لأنَّ الكلمة بيت المعنى، فإنَّ استعمالها في ضوء معناها يحقق آثاراً حضارية فعّالة، ولأنَّ في الفعل(قُل) تكمن معانٍ متعددة الأبعاد والتأثيرات، تتكثف جميعها في(التكليف) الإلهي لمن يختار هدى الله ــ الذي يتألّق في الفعل(قُل).

والفعل(قُل) له جمالهُ في القرآن الكريم وخصوصيته كذلك، يتمثّل جماله في وحدة صيغته، وتعدّد المعاني الثاوية فيه، على خلاف الأفعال الأخرى التي تتعدّد أشكالها في التعبير عن معنى واحد. أمّا خصوصيته فتتجلّى في أنّه يمثّل لغة( الكينونة الإلهية) في قضايا محددة لا ينبغي حتى للرسول مخالفتها، فالقرآن الكريم في إطار القول فيه مستويان:ــ

المستوى الأول: قول الله تعالى الحقيقي.

المستوى الثاني: قول الله تعالى على الحكاية، (قول ما سواه).

 

الفعل(قُل) هو قول الله تعالى ليس حكاية عن أحد كما هو الحال في نقل الكلام عن الآخر، بني إسرائيل، وإبراهيم، ونوح، وأصحاب الرّس، وثمود.. وما إلى ذلك، من قصص وأحداث ومواقف عن الآخرين ولهم.

الفعل(قُل) لا يرسم واقعاً حُلمياً، إنّما يحدِّد مسارات الدين، ويخطِّط للتغيير والبناء وإعمار العالم، يرسم خارطة الحضارة الإسلامية بالأمر القرآني، إنَّه روح المعادلة القرآنية في إعمار العالم، (من الوحي إلى الحياة). وأعلى مستويات الوحي هنا هو(قُل) بتجلياته المتعددة بعيداً عن التجارب الإنسانية التي يستعرضها القرآن الكريم.

إنَّ التجارب الحضارية التي يستعرضها القرآن الكريم هي إمَّا مطابقة لقول الله تعالى ، أو مخالفة له، فهي المصاديق العملية لقول( الكينونة الإلهية) التي أراد الله أن نتداوله في بناء حضارة الوحي وإعمار العالم، الأمر الذي يدعونا الى تأسيس البحث على (المنهج التداوليّ) في معالجة الفعل(قُل)، وطبيعة استعماله في ميادين الحضارة الإسلامية كافة، بغية الوقوف على عمل اللغة، وكيف تنجز وظائفها الحضارية بدقة.

تكشف اللغة عن جوهر العالم ومظهره، وهي سلطان المعرفة، فكل سلطة للمعرفة ما هي إلا تجليات سلطة اللغة، فالمعروف" أن اللغة تُعدّ خاصية الكائن البشري الأساسية، بحيث جرى تعريفه بها، على أنه كائن ناطق بما يفيد أن كينونة الإنسان تكمن في اللغة وفي داخلها، وبالتالي فلا وجود له خارج اللغة، إن تموقع الكائن الإنساني لا يمكن أن يحدث إلا باللغة وفي اللغة وللغة ".

وفي هذا السياق تعد اللغة إحدى أهم وسائل الاتصال بين الله العليم الحكيم، وبين الإنسان، إذ بها يتحول القرآن الكريم إلى طاقة حركية حضارية، وبالبحث اللغوي نعيد اكتشاف القرآن الكريم في ضوء فلسفة اللغة ووظائفها الحضارية.

لذلك لابد من أن نخصص مباحث لغوية ترى في القرآن الكريم قضية لغويّة وجوديّة وجماليّة تتطور بتطور الحضارة، بغية إنتاج تشكيلة حضاريّة تتطور هي الأخرى تحت ظلال حريّة القرآن الكريم بغية إدراك الوجود ومعرفته على أسس عقائديّة وعقليّة وجماليّة وعلميّة رصينة، وهذا يعني تحديد وجودنا الحضاري في ضوء لغة القرآن الكريم، فهي القادرة على أن تمدّنا بقدرة عالية الكفاءة على وصف العالم، ومنهجه، وتفسيره، وتَغيّره.

