الدواء الجسدي والدواء القلبي:
في الحكمة الإسلامية نجد أن الأمراض الإنسانية نوعان، فمنها ما هو جسدي، ومنها ما روحي أو قلبي.
ففي الأمراض الجسدية، نجد الحديث الاتي: عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم أن رجلا في زمان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] جرح فاحتقن الجرح بالدم وأن الرجل دعا برجلين من بني أنمار فنظرا إليه فقال لهما رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " أيكما، أطب؟ ". فقالا: أفي الطب خير، يا رسول الله؟ [صلى الله عليه وسلم]: " أنزل الدواء الذي أنزل الداء ". فأمرهما رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يومئذ بمداواته فبطا الجرح وغسلاه ثم خاطاه (ينظر: موطأ مالك بن أنس، صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، ١٤٠٦ هـ - ١٩٨٥ م، 2/ 121).
أما ما هو روحي أو قلبي فهو ما يعالجه الشيخ ابن القيم في كتابه (الداء والدواء) وهو ما عالجه علماء مسلمون كثيرون قبله.
وفي مقدمتهم الإمام الغزالي في كتابه: "إحياء علوم الدين" إذ يقول عن القلب:
"فشرف الإنسان وفضيلته التي فاق بها جملة من أصناف الخلق باستعداده لمعرفة الله سبحانه التي هي في الدنيا جماله وكماله وفخره وفي الآخرة عدته وذخره وإنما استعد للمعرفة بقلبه لا بجارحة من جوارحه فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله وهو العامل لله وهو الساعي إلى الله وهو المكاشف بما عند الله ولديه وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد واستخدام الراعي للرعية والصانع للآلة فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً بغير الله وهو المطالب وهو المخاطب وهو المعاتب وهو الذي يسعد بالقرب من الله فيفلح إذا زكاه وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه وهو المطيع بالحقيقة لله تعالى وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره وهو العاصي المتمرد على الله تعالى وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثاره وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه إذ كل إناء ينضح بما فيه وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه وإذا جهل نفسه فقد جهل ربه ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل إذ أكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم فإن الله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته ومعرفة صفا" (ينظر: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت ٥٠٥هـ): " إحياء علوم الدين"، الناشر: دار المعرفة – بيروت، 3/ 2).
متى ينتفع المريض من الدواء؟
ينبه الشيخ ابن القيم رحمه الله أنه ليس كل دواء شاف ولا كل طبيب معالج، فيقول: "ولكن هاهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها، هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحل، وقوة همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المنفعل، أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء، كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، فكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان للراقي نفس فعالة وهمة مؤثرة في إزالة الداء" (ينظر: ابن القيم: "الجواب الكافي"، ص 9).
وهذا ما أشار إليه الإمام البقاعي، حينما قال: " والحمية أصل الدواء، فمن لم يحتم عن المنهيات لم ينفعه تداويه بالمأمورات، كالذي يتداوى ولا يحتمي يخسر الدواء ويتضاعف الداء {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ﴿١٠٣﴾ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴿١٠٤﴾ [الكهف: ١٠٣، ١٠٤] وجاؤوا بحسنات كالجبال وكانوا يصومون ويصلون ويأخذون وهناً من الليل لكن ذلك تداو بغير حمية لما لم يحتموا من الدنيا التي نهوا عن زهرتها، فكانوا إذا لاحت لهم وثبوا عليها فيصيبون منها الشهوات ويعملون المعصيات فلم ينفعهم المداواة.." (ينظر: إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (ت ٨٨٥هـ): "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1/ 325 – 326).
وهكذا نجد العلماء يصفون أدوية مختلفة لأمراض روحية وقلبية شتى، فدواء قسوة القلب ملاث كثرة طاعة الله، يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "... كلما عصى الإنسان ربه قسا قلبه، لقوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ} (المائدة: 13)، عكس ذلك أن نقول: كلما أطاع الإنسان ربه لان قلبه، وما أكثر الذين يطلبون أن تلين قلوبهم ويسألون ما هو الدواء لقسوة القلب؟ نقول: الدواء لقسوة القلب كثرة طاعة الله عزَّ وجل" (محمد بن صالح العثيمين: "تفسير القرآن الكريم «سورة المائدة"، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثانية، ١٤٣٥ هـ، 1/ 197).
ضرر المعاصي على الإنسان:
يبين الإمام ابن القيم في كتاب (الداء والدواء) أن المعاصي ينتج عنها الكثير من الأمراض، فمن ذلك أن ضرر الذنوب في القلب كضرر السموم في الأبدان، وأن المعصية تورث الذل، وأن المعاصي تفسد العقل، وأن الذنوب تطبع على القلوب، وأن الذنوب تدخل العبد تحت لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك حرمان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذنوب أيضاً تحدث الفساد في الأرض، والذنوب تطفئ الغيرة، والمعاصي تذهب الحياء، والمعاصي تضعف في القلب تعظيم الرب، والمعاصي تنسي الله، والمعاصي تخرج العبد من دائرة الإحسان، والعاصي يفوته ثواب المؤمنين، والمعاصي تضعف القلب، والمعاصي تزيل النعم، والمعاصي تلقي الرعب والخوف في القلوب، والمعاصي تمرض القلوب، والمعاصي تعمي البصيرة، والمعاصي تصغر النفس، والمعاصي في سجن الشيطان، والمعاصي تسقط الكرامة، والمعصية مجلبة للذم، والمعصية تؤثر في العقل، والمعاصي