"ما هذا السواد؟ لا تزالين صغيرة!"
سمعتُ هذه العبارة عددَ مرّات لا أودّ إحصاءها. وكنت غالبا ما أجيب إجابات لطيفة ومواربة مثل "الأسود يليق بي" (في إحالة لرواية أحلام مستغانمي "الأسود يليق بك")، أو تشتيتية مثل "الأسود ملك الألوان"، أو مرحة مثل "أسود يا سواد الليل"، أو متحذلقة مثل "أرتدي تحت العباءة قميصا ملونا وبنطال جينز". إلى أن فطنت إلى أنّ الانتقاد ليس موجها في حقيقته إلى اللون الأسود، بل موجه تحديدا لعباءتي التي صدف أنها سوداء.
بدايةً، لَمْ يأمر الإسلام المرأة بلون معين، ويحظر عليها لونا آخر. وسواد العباءة ليس مقصودا لذاته، بمعنى أنّه ليس توقيفيّا تعبّديا. لكنّه مفضّل على غيره لكونه أقدر على ستر تفاصيل الجسد.
إذن، لماذا أتمسك بالعباءة السوداء رغم هذا؟ أولا، وثانيا، وثالثا، لأن هذا ذوقي الشخصي، ومزاجي الخاص. ولا أرى الذين يسألونني عن سواد عباءتي يسألون بالحماسة ذاتها مَن تصبغ شعرها بالبنفسجي عن عملها هذا، أو مَن تخرز لسانها بحلقة معدنية، أو مَن تستعرض شطر جسدها على الملأ. وأحسب أن ما يستفزهم في العباءة دلالتها الدينية لا الذوقية.
العباءة بالنسبة لي ليست زيا دينيا وحسب، بل زي وطنيّ وتراثيّ. هي شيء يربطني بهذه الأرض، بالعباءة أخبرها أنني جزء منها، وأنني أحبها منذ زمن قديم، منذ زمن أمي وجدتي وأبعد. تماما كما يفعل رجال بلادي اليوم حين يرتدون الدشداشة والغترة والعقال خاصة حين يريدون إظهار زينتهم أو رسميتهم، هكذا يعبّرون عن اعتزازهم بتراث أجدادهم. ومن كان مشنّعا عليّ حقا، كان قمينا به أن يمتعض من عدم ارتدائي عباءة الرأس، وهي العباءة التقليدية التي ارتدها المرأة الكويتية لعقود طوال، ويتهمني بالمروق عن تراث الجدّات! ويبقى السؤال، لماذا لا يوجّه هؤلاء الشفوقون والشفوقات جهودهم للرجال؟ لماذا لا يقترحون عليهم تلوين دشاديشهم؟ فالبياض ممل مكرور، ويتسخ بسرعة، كما أنّه لون حزين إذ يذكّرنا بلون الأكفان! لماذا لا يشمل هذا النوع من النضال التغييري إلا المرأة وحدها؟
*****
في الحقيقة، هذا التنمّر الانتقائي ضد السواد ليس تنمرا على اللون نفسه، بل هو اشمئزاز من ارتباطه بالحجاب والعباءة كمبدأ. وإلا، فإني لم أجد مِن هؤلاء المتنمرين والمتنمرات من يشنّع على كون بذلة الـ Tuxedo (الزي الرسمي للرجال في بعض المناسبات) سوداء. ولم أسمع مَن ينتقد الرجل لارتدائه بشتا أسود أو بزّة سوداء في حفل زفافه. ولم أجد مَن يصف زي الرهبان والراهبات الأسود إلا بالوقار. ولم أصادف من يصنّف سيارات الملوك والزعماء السوداء إلا تحت بند الفخامة والذوق. وفي عدد لا يستهان به المطاعم الفاخرة التي زرتها، كانت النادلات لا يرتدين سوى الأسود الحالك، ولم أجد من يتوجّع ويتفجّع على قسرهن على هذا اللون الكئيب. ولا تخلو خزانة أي امرأة من ثوب أسود لحضور السهرات وحفلات الزفاف، فهو فخم وراقٍ، ويهبُ الرشاقة لمن تعوزها. فمالي لا أسمع من يشنّع على من تحضر مناسبات بهيجة بفستان بلون جنائزي كالأسود؟! لا طبعا، كيف يمكن قول هذا، ومصمم الأزياء "كريستيان ديور" قال يوما: "يمكنك ارتداء الأسود في أي وقت، وأي عمر. حتى أني أود لو أكتب كتابا عن الأسود!" يبدو أن الأسود لدى البعض فخم فتّان في كل حالاته، إلا حينما يكون لونا للعباءة. وكما قالوا قديما: "الإنصاف عزيز".
ختاما:
- تقولُ إحداهن: حرام، دافنة شبابك بالسواد.
- أقولُ: لا بدّ أن تُدفن البذرة، حتى تغدو يوما زهرة!