، ومعظمها يفتقر الى الأساس القرآني في الصياغة، أو ساقط في القراءة العضينية للقرآن الكريم، وهو المنهج المرفوض قرآنياً، عامداً أو غير عامد، ألا وهو مفهوم (الدنيا)، الذي نال حظاً وافراً من التشويه بسبب عوامل متعددة منها المذهبية، ومنها ضيق زاوية النظر الى الدنيا، فكانت الدنيا معهم مثل الهرم المتعدد الألوان كل يحسبه اللون الذي يراه.
يركز البحث على طبيعة المفاهيم القرآنية، من حيث ارتباطها ببعضها، فهي تنفتح على بعضها لتشكل في النهاية جملة من العلاقات المتشابكة لقضايا الوجود الإنساني، وسيبدو هذا واضحاً في مفهوم الدنيا الذي يبدو أكثر حيوية من مفهوم العالم، ذلك أن مفهوم الدنيا مفهوم حركي باتجاهين مهمين وخطيرين، السمو والتعالي، أو الانحطاط والانحدار، ذلك بحكم طبيعة عناصر الدنيا ومتاعها السلبي أو الايجابي، في حين أن مفهوم العالم مفهوم ساكن وإن تعددت أشكاله.
وبغية الكشف عن طبيعة مفهوم الحياة الدنيا في القرآن الكريم توزع البحث على ثلاثة مباحث، تناول المبحث الأول آيات الحياة الدنيا في المرحلة المكية، في حين تناول المبحث الثاني آيات الحياة الدنيا في المرحلة المدنية، أما المبحث الثالث فتناول الرؤية القرآنية الكلية للحياة.
نسأل الله التوفيق والسداد في خدمة كتابه العزيز .
المبحث الأول
آيات الحياة الدنيا في المرحلة المكية
تحدث القرآن الكريم عن الحياة الدنيا، والدنيا هنا هي صفة لما هو أدنى، أو لما هو خاضع للشرط الأدنى، فالحديث إذن عن الحياة، غير أن تداول الدنيا في الاستعمال اللغوي جعلها مرادفة للحياة، فحين نقول حياة، يتبادر الذهن الى الدنيا، وحين نقول دنيا يتبادر الذهن الى الحياة .
تنوعت آيات الحياة في القرآن الكريم في مرحلتيه المكية والمدنية، ومن الجدير بالذكر أن هذه الآيات لم يتناولها المفسرون في سياق المرحلة التي أنزلت فيها، أو في سياق النص الذي وردت فيه، إنما اتخذوها مسوّغاً للتقليل من شأن الحياة، فلم ينطبع في ذهنهم إلا أن الحياة لهو ولعب وتكاثر في الأولاد والأموال، وهي عناصر مهمة في الحياة إن نحسن التعامل معها، أو هي دار الغرور، فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا، فتشكلت رؤية سوداوية للحياة، نمت فيها السلبية والهزيمة وساد السكون الحضاري، ليقتصر الأمر في النهاية على العبادة وعدّها الغاية القصوى من الخلق، معتمدين قوله تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.الذاريات:﴿٥٦﴾.
غاضين النظر عن مقاصد أخرى من الخلق بيّنها الله تعالى قبل مقصد العبادة، ذلك أن سورة هود في ترتيب النزول قد سبقت سورة الذاريات وفيها قوله تعالى:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ}.هود:61.
وبغية الوقوف على دلالات مفهوم (الحياة / الدنيا)، نستعرض سياق ورودها في الآيات المكية وعلى النحو الآتي:ـ
وردت في سورة الانعام الآية(32)، قوله تعالى:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاًّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ }. الأنعام:﴿٣٢﴾.
في الحوار مع الملحدين الذين يقولون اعتقاداً إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، فهم ناكروا البعث، إن الحياة عند هذا النمط من البشر لا تعدو أن تكون لهواً ولعباً، واللهو واللعب حتى وإن حققا بعض الفائدة، فهي فائدة آنية وزائلة لا محالة ولا يمكن أن تكون الحياة قائمة على هذه العناصر، فهذه العناصر إن كانت هي أساس الحياة، فالنتيجة هي الخسران المبين، وعلى هذا الأساس ذم الله تعالى الحياة إن اقتصرت على هذه العناصر والفعاليات غير المنتجة لما هو مفيد ونافع، وهي بذلك تتناقض، كذلك، مع التقوى والعقل، فالتقوى فعل عبادي حياتي مضمونه الحب والسلام والبناء، وهو بهذا لا يتفق مع مطلب إعمار العالم على أسس العقل والعدل والكفاءة. فالموقف هنا هو مع منكري البعث فصوّر الدنيا إزاء فهمهم وموقفهم للهو واللعب.
في سورة الاعراف، قال تعالى} قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. الأعراف:﴿٣٢﴾.
يوجه الله تعالى رسوله أن يقول للناس من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وزيادة في التأكيد يأمره أن يقول لهم تأكيداً بأنها خالصة لهم يوم القيامة كذلك، إذ سيتزينون هناك بما أعد الله عز وجل لهم من علامات تميزهم عن غيرهم، فكانت الزينة هنا هي أولى ملامح جمال الحياة الاسلامية ضد الحياة الجاهلية، لقد تميزت الحياة الاسلامية في ضوء هذه الآية بجمال الملبس وطيب الطعام، وطيب الشراب، بعيداً عن الإسراف، وهو تجاوز الحد في المأكل والمشرب والملبس. وفي الاعراف كذلك، تشخيص للعلاقة بين الذين غرتهم الحياة الدنيا، وبين الموقف من الدين .