إنَّ الأنموذج اللغوي الذي يساعد على إنجاز هذه المهمة هو إدراك المبحث اللغوي للفعل(قُل)، بوصفه نتاج عليم حكيم، الى مستمع مثالي هو الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام)، وكيف ستنجز عملية تداول المضامين الثاوية في هذا الفعل الخلّاق. وذلك لأنَّ الفعل(قُل) هو أداة تقود إلى وظيفة، تنجز بحزم رياضيّ، وهو البعد الحضاريّ في اللغة، إذ ليس هناك انفعالات وتحيّزات، إنما الكل يعمل على وفق منطق له شروطه الخاصة.

تتكثف الحضارة في اللغة، فهي ذاكرة الحضارة، ولغة القرآن الكريم، في إطار هذا التصور، هي لغة الحضارة، التي تؤسس علماً وعقلاً واقتصاداً وأخلاقاً ومنطقاً، يرتقي بالمجتمع إلى أعلى درجات الرفاه الحضاري؛ إذ إنَّه أرقى وظائف اللغة هي إنشاء المجتمعات البشرية التي تتطور عبر اللغة إلى مجتمعات حضارية، بوصفها إحدى أدوات تغييرهِ المهمة.

واللغة هي أداة الحوار الحضاري بين الله العليم الحكيم وبين البشر، وبين البشر أنفسهم، وفيها تتراكم المعرفة. وقد رسمت لغة القرآن الكريم ملامح المعرفة الإسلامية وثقافتها وعلمها، وحدّدت آليّات عمل العقل الإسلامي. إذ تدعو هذه اللغة دائماً الى التفكير والتفكّر في ملكوت السموات والأرض والأنفس، واكتشاف قوانين السنن الفاعلة في هذا الملكوت الاجتماعيّ والتاريخيّ والثقافيّ والطبيعيّ.

وحدَّدت لغة القرآن الكريم مسارات وعي الأمة في الإطار العقائديّ والفقهيّ والقانونيّ والاجتماعي والمعرفيّ والتاريخيّ والاقتصاديّ وما الى ذلك، فاللغة هي مصنع الإدراك والوعي بمستوياته المتعددة الحسِّيِّة وغير الحسِّيِّة، وقد راعت لغة القرآن الكريم هذه المسألة بعناية حين رسمت الوجود بعالَمَيهِ، عالم الغيب وعالم الشهادة.

لقد صنعت اللغة من خلال القرآن الكريم أمة من أمم متعددة توحَّدت على المفاهيم المحوريَّة في القرآن الكريم: التوحيد، النبوَّة، الغيب وعوالمه، وغيرها من المفاهيم.

في هذا الإطار ننظر إلى الفعل (قُل) في القرآن الكريم، لنقف عند مضامينه ودلالاته الحضاريَّة، وذلك لأنَّ هذا الفعل فيه ميزة واضحة تتمثّل بما يأتي:ــ

1ـ إنَّه خطاب الذات الإلهية إلى الرسول حصراً، ليقول ما يبلغه الله تعالى من قول في القضية المحدَّدة.

2ـ تتجلّى فيه سلطة العلم الإلهيّ.

3ـ إنَّه فعل التبليغ الإلهيّ، المرتبط بقصد الله تعالى في تحقيق الغاية من التبليغ، وهو إعادة صياغة الوجود الإنساني على وفق العلم الإلهيّ.

4ـ إنَّه الفعل الذي ينطوي على الحريّة التي تقود إلى الغيب، وعلى القوة التي تقود إلى العدالة، إنَّه (القول الثقيل) الذي يعيد صياغة الروح والعالم على وفق منطق الحقّ والحقيقة والعدل والجمال.

