عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَلا تَعْجَزْ ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)[2] .
وعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : (لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)[3] .
لقد أولت الشريعة الإسلامية صحة الفرد اهتماماً كبيراً حتى تصبح دولة الإسلام قوية بأبنائها ، يعملون ويكدون ويجدون ويجاهدون في سبيل الله ، من أجل تقدم دولتهم ، ورفعة أمتهم .
وقد عملت الأحاديث النبوية على نشر الوعي الصحي بين أبناء المجتمع المسلم مما ساعد على الوقاية من العديد من الأمراض ، بل والقضاء على بعضها .
فالاهتمام بالصحة العامة يؤدي إلى زيادة الإنتاج ، والتقدم في شتى المجالات الصناعية والزراعية والتجارية ، فكلما كان الشعب صحيحاً كلما تقدمت الدولة وأصبحت قوية والعكس صحيح .
ومن ثم فقد نبه علماء المسلمين على أن الاهتمام بالصحة يكون ببناء المستشفيات ، والمراكز الصحية في جميع أنحاء البلاد ، في كل مكان مأهول : في القرى ، والنجوع ، والمدن ، وأن تقدم الخدمات الصحية بالمجان بدءاً من الكشف على المرضى ، ومروراً بتوفير الدواء وصرفه بالمجان خاصة للمحتاجين والفقراء ، وانتهاءً بإجراء أكبر العمليات التي يحتاجها المريض ، لا فرق في ذلك بين غني وفقير ، وإن كان الفقير أولى إلا أن الجميع هم أبناء بلد واحد يستوون في الحقوق والواجبات .
كذلك فإن الاهتمام بالصحة يكون عن طريق بناء مصانع الدواء ، ومراكز الأبحاث الطبية والدوائية ، فإن الارتقاء بالصحة والقضاء على المرض لابد له من البحث العلمي في الأمراض ، ومسبباتها ، وكيفية اكتشافها مبكراً ، واقتراح العلاج أو الدواء المناسب لها .
وقد اهتمت الشريعة بالأمراض ، وأسبابها ، وطرق علاجها ، واعتبرت المرض نوعان : مرض القلوب[4] ، ومرض الأبدان ، وهما مذكوران في القرآن :
قال تعالى : (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً)[5] .
وقال سبحانه : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً)[6] .
وقال جل وعلا : (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)[7] .
وقال تعالى : (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)[8] .
أما مرض القلوب فعلاجه مسلم إلى شريعة الله عز وجل ، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها ، وفاطرها ، وبأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه وأن تكون مُؤْثِرةً لما يرضيه ويحبه ، متجنبة ما ينهى عنه ويسخطه .
وأما مرض الأبدان فقد ورد في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي منه ، وذلك الأمر لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً .
ويرد على من أنكر التداوي وقال : إن كان الشفاء قد قُدِّرَ ، فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قد قدر ، فكذلك ، وأيضاً : فإنَّ المرض حصل بقَدَر الله ، وقدر الله لا يُدْفَع ولا يُرد ، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (لا عَدْوَى ، وَلا صَفَرَ ، وَلا هَامَةَ ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِي الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا ؟ فَقَالَ : فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ ؟!)[9] .
وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى : بأن الأدوية والرقى هي من قدر الله ، فما خرج شيء عن قدره ، بل يُرَدُّ قَدَرُه بقَدَرِه ، وهذا الرد من قدره . وهذا كرد قَدَر الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها ، وكرد قدر العدو بالجهاد ، وكلُّ من قَدَرِ الله : الدافع ، والمدفوع ، والدفع .
ويقال لصاحب الشبهة : إن ما تدعيه يوجب عليك أن لا تباشر سبباً من الأسباب التي تجلب بها منفعة ، أو تدفع بها مضرة ، لأن المنفعة والمضرة إن قُدِّرَتا ، لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدر لم يكن سبيل إلى وقوعهما ، وفى ذلك خراب الدين والدنيا ، وفساد العالم ، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق ، معاند له ، فيذكُرُ القَدَرَ ليدفع حجة المحق عليه ، كالمشركين الذين قالوا : (لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا)[10] ، وقولهم : (لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا)[11] ، فهذا قالوه دفعاً لحجة الله عليهم بالرسل .
فإن قال : إن كان قُدِّرَ لي السبب ، فعلته ، وإن لم يُقَّدَرْ لي لم أتمكن من فعله .
قيل : فهل تقبل هذا الاحتجاج ممن يعمل عندك ، أو ولدك ، إذا احتج به عليك فيما أمرته به ، ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته ، فلا تلم من عصاك ، وأخذ مالك ، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك ، وإن لم تقبله ، فكيف يكون مقبولاً منك في دفع حقوق الله عليك !!
ومن ثم فقد أمر الإسلام بالتداوي ، وفى قوله صلى الله عليه وسلم : "لكلِّ داءٍ دواء" ، تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والبحث عنه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سبباً لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح ، قويت القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته ، وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه[12] .
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاجه للمرض استخدام ثلاثة أنواع للعلاج :
أحدها : العلاج بالأدوية الطبيعية .
والثاني : العلاج بالقرآن .
والثالث : العلاج بالمركَّب من الأمرين .
هذا وقد نبهت الشريعة الإسلامية أبنائها أن مرض المؤمن ليس عذاباً ، أو انتقاماً ، أو شراً مستطيراً ، يوجب السخط والضجر ، وإنما هو ابتلاء من الله تعالى يختبر به صلابة إيمان عبده المؤمن ، وقوة عزيمته ، وهو كفارة لذنوبه وخطاياه إن صبر على قضاء الله وقدره ، فقد روي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ ، وَلا وَصَبٍ ، وَلا هَمٍّ ، وَلا حُزْنٍ ، وَلا أَذًى ، وَلا غَمٍّ ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)[13] .
وروي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : (دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا ، قَالَ : أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ ، قُلْتُ : ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ ؟ قَالَ : أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا)[14] .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (إِنَّ اللَّهَ قَالَ : إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ ، "يُرِيدُ عَيْنَيْهِ")[15] .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ ، أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ : مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ ؟ قَالَتْ : الْحُمَّى لا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا ، فَقَالَ : لا تَسُبِّي الْحُمَّى ، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)[16]
.[1] المقالة للكاتب من كتابه (تركة المصطفى صلى الله عليه وسلم وشريعة الإسلام) جـ 3 شريعة الإسلام .
[2] ـ صحيح مسلم .
[3] ـ صحيح مسلم .
[4] ـ يقصد به العقل أو النفس .
[5] ـ سورة البقرة الآية : 10 .
[6] ـ سورة المدثر الآية : 31 .
[7] ـ سورة النور الآية : 61 ، وسورة الفتح الآية : 17 .
[8] ـ سورة البقرة الآية : 184 .
[9] ـ صحيح البخاري .
[10] ـ سورة الأنعام الآية : 148 .
[11] ـ سورة النحل الآية : 35 .
[12] ـ كتاب (الطب النبوي) للإمام ابن القيم .
[13] ـ صحيح البخاري .
[14] ـ صحيح البخاري .
[15] ـ صحيح البخاري .
[16] ـ صحيح مسلم .