فالذين اتخذوا الدين هزواً ولهواً ولعباً، أولئك هم الذين غرتهم الحياة الدنيا، وجحدوا آيات الله، والذين تصوروا أنها الحياة التي لا حياة بعدها، وبالتالي فلا بد من أن يعيشونها باللهو واللعب كأحد الملذات التي تملأ نفوسهم، هؤلاء نسوا الله عز وجل ودينه، رغم كل عوامل التذكير والهداية، إلا أنهم ظلوا غارقين في الملذات، والنتيجة المنطقية هي نسيانهم من الله يوم القيامة في النار، وعدم الاكتراث بهم جزاء جحودهم واختيارهم لقناعاتهم الاعتقادية .
إن هذا الارتباك العقدي، إنما هو نتيجة منطقية للتمسك بالدنيا وملذاتها السلبية في المال والرغبات البائسة، ولهذا من المنطق كذلك أن يواجه أهل هذه الرؤى بتقليل فاعلية بنيتهم النفسية والفكرية وتسخيف فهمهم للحياة باعتقادهم المادي.
في سورة يونس في قوله تعالى:{ إنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}. يونس:﴿٧﴾.
موقف أخر إزاء الذين استحبوا الحياة الدنيا، وهم الذين لا يرجون لقاء الله في البعث والقيامة، إن عدم الرجاء هذا هو حبهم للحياة الدنيا، فقد رضوا بها مستقراً نهائياً واطمأنوا بها وغفلوا عن الآيات العظمى، آيات الله في أنفسهم وفي الأفاق وفي التنزيل، اولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون في غفلة عن حكم الله تعالى وعلمه.
في الآية (24) من سورة يونس، قال تعالى:{ إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. يونس:﴿٢٤﴾.
صورة جميلة للحياة الدنيا، ورغم جمالها فهي زائلة وقصيرة، ولذلك ينبه الله تعالى أهل الأيمان والتقوى إلى التفكر بالأمثال الربانية واستخلاص العبرة منها.
في الآية (64) من سورة يونس، قال تعالى:{ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.يونس:﴿٦٤﴾.
يبين الله تعالى جمال الحياة الدنيا في أنها ميدان بشرى للمؤمنين، بشرى لغدهم وعزهم وتمكينهم في الحياة الدنيا، وكذلك هم في الأخرة السعداء، وهذا وعد الله الحق وكلمته التي لا تبدل في إسعادهم في الدارين. في سورة ابراهيم الآية (3)، قال تعالى:{ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَٰئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}. إبراهيم:﴿٣﴾.
تحديد لبعض سمات أهل الدنيا الكافرين: تشير الآية الى أن أحد سمات الكفر حب الحياة الدنيا وتفضيلها على الاخرة، وعندما تكون الحياة الدنيا هي الاختيار الوحيد، نرى القرآن الكريم يسعى إلى هدم هذا الاختيار، وتسخيفه في أعين أنصاره .
و في سورة ابراهيم كذلك يجعل الله تعالى الحياة الدنيا ميدان ثبات وصدق للذين أمنوا، قال تعالى:{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.إبراهيم:﴿٢٧﴾.
فالحياة الدنيا هنا هي ميدان انتصار الدليل والبرهان العقلي التابع للدين، والحقيقة، فهم لا يثنيهم عن دينهم المخالفون لهم، المضطهدون لهم والمعذبون.
وفي سورة النحل، قوله تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.النحل:﴿٩٧﴾.
يبين الله تعالى، أن الحياة الطيبة هي نتاج عمل الصالحات ولا فرق في ذلك بين الذكر والانثى، والصالحات هي أعمال العبادة وأعمال عمارة الارض التي بها تتحقق بعض مظاهر سعادة الحياة، وكذلك هي الأعمال اليدوية والفكرية التي تعمل على تطوير الحياة مادياً ومعنوياً. في المقابل يندد الله تعالى بالذين انشرحت صدورهم بالكفر، فأولئك عليهم غضب الله، وتبين الآية أن انشراح صدور أولئك بالكفر. لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فاعتقدوا أن طيب الحياة خالد، ومنقذ من الهلاك، قال تعالى:{ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. النحل:﴿١٠٧﴾.
ويظل القرآن الكريم يندد بالذين جعلوا الحياة الدنيا اختيارهم الأوحد ويسقط حججهم وادعاءاتهم بأروع الأمثلة وأعمقها بلاغة، كما جاء في قوله تعالى:{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}.الكهف: ﴿٤٥﴾.