يحدّد الفعل(قُل) علاقتنا بالعالم، بكل ما يُمَثّلهُ العالم من مكوِّنات اجتماعيّة واقتصادية وسياسية وثقافية وجماليّة، ويحدد كذلك أدلة وظائف المنظومات المتعدّدة العقائدية والاقتصادية والاجتماعيّة... وما إلى ذلك. وبالتأكيد على المقاصد والغايات، ففي(قُل) يتفاعل العقل الإنساني مع لغة الكينونة الإلهيّة، من أجل تأسيس قواعد الحوار القرآني مع البشريّة عبر الرسول، بغية تكريس منظومة قيمَيّة تنظُم الوجود الإنساني فيما يأتي:ـ

أـ الحريّة.

ب ـ الحقّ والحقيقة.

ج ـ العقل.

د ـ الأخلاق.

ه. الجمال.

وبناء على المنظومة القيميّة والعقليّة، تبين بأنَّ الفعل(قُل) هو مساحة ضوء تُفسَّر بها حركة البشرية سياسيِّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً.. وما إلى ذلك. وإنَّه رفض لمنطق القتل والجبر والقهر على مبدأ، ذلك أن مبادئ الناس مختلفة.

إنَّ إدراك وظيفة الخطاب في بنية(قُل) اللغويّة، يقودنا إلى إنجاز المطلب الإلهيّ بدقّة ووضوح ويُسر محقِّقين التقوى بأرقى أشكالها الإيمانيّة والعلميّة، فالله سبحانه وتعالى يطالبنا في آيات(قُل) أن نفهم سر العلاقة بين العقل والمعرفة، والمعرفة هنا ليست نظرية فلسفية، إنما هي علم إلهي منزل لإدراك حقيقة الوجود بأبعاده المتعددة، ولذلك فإنَّ أي خلل في إدراك العلم الإلهي، يقود الى خلل في إدراك العالم، وإلى خلل أكبر في إدراك وظيفة الدين والرسالة الإلهيّة، وبالتالي إلى خلل في الفعل الإنسانيّ، وخلل في النتائج المترتّبة عليه.

الفعل(قُل) خطابُ بناء الشخصيّة النبوية وتحديد آليّاتها ووظائفها، فقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم، مهامّ بناء الأمة منطلقاً من(قُل) في مواجهة الحياة وتفاصيلها، والأمة وعناصرها، والعالم وبنيته. إذ في(قُل) تصاغ قواعد المنهج النبويّ وسننه في بناء الإنسان والعالم. فهو يتحرك في إطار آيات(قُل) ليس له تجاوزها، وتتفرّع تفاصيلها ودلالاتها في الخطاب القرآني خارج إطار(قُل). كما هي في خطاب المؤمنين على سبيل المثال.

وفي الفعل(قُل)، تفريق بين الحقيقة والتاريخ، إذ إنَّ متضمنّات(قُل) حقائق، وفي غير(قُل) يكمن كثير من التاريخ بوقائعه المتعددة البنّاءة والهدّامة، الحريّة والاستبداد، الحقّ والباطل، الحكمة والصلف، وفي(قُل) يكمن جوهر رسالة الله تعالى إلى البشر، فهو فعل التبليغ الإلهيّ، وهو جذع القرآن الكريم الذي يحمل أغصانه وثماره. وهي التي تحدد قول النبي في الرد على الكافرين بالرسالة، فليس له أن يقول رأيه.. إنما القول قول الله تعالى.

ورد الفعل(قُل) في (294) موضعاً، في(270) آية، ليؤكد على أهمية الخطاب القرآني اللغوي ذي الأبعاد غير المتناهية في بناء الحضارة القرآنية، إنه قيمة لغوية متميّزة داخل بنية القرآن الكريم، لأنَّ بنية القرآن اللغويّة هي مجموعة تراكيب من جمل وأحاديث حكاها الله العليم الحكيم، عن قائليها، في حين إن خطاب(قُل) هو لغة الذات الإلهيّة للرسول ومنه إلى العالم.

نسعى في دراسة خاصة تصدر قريباً الى دراسة تداولية لآيات (قُل) لبيان معانيها ودلالاتها في القرآن الكريم.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية