الحمدُ لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. أما بعد:
فإن المتأمل في أحوال المسلمين في هذا الزمان لا ينقضي تعجُّبُه من سوء أحوالهم وخِذلان الله تعالى لهم، وتلفُّه الحَيرة من كل اتجاه حينما يتفكر في أسباب هذا السوء وهذا الخذلان الذي هم فيه.
وقد تكلم في هذا الأمر كثيرون غيري، وكتب الكاتبون من المسلمين الذين يبحثون في أمراض هذه الأمة وأدوائها وكيفية علاجها. وربما كان من أشهرهم في العصر الحديث اثنان: الفيلسوف الكبير الشاعر الهندي محمد إقبال والمفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي، رحهما الله تعالى، وبينهما وبعدهما كثيرون.
وكل عالم أو مفكّر أو كاتب أو شاعر، ممن يشغله تراجع الأمة الإسلامية بنحو عام، والأمة العربية بنحو خاص، عن قيادة الأمم، يتجه اتجاهاً أو ينحو منحىً يرى أنه "مكمن الخطر" وراء هذه الأمراض وتلك الأدواء التي أصيبت بها أمتنا منذ عدة قرون، ولعل أسوأها هذا القرن.
ومنذ مدة يعنّ لي خاطر في هذا الشأن، ويتردد في ذهني من حين لآخر، وأستبعد الكتابة فيه، وأقول في نفسي: كل ما ستقوله يعرفه كل الناس أو معظمهم، فما الفائدة من ذكره وتكراره؟
ولكن اليوم – وهو أحد أيام الجمعة من شهر نوفمبر/2020- عاد إليّ الخاطر بقوة، فاتجهت إلى كراسي وقلمي، فدوّنت فيه وجهة نظري في أحد مكامن الخطر وراء ما نحن فيه من التراجع أو التردّي في أحوالنا العامة والخاصة، على مستويات الأفراد والأسر والمؤسسات والمجتمعات.
هذا السر وهذا الداء الذي يكمن وراء كل أوضاعنا السيئة -وهو واحد من مكامن كثيرة يمكن الكتابة عنها في مقالات أخرى- هو فيما أرى تعامل أهل الدين كتعامل أهل الدنيا، حيث لا يميّز بينهما إلا المظهر في كثير من الأحيان.
قد يكون كلٌّ من مُصْطَلَحَي "أهل الدين" و"أهل الدنيا" عائماً غائماً؛ لأنه لم يرد لهما تعريفات محددة عند علماء الشريعة، ولكنهما من المصطلحات العرفية المتداولة التي يفهمها الناس بالجملة دون التفصيل.
ولو أردت وضع تعريفين مختصرين لهما، لقلت:
أهل الدين: هم المسلمون الذين يغلب عليهم التزام أحكام الدين، وهمّهم الفوز برضا الله تعالى وجنته في الآخرة. ويلحق بهم بعض المتدينين من أصحاب الديانات الأخرى.
وأهل الدنيا: هم المسلمون الذين انغمسوا في ملذات الدنيا، وطغى على سلوكاتهم الانحراف عن قوانين الدين، وكان حرصهم على الدنيا أكثر من حرصهم على الآخرة.
وهنا أعود لذكر مكمن الخطر جملة، ثم تفصيله وبيانه:
أقول: حينما تجد معظم أهل الدين يتعاملون فيما بينهم وبين الآخرين كتعامل أهل الدنيا في أقوالهم وأفعالهم، وقلّما تجد أحداً من أهل الدين الحقيقيين في واقع الحال، هنا يكمن الخطر على هذه الأمة؛ لأن معظم أمراضها منها وليست من خارجها، كما يقال في المثل العامي: "دودُ الجِبن منه وفيه".
أما شرح هذا الموجز وبيانه، فيطول بقدر ما يضرب له المرء من الأمثلة، وإنني لمجتزئ من كل مجال في حياتنا ببعض الأمثلة.
فعلى المستوى الفردي، لا يبالي أكثر أهل الدين في الغِيبة والنميمة ونحوهما، وإن كانت النميمة فيهم أقلّ، والغيبة أكثر انتشاراً. فحديث بعضهم على بعض في غَيبته لا يكاد ينقطع، وقُلْ مثل ذلك في الهَمْزِ واللَّمْزِ.
ولا يبالي أحدهم بالكذب بالحديث إذا احتاج لذلك، وإخلاف الوعد، والفجر في الخصام، إذا كانت مصلحته الشخصية تستدعي ذلك. وكل ذلك من الكبائر كما هو معلوم، وهي من صفات المنافقين.
وكثير منهم يُكثر من السبِّ والشَّتم واللَّعن –وقد يكون فاحش الكلام بذيء اللسان- وبخاصة لعنَ الأولاد، وسبَّ الأيام والساعات. وكل ذلك منهي عنه، ويصل بعضه إلى حد الكبائر، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللِّعَانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ»([1])، وجاء في الحديث القدسي الصحيح قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ: يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ»([2]).
كذلك لا يبالي أكثر أهل الدين في الحصول على أغراضهم الدنيوية من عمل أو منصب أو شهرة أو مكسب مادي بالطرق ذاتها التي يسلكها أهل الدنيا، وإن كانوا يعملونها بالخفاء. فقد يتوسط أحدهم بالوسطاء من أهل الدنيا، ويستعين بهم على الآخرين الذين يقفون في وجهه أو يعترضون طريقه، حتى لو كانوا من أهل الدين مثله؛ سواء بالكذب، أو التدليس، أو الرشوة أحياناً.
وتجدهم يتزاحمون على المصالح الدنيوية ويتآمر بعضهم على بعض في الخفاء ليصل إلى مقصوده الدنيوي ومبتغاه. وكل هذا مما ثبتت حرمته، وحذّرنا منه رسول الله r، بقوله: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»([3]).
ولا يبالي كثير من أهل الدين أن يكون من "المُدَخّنين" (شاربي السجائر والأراجيل ونحوهما)، وهو إلى التحريم أقرب منه إلى الكراهة، وهو مظهر مشين لا يليق بالصالحين.
وعلى المستوى الأسريّ، تجد كثيراً من أهل الدين لا يبالي الرجل بشأن زوجته وأولاده ولا المرأة بشأن زوجها وأولادها؛ ألتزموا أساسيات الدين في العبادات واللباس والزينة، أم لم يلتزموا. وهذا من المسؤولية التي بيّنها لنا رسول الله r بقوله: «أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ ..»([4]).
كذلك تجد كثيرين من أهل الدين يقطعون أرحامهم، ولا يبالون، وإذا سئلوا أو نبّهوا، قالوا: الطرف الآخر هو من بدأ بالقطيعة. ومعلوم من الدين بالضرورة أن قطيعة الرحم من الكبائر، ولا أدل على ذلك من قول النبيِّ r: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ»([5]). والمراد قاطع رحم، كما جاء التصريح به في رواية أبي داود([6]).
وفي المستوى المجتمعي، تجد أكثر أهل الدين يبخلون بما آتاهم الله تعالى من مال ونعم، فلا يكاد أحدهم يتصدق بصدقة سوى صدقة الفطر في رمضان، وكثير منهم لا يؤتي زكاة ماله.
وكل هذا من الفروض أو المندوبات القوية التي تصلح بها أحوال الناس مادياً، ويختفي الفقر بسببها أو يكاد. كما أن الشح والإيمان لا يجتمعان في قلب عبد، كما قال عليه الصلاة والسلام: «لَا يَجْتَمِعُ شحٌّ وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ»([7]).
ولعل من مظاهر الخطر في حياة أهل الدين، على المستويين الفردي والجماعي معاً، اتخاذ المقاييس الدنيوية للتفاضل بين الناس، من المظاهر المالية أو المكانية أو الجسدية، والتقرب منهم على حسب ذلك، وفي المقابل هجر المقاييس الدينية من التقوى والعمل الصالح، والعبادة والزهادة وحسن الخلق.
فتجد الواحد منهم –وهم كثيرون- يتعالى على أخيه المؤمن المتواضع، الهيّن الليّن، ويحترم ويقدّر صاحب الجاه والمال، بل ربما عظّمه، وتذلّل له. وتجده يستغل طيب الطيبين، ويخضع وينكسر للمتكبرين المستعلين على الآخرين. وكل هذا مخالف لمبادئ الدين، والله المستعان.
وتجد الواحد منهم يجعل من تصوراته ووجهات نظره في الدين والحياة معياراً للحق والباطل، وميزاناً يزن به أقوال الآخرين وأفعالهم؛ فما يعتقده من تشددٍ أو تساهل في الدين أو غير ذلك هو الحق الذي لا محيد عنه، وما يراه صواباً فهو الصواب الذي لا خطأ فيه. ثم يُرتّب على هذه المعايير وتلك الموازين مواقفه تُجاه الآخرين، وخصوصاً أهل الدين؛ فتراه ينتقد العلماء ويُقيّمهم، وهو دونهم بمراتب، وتراه يُجانب في صداقته بعض المخلصين الصادقين في تديّنهم لمجرد مجانبتهم لطريقته في التديّن، وتراه يُعادي أهل بلد أو إقليم لأنهم ليسوا على مذهبه وتوجهه الفكري، وغير ذلك كثير.
وهذا غيض من فيض مما يحزّ في النفس، ويعصّ على القلب، حتى صرنا نُحِسُّ وكأن الدنيا ليس فيها أهل دين حقيقيين، وما أبرئ نفسي، والله ولي المتقين.
([1]) أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين برقم (29)، وقال: صحيح الإسناد ولم يُخرجاه، وسكت عنه الإمام الذهبي في تعليقه.
([2]) أخرجه البخاري برقم (6181). وفي رواية عند مسلم برقم (2246): «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ. فَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ؛ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا».
([3]) متفق عليه؛ البخاري برقم (4015)، ومسلم برقم (2961).
([4]) متفق عليه؛ البخاري برقم (7138)، ومسلم برقم (4751).
([5]) متفق عليه؛ البخاري برقم (5984)، ومسلم برقم (2556).
([6]) سنن أبي داود السِّجِسْتانيّ، برقم (1696).
([7]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، برقم (8512).