فالحياة الدنيا على مستوى الفرد والمجموعة مهما كانت ثرية وطيبة فهي زائلة لامحالة بموته. ولكنها باقية من حيث الزمان والمكان. لذلك جاءت أمثلة القرآن الرائعة بتشبيه الحياة الدنيا بالمطر الذي يختلط بالأرض فتورق وتزهو بالنبات، وما إن يأتيها الصيف يصبح هشيماً تذروه الرياح. وهكذا تظل دورة الحياة تجدد. ومع ذلك هي غير خالدة بالنسبة للأفراد، فالدرس القرآني هنا، يوضح أن الحياة الدنيا على أهميتها فهي غير باقية لك أيها الإنسان، فأنت ستغادرها يوماً ما، فلا تجعلها اختيارك الأوحد والنهائي، إنما لابد من التوازن بين متطلباتها ومتطلبات الحياة الآخرة، فالحياة ليست سجن المؤمن كما يتصور قاصرو الفهم، إنما هي ميدان حريته وتديّنه وانتاجه الخلاق. وفي الكهف توضيح لأهم زينة في الحياة الدنيا وهي المال والبنون، وفي هذا الحد يلتقي المؤمنون والكافرون، فالمال والبنون زينة الحياة الاثنين، غير أن الفرق الجوهري بينهما هو أن المؤمنون مع قناعتهم بزينة الحياة الدنيا، فهم مؤمنون أكثر بأن الباقيات الصالحات هي خير عند الله ثواباً، وخير أملاً.
إن زينة حياة المؤمنين هي الأعمال الصالحة، التي هي أعمال الخير التي تبقى غرتها للإنسان وتغنى عنه كل ما تطمح أليه نفسه من حظوظ الدنيا، فالمؤمنون يعلمون أن المال والبنين زائلان، رغم كونهما أجمل ما في الحياة بعامة، غير أنهما مفيدان جداً حين يوظفان في خدمة الدين والدنيا على وفق هدى الله تعالى، غير أن الذي يبقى هو الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي الأعمال المادية ذات النفع العام كتحويل موارد الطبيعة الى سلع اقتصادية نافعة للمجتمع، وكذلك الأعمال المعنوية والفكرية والروحية كالعبادة والممارسات الاخلاقية البناءة، التي تساهم في سعادة البشر، قال تعالى:{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}.الكهف:﴿٤٦﴾.
وتطرح سورة الكهف قضية مهمة في إطار آيات الحياة الدنيا، ألا وهي منهج العيش في الحياة الدنيا. إن أهل الحياة الدنيا بعد أن رفضوا كل دعوات الهدى والارشاد، وأصروا على غيّهم، يؤكد القرآن على قضية مهمة ألا وهي كيف نميز الأخسرين أعمالاً، أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، فهم التاركون من لا خالق ولا رازق لهم سواه، والمقبلون على من ليس بيده شيء من خلق ولا رزق ولا غيره، العابدون الملائكة والاحجار والاشخاص والطواغيت والكواكب هؤلاء الذين افتقروا الى المنهج الحق، منهج الهدى في إدارة الحياة الدنيا، فضل سعيهم، أي حاد عن الطريق الحق والقصد الحق، فيحسون لقصور عقولهم ومناهجهم أنهم يحسنون صنعا.
في سورة (المؤمنون) جاء قوله تعالى:{ وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}.المؤمنون:﴿٣٣﴾.
يتصرف المترفون الذين امتلكوا الأموال والأولاد وكثرة المسرات، على أنهم الأعلون، فانحرفوا عن منطق الهدى، واستعلوا على قومهم، يخاطبونهم محتقرين الرسول، ما هذا إلا بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون، فهو مثلكم، فعلامَ اتباعه، ولماذا هو رسول دونكم.
هذه النماذج البشرية التي اختارت الدنيا خياراً أبدياً هي التي أدانها القرآن الكريم عقيدة ومنهجاً وسلوكاً، وسخّف الدنيا ووعيهم بها .
في قصة قارون في سورة القصص مواجهة رائعة بين المنهج الدنيوي المادي، والمنهج الدنيوي الإيماني من خلال الموقف من قارون، الذي يعد أنموذجاً تفسيرياً لظاهرة العلمانية المستغنية عن الله تعالى. فعندما خرج قارون الذي آتاه الله من الغنى ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، على قومه بزينته، برز أمامه أنموذجان من البشر، الذين يريدون الحياة الدنيا، بكامل منهجهم في الحياة، والذين يريدون الآخرة بكامل منهجهم في الحياة. قال الأنموذج الأول مأخوذاً بغنى قارون، يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال أهل الآخرة، أهل العلم، ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يلقاها إلا الصابرون، الآن سيبدأ الاختبار، اختبار الاختيارات، يخسف الله تعالى الارض بملك قارون، فوقف هو وأنصاره ومؤيدوه عاجزين عن مواجهة الموقف، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله. ولا هو قد كان قادراً على تحقيق لحظة نصر يعيد بها مُلكه واعتباره. فماذا سيقول الذين تمنوا مُلكه...؟ قالوا وي كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، قالوها عجباً وندماً، فاستيقنت أنفسهم في لحظة هلاك ملك قارون الذي طالما اعتد به، متباهياً بأن هذا المُلك إنما هو من صنع يده، ناسياً الله تعالى ومستغنياً عنه، فأين تلك القوة لتنقذ هذا المُلك من الخسف المبين؟! أقول استيقنت أنفسهم أن علم قارون ومنهجه ورؤيته المادية للعالم بائسة كلها، وعاجزة عن مواجهة قدر الله وقوته. في حين كان جواب أهل العلم والايمان، ويلكم يا أهل الدنيا من فكركم ومنهجكم الذي أنتم عليه ودهشتكم من مُلك قارون وتمنيكم أن يكون لكم مثله ، أرأيتم كيف زال بقوة الله، وأنتم وصاحبكم عاجزون عن استرداده. إن ثواب الله تعالى خير من دنياكم كلها، وهو لمن آمن وعمل صالحاً، وهو جهد إيماني وعلمي (علم بهدي الله ووحدانيته) وعونه ولطفه. تأكيداً لقوله تعالى:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴿٧٦﴾ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿٧٧﴾ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿٧٨﴾ خَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٧٩﴾ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ ﴿٨٠﴾ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴿٨١﴾ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَولا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}.القصص:﴿76.ـ82﴾.
وفي سورة العنكبوت، قوله تعالى:{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.العنكبوت:﴿٢٥﴾.
تشير الى مودة الكافرين لبعضهم من دون الله، محور مودتهم الأوثان، فهذه حياتهم الدنيا، شرك بالله، ومودة الكفر والأوثان، هي مودة واهية، وباهتة، وغير حقيقية، سيكتشف هؤلاء المتوادون في الاوثان أن مودتهم ستنقطع وتضمحل يوم القيامة عند اكتشافهم المودة الحقيقية واليقين الذي ظلوا به كافرين ((ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً)). إنها لحظة إعلان البراءة، العابدون والمعبودين، يتبرأون من بعضهم، فماذا قدمت عقائد الحياة من أمل أو قوة؟! ويعود الموقف القرآني ليؤكد لهؤلاء في قوله تعالى:{وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.العنكبوت:﴿٦٤﴾.
في سورة الروم، قال تعالى:{ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.الروم:﴿٧﴾. توضح حقيقة العلم بين أهل الدنيا، وأهل الايمان، إن أهل الدنيا يمتلكون عقولاً راجحة وعلوماً مهمة ومناهج أدركت ماديات العالم. دون معرفة جوهر العالم، وآلية حركته، وسننه الثابتة، وقوانينه الفاعلة، إن جلّ علمهم هو مظاهر الحياة ومعطياتها المادية، ولذلك أخضعوا كل شيء للمادة ومقاييسها، ولذلك فهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فالوجود عندهم هو ما يخضع للتجربة والمشاهدة، في حين إن أهل الإيمان والقران يعلمون حقاً أن الوجود ينقسم على عالم الغيب وعالم الشهادة، عالم الغيب هو ما يكشف عنه الله تعالى، بالوحي، وعالم الشهادة هو ما يكشف عنه العقل الإنساني، يلتقي البشر جميعا ً في عالم الشهادة وقوانينه، ويفترق أهل الإيمان بإيمانهم بالغيب وإرادة الله الفاعلة في الكون. قال تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.الأعراف:﴿٥٤﴾.
ويظل القرآن في العهد المكي مُركِّزا ًعلى هدم قناعات أهل الدنيا بوصفها خيارهم الأوحد والأخير، فيخاطب الناس كافة، مؤمنهم وكافرهم أن يتقوا الله، والتقوى ممارسة انسانية بإمكان البشر كافة تحقيقها، ألا وهي الخوف من الله عز وجل، بتحقيق إرادته وأحكامه وعلمه، وهي ايضا الخوف من القانون عند غير لمسلمين. والهدف من التقوى في النهاية، هو نشر الأمن والسلام والمحبة بين الناس، ولهذا كان خطاب الله عزّ وجل في هذه القضية للناس كافة الذين سيواجهون موقفاً حقيقياً ألا وهو الموقف يوم الحساب ..ذلك اليوم الذي لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، يوم مرعب يتجرد الآباء من الأبوة، والأبناء من البنوة، أمام هول المشهد الذي يحتاج فيه كل واحد إلى من ينقذه مما فيه، ذلك اليوم هو يوم وعد الله الحق الذي طالما حذرنا الله منه، وبغية تجنب أهوال ذلك اليوم أول ما يحذر الله تعالى منه هو عدم الإغترار بالحياة الدنيا، لأنها زائلة، ولا تغركم بالله، أي لا ينبغي أن تغرنا الحياة الدنيا بنفسها، ولا ينبغي أن تغتروا بها وإن حملكم على محبتها غارٌ، من نفس أمارة أو شيطان، والناس في هذا الموقف أصناف: منهم من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها، ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويؤمله ويقول إنك تحصل بها الآخرة أو تلتذ بها ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة، فنهاهم الله تعالى عن هذه الأصناف إلى صنف ثالث متميز، هم الذين لا يلتفتون الى الدنيا ولا إلى من يحسنها في الأعين، هذا تصور الرازي المفسر، ولنا عليه مأخذ، إذا كان هذا الصنف لا يلتفت إلى الدنيا ولا إلى من يحسنها في الأعين فكيف نعمرها إذن؟ أليست الأرض بمعناها الواسع هي الحياة الدنيا؟ ولماذا يأمرنا الله تعالى أن نأخذ زينتنا عند كل مسجد؟ أليس هذا فعل الحياة في موقف العبادة؟ وتتوالى الآيات تترا في التأكيد على حقيقة تهز عرش الكافرين مؤكدة على أن الحياة الدنيا متاع الغرور وأن الآخرة هي دار القرار، لقوله تعالى:{ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار}.غافر:﴿٣٩﴾.
وإن الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. قال تعالى:{ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.غافر:﴿٥٢﴾.
وأن الله تعالى هو ولي الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة. لقوله تعالى:{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}.فصلت:﴿٣١﴾
وإن الاستكبار صفة لأهل الدنيا وكذلك الفسق، قال تعالى:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}.الاحقاف:﴿٢٠﴾.
وإن الإلحاد وحب الدنيا صنوان لا يفترقان. قال تعالى:{ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.الأنعام:﴿٢٩﴾.
المبحث الثاني
الحياة الدنيا في الآيات المدنية
إن أفعالنا وإيماننا وتمسكنا بهدى الله عز وجل، يجعل من الحياة الدنيا قيمة كبيرة ومهمة، في حين أن قبح الأفعال يحول الحياة الدنيا الى كارثة أخلاقية وعقدية تنشر الفساد في الأرض من خلال الممارسات الشاذة.
يستعرض القران الكريم أنموذجاً لسوء الأفعال التي تصيب فاعليها بالخزي في الحياة الدنيا، فهذه مجموعة من اليهود عرضت نفسها لشتى المشكلات والأفعال البائسة ظناً منهم أنها عبادة وتقربا الى الله، أو هي حلول لمشكلات عانوا منها في مسيرتهم التاريخية، أو مخالفات لشريعتهم، والتعامل الانتهازي مع كتابهم المقدس، إن هذه الأفعال كان جزاؤها الخزي في الحياة الدنيا، ويوم القيمة يٌردون إلى أشد العذاب،. إنهم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، يود أحدهم لو يعمر الف سنة من شدة حرصه على الحياة الدنيا، وقد وضحت هذه القضية الآيتين 85-86 من سورة البقرة. قال تعالى:{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴿٨٥﴾ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ﴿٨٦﴾} البقرة:﴿٨5ـ86﴾.
في المرحلة المدنية ظهر النفاق، أصبح ظاهرة اجتماعية، كانت جذوره ممتدة في العهد المكي كذلك. في العهد المدني، تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من بناء مؤسسات الإسلام، المسجد والدفاع والمالية والبيئة، وبدأت المواجهات العقائدية كبيرة وواسعة بين المكونات الأساسية للمدينة، العرب المهاجرة والأنصار من جهة ، واليهود والنصارى وحلفاؤهم من مشركي العرب من جهة اخرى، والعقائد غير الإسلامية الأخرى، صارت مسؤوليات المسلمين أكبر، وتحدياتهم كذلك، فوجد البعض في أحكام الرسالة عبئا غير قادر على حمله، والمسؤوليات ثقلت، والتضحيات كثرت، أمام المواجهات مع القوى غير الإسلامية، والأكثر خطورة في كل هذا، أن الحياة الاقتصادية تطورت بفعل بعض الاستقرار الذي حدث في المدينة من جراء تنظيمات الرسول الإدارية.. فأصبحت الحياة أكثر إغراءً، لاسيما وإغراءات اليهود المادية لا تضاهى، هنا تحول الخطاب القرآني في مجال(الحياة الدنيا) إلى شكل آخر، هنا بدأ يشمل المنافقين من المسلمين وغير المسلمين، فشخص هذه النماذج بقوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}.البقرة:﴿٢٠٤﴾.
وبدأت الحياة بعهدها الجديد أكثر إغراءً بعناصرها الأساسية التي اشار اليها القرآن الكريم في قوله تعالى:{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}.آل عمران:﴿١٤﴾.
إن هذه العناصر الحضارية زينها الله تعالى لعباده لتكون قوة تعينه في البناء النفسي والاجتماعي والاقتصادي. من خلال دافع الشهوة الذي يعد مع الحكمة والشجاعة من صفات النفس العظيمة.. الشهوة أكبر من التصور السائد، إنها روح الحياة، فإذا ما خلونا منها، لم يكن في أيدينا ما نستهل به، قصة حياتنا على الاطلاق، وهي النور الذي في الكواكب، والألق الذي في الموسيقا والغناء، والبهجة في الأزهار، والتوق الذي في النساء، والحياة التي في العلم، ومن المتعذر الكلام على روح من غير شهوة، بقدر ما هو متعذر الكلام عن الموسيقا من غير تعبير، إنها ذلك الشيء الذي يغدق علينا الدفء الداخلي والحيوية الزاخرة التي تمكننا من مواجهة الحياة في بهجة وبشر .
ومع كل هذه الحيوية التي أودعها الله تعالى في زينة الحياة والانغمار فيها، إلا أن ما عند الله خير، وعنده حسن المآب.
لقد أخطأ المفسرون حين ربطوا بين الشهوة والبهيمية، وشطوا كثيراً حين صوروا (الشهوة) طريقاً إلى الحيوانية، ناسين أن الله هو من زين النساء والأموال والخيل للبشر، وأودع فيهم القدرة على تحسس جمال تلك العناصر التي بها تسمو الحياة وتتطور وتنهض الأمم، إن حسن المآب الى الله لا يلغي التمتع بهذه العناصر على وفق هدى الله عزوجل، لأن استثمار هذه العناصر في بناء حضارة الأمة، وهو مطلب ايماني يسهم في (عمارة الأرض) وهو أحد قوانين النهضة الحضارية بالمنظور الإسلامي.. إذ يشكل الإنفاق على إدامة هذه العناصر بالخير والعدل، يعد جزءاً من إعمار الأرض، وحماية المجتمع من الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي تحدث بسبب الفقر والجوع والحرمان، وبهذا الإعمار تصبح (الحياة الدنيا) ميدان خير وجمال وبناء ونهضة وانسجام مع سنن الله تعالى في التمكين الحضاري، فالتمكين هو الارتقاء بحياة الأمة الإسلامية من خلال منظومات القرآن الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والايمانية، فهل التمكين نقض للحياة الدنيا؟ أم تعزيز لها ؟
في حين يكون الإنفاق الذي يهدف الى محاربة الحق والعدل والإنصاف الذي يقوم به المنافقون أعداء الرسالة، فقد شبهه الله تعالى كمثَل الريح في قوله تعالى:{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.آل عمران:﴿١١٧﴾.
إن مثل هذا الإنفاق الذي يعد هدراً للموارد المالية والاقتصادية، هو الذي يجعل من الحياة الدنيا دار غرور ومتاع زائل، ويكون الإنفاق حسرة على المنافقين.
يواصل القران الكريم في المرحلة المدنية شد أزر المؤمنين في القيام بأعباء الرسالة والدفاع عنها، فيجعل ثمن الجنة في بيع الحياة الدنيا والتخلي عنها، إنه يعلن عن المبدأ .. وهو شراء الآخرة بالدنيا، فمن يمت نال أجره، ومن يحيا نال أجره. في الحالتين رضا الله وثوابه العظيم. كما في سورة النساء الآية(74). قال تعالى:{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.النساء:﴿٧٤﴾.
ويواصل القرآن الكريم في المرحلة المدنية خطابه للمؤمنين، كي لا تأخذهم الحياة الدنيا بأخطاء تفقدهم الكثير من حضورهم العالمي، وتضر بالإسلام نفسه، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.النساء:﴿٩٤﴾.
وفي هذه الآية انحرف بعض المفسرين عن مدلولها الحضاري وراحوا الى اعتبار الضرب في الأرض يعني الجهاد والقتال، وغاب عنهم البعد الدولي في العلاقات بين المؤمنين وغيرهم.. فالآية تشير إلى أنه في علاقاتهم الدولية من خلال الضرب في الأرض في سبيل الله، لا سيما الدعوة إلى الله.. ينبغي أن تتبينوا أمر الناس، ولا تتعالوا عليهم إذا ألقوا اليكم السلام بحجة أنكم غير مسلمين، قاصدين عرض الحياة الدنيا.. إن هذا التصرف يضر بالإسلام والمسلمين، واعلموا أن عند الله مغانم كثيرة تغنيكم عن ما عند الآخرين. تؤكد الآية على قضية غاية في الخطورة والأهمية، هي دعوة المؤمنين لإقامة حياة طيبة من خلال علاقاتهم مع العالم.. من أجل نشر السلام والحب في ربوع الأرض.
وتتوالى الآيات في إدانة الذين آمنوا في مواقف معينة تكشف عن زوايا النفاق الكامنة فيهم، واستحبابهم الحياة الدنيا وكأن كل تلك الآيات التي حذرت من الإغترار بالحياة الدنيا لم تكن تخصهم، ولم يكونوا قد سمعوها. قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَ قَلِيلٌ}.التوبة:﴿٣٨﴾.
إن هذه المواقف هي التي تجعل من الحياة الدنيا موضع إدانة ورفض.. ولهذا يحذر الله المؤمنين أن تغريهم الحياة الدنيا بمتاعها وملذاتها، والإشارة القرآنية الرائعة هنا أنه تعالى ببلاغة القرآن الهائلة يشبه الحياة الدنيا للمؤمنين كغيث أعجب الكفار... فلا يريد لهم أن يقعوا في فخ الكفر النفسي هذا. قال تعالى:{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿٧﴾ وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿٨﴾ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿٩﴾ وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿١٠﴾ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿١١﴾ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٢﴾} الحديد: ﴿7ـ12﴾.إذ تأتي الآيات في سياق الإنفاق والصدقات في سبيل الله والحث عليها، فالذين ينفقون في سبيل الله لإعمار الأرض والإنسان أولئك لهم الرضوان والمغفرة.. والذين تلهيهم متاع الدنيا.. فأولئك لهم عذاب شديد.
المبحث الثالث
الحياة في ضوء الرؤية القرآنية
إذا كانت آيات الحياة الدنيا المكية والمدنية قد واجهت موقفاً عقدياً معيناً للقوى المناهضة للإسلام في فهم الحياة الدنيا حين تكون اختياراً أوحداً، فإن القرآن الكريم كله هو إدارة لتفاصيل الحياة الدنيا بعناصرها الكلية على مستويات الحضارة بعناصرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعرفية وما إلى ذلك.
تنوعت مظاهر الحياة في القرآن الكريم، ونحن نتحسسها في مفاهيم وأشكال متعددة، فالأرض صورة من صور الحياة، فهي ميدانها، ولهذا أمرنا الله عز وجل بعمارتها، فعمارة الأرض هي عمارة الحياة، في ضوء هدى الله تعالى والعقل، بما يحقق العدالة والأنصاف والكفاءة.
إن الحياة في القرآن الكريم هي الدلالة على حركة الإنسان بكل طاقاته العقلية والنفسية والروحية والعلمية، وحركة الإنسان هي الدلالة على حركة التاريخ والتقدم أو الركود الحضاري، ولأن المجتمعات الإنسانية هي مجموع البشر الذين ينتمون إلى مجتمعات متعددة الألوان واللغات والمنظومات القيمية، فحياتها هي حاصل حياة البشر فيها، ولهذا يخاطب القرآن المجموعات البشرية بأشكال متعددة، يخاطب المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، والعلماء، والصابرين.. ويخاطبهم بصيغة الجنس، الذكر والأنثى، ويخاطبهم بوصفهم أقوام مختلفة. ويخاطب الفرد بوصفه فرداً.. وحاصل جمع هذه القوى البشرية دلالة على الحياة بمستوياتها كافة، فكيف تدان الحياة وتهمل وتحتقر؟ وهل التقوى التي هي من الممارسات الإيمانية الراقية حجة لتحقير الحياة ونبذها.؟ إن إدانة الحياة الدنيا هكذا بالمطلق هي أحد مظاهر التجهيل بالقرآن الكريم.
إن آيات الحياة الدنيا في المرحلة المكية دعت قريشاً ومن معها إلى الانفصال عن العالم الطبيعي، وصنع عالم حضاري جديد، عبر التحذير من التمسك بالحياة الدنيا وعناصرها الزائلة، اللعب واللهو والتكاثر والتفاخر، فهي في ذلك الشكل أقرب إلى الحياة الحيوانية/ الطبيعية منها إلى حياة الحضارة والعقل، ولأن تلك العناصر ستفنى بدون أي أن تترك أثراً فاعلاً وكفوءاً في الحياة، تستمر بالانتقال جيلا ً بعد جيل. دون إحداث تغيير جوهري في منظومات الحياة المختلفة، ولنا في النحل خير مثل، فمنذ أن خلق الله عز وجل النحل الى يوم البعث، سيبقى النحل لا يغير شيئا في منظومة الخلية ونظامها لأنه لا يمتلك عقلاً فاعلاً متحركاً مبدعاً.
إن الحياة الدنيا بمنظور(قريش) القائم على الهوى واللعب والتكاثر والتفاخر، نتيجتها العبث واللاجدوى، لأن لا يقودها فعل بنائي خلاق ولا منجز عقلي يوجهها، وما موجود من هذين العنصرين ليس إلا صورة من صور العمل التقليدي أشبه بالغريزة، أما الفكر فهو يعتمد على الأسطورة والخرافة.
إن الحياة الدنيا بالمنظور القرآني تنقسن على قسمين، الحركة وتشمل الفكر والفعل والقول. والبهجة وتشمل الحب واللعب واللهو، تنطوي الحركة في الآيات التي تحث على إعمال العقل والتفكير في الأنفس والآفاق، وفي ملكوت السموات والأرض، وفي الآيات التي تطالبنا بالعمل، وفي الآيات التي تطالبنا أن نقول التي هي أحسن.
وعندما يؤكد القرآن الكريم على تفعيل هذه القوى، إنما يؤكد على قضايا مهمة منها :
1- تفعيل (مبدأ الاستخلاف) وهو المبدأ الذي يحتوي على الدور المناط بالإنسان من أجل عمارة الأرض.
2- تفعيل (مبدأ التسخير) والاستفادة منه، إنه المبدأ الذي سخر الله تعالى الكون للإنسان إذ أودع فيه قوانين الاستجابة لفعل الانسان وتأثيره في الكون.
3- إنجاز (عمارة الأرض) وهي من مقاصد الشريعة المهمة التي تقوم على المبدأين آنفي الذكر.
وفي ضوء هذا يمكننا القول بثقة: إن الحياة في ضوء القرآن الكريم مهمة ليست لأنها كائنة، أنما هي أهم عند الإجابة عن ما ينبغي أن تكون عليه، فالمستقبل يحتل مكانة مهمة في تحديد قيمة الحياة وأهميتها.
يخطئ من يتصور أن القرآن الكريم لم يطرح قضية مستقبل الحياة وأهميته، فالحياة في القرآن الكريم مهمة، ومستقبلها كذلك، فقد تميز القرآن الكريم بطرح مستويين لمستقبل الحياة، مستوى عاجل، هو المستقبل في الحياة الدنيا، وماذا ينبغي أن يعمل الإنسان لغده، يعزز هذا المستوى (عمارة الأرض)، الذي يفترض التقدم والنهضة من أجل مستقبل أفضل، وحياة أفضل. ومستوى آجل هو إما الخلود في الجنة أو الخلود في النار، وكلا الخلودين هو نتاج أفعالنا واختياراتنا ومسؤوليتنا، فنحن نقرر مكان خلودنا في ضوء دقة وعينا وعلمنا بهدى الله، والعمل بموجبه، أو جحوده، قال تعالى:{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.الملك:﴿١٠﴾. وقوله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.النحل:﴿٣٢﴾.
ومن الجدير بالذكر أن القران الكريم أضفى على الحياة، معنى بنّاءً من خلال (الموت)، فالموت ليس نهاية يتحطم عنده الوجود الانساني فيتحول الى تراب أو عدم كما يتصور الملحدون، إنما هو تحول إلى حياة أخرى لا يتحقق الفوز بها إلا من خلال تعمير الحياة الدنيا وإدارتها على وفق هدى الله عز وجل، وقوانين الكون التي أودعها الله تعالى فيه.
لقد طرح القرآن الكريم رؤيته للحياة ضد (الرؤية القرشية) فشخّص الحياة الكائنة مبيّناً أبعادها بأسلوبه اللغوي الجميل، كما رأيناها في الآيات المكية، وطرح البديل بما ينبغي أن تكون عليه الحياة التي أرادها الله تعالى للبشر. ويمكن تبيان عناصر الحياة الإسلامية بالآتي: الإيمان والتقوى والفلاح والتمكين والإعمار والعلم والأخلاق والعقل والجمال. وهذه كلها عناصر أرادها الله تعالى للإنسان كي يحقق من خلالها دوره الاستخلافي، وإمكاناته وقدراته البنائية الخلاقة.
لقد عالج القران الكريم العلاقة بين العقل والحياة بدقة، فهو لم ينشغل بتعريف العقل وأشكاله، وإنما انشغل بفعله.. ولهذا دائماً نرى خطابه (يعقلون) و (يتفكرون) و(يتذكرون)، فبالعقل تكون الحياة أكثر عطاءً وبالحياة يحيا العقل فاعلاً كفؤا .. أراد القرآن الكريم أن يجعل للحياة معنى آخر غير الذي عليه القوم، أراد أن تكون للحياة غاية وقيمة يعمل الإنسان من أجلها. كما جاء في قوله تعالى:{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.القصص:﴿77﴾.
ولذلك صار الإيمان غاية والعلم غاية والعقل غاية والأخلاق غاية والحب غاية والتسامح غاية، كل هذه الغايات وغيرها منظومات أخلاقية وعلمية ومعرفية تعمل على تحقيق سعادة الحياة الدنيا، والوصول الى سعادة الآخرة.
وتقترن الحياة الدنيا بالمنظور القرآني بالعمل الصالح والإيمان، وهي أرقى مزايا الانسان، وكذلك جعل القرآن الكريم (العمل الصالح) مطلباً اساسياً. إن (العمل الصالح) هو كل عمل يفيد البشرية في مناحي حياتها المتعددة، وهو الاندماج الخيّر الخلاق بين الذات الإنسانية العاملة وبين المجتمع، وقد مجّد القرآن الكريم العمل الصالح لأنه القوة الواعية التي بها نعمر العالم، ولهذا يؤكد القرآن الكريم على (أهمية القوة) في الحياة. قال تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}.الأنفال:﴿٦٠﴾.
وتتجلى القوة بأشكال متعددة، قوة الروح وقوة العقل وقوة النفس وقوة الإرادة، وكلها ضرورية في انجاز عمارة الأرض.
ولأن الحياة الدنيا مهمة في القرآن الكريم، فقد وضع الله تعالى للإنسان مثلاً أعلى يقتدي به.. إن وجود (المثل الأعلى) في الحياة الدنيا يعني أن للحياة قيمة كبرى، وإن الحياة ترتقي كلما سعينا إلى تحقيق (المثل الأعلى)، فالمثل الأعلى قابل للتحقيق في الوعي والعمل الجاد.
إن المثل الأعلى في المنظور القرآني يختلف عنه في المنظور الإنساني، فإذا كان المثل الأعلى إنسانيا ينتفي حين تحقيقه، فإن المثل الأعلى القرآني لا ينتهي لأنه يظل يحفز الإنسان على العمل والعروج اليه، إن الله تعالى هو المثل الأعلى في المنظور القرآني، قال تعالى:{ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.النحل:﴿٦٠﴾.
وإن السعي للتخلق بصفاته يستغرق حياة الفرد المؤمن كلها، دون أن يصل إلى النهاية.
أراد القرآن الكريم أن تسير الحياة الدنيا بدوافع قوية كفوءة خلاّقة، يسمو بها الإنسان، وبه تسمو الأمة، وفي الحالتين تتحقق جودة الحياة في ضوء هدى الله عز وجل.
الخاتمة
الحياة الدنيا موطن تحقيق رسالة الله تعالى ونشر عدلها وسلامها في الأرض.. فهي وإن كانت بالنسبة للفرد قصيرة، فهي في حركة الزمان باقية إلى يوم البعث.. فيها تستعيد الأمة حراكها الحضاري وفيها تستعيد الإنسانية كرامتها، وفيها تسود رؤية الحق للقوة، ورؤية القوة للحق.. وفيها يتحقق العدل والإحسان والإنصاف، إنها فضاء الإبداع والحرية وهي ميدان التكافل والمحبة، إنها حدائق الرحمة والسلام والأمن، من يختار أن يعطل أحكام الله وجمال رسالته وعظمة النبوة فليتخل َّعن الحياة.. أما أهل القرآن والعقل وسنة الرسول الصحيحة فندافع عنها (بالحب والعقل والقرآن)، من أجل حياة أفضل.
مصادر البحث
* القرآن الكريم : مصحف المدينة النبوية للنشر الحاسوبي.
* التفاسير : تفسير الرازي ، الموسوعة الشاملة ، الإصدار الثاني.
* المصادر:
1ـ الزهد والرقائق، أبن المبارك، عبدالله المروزي(ت181هـ)، تحقيق وتعليق: أحمد فريد، دار المعراج الدولية للنشر، ط/1، الرياض ـ السعودية،1415هـ ـ1995م.
2ـ فلسفة من الصين، يوتانغ. لين، دار العلم للملايين، ط/2، بيروت ـ لبنان، 1957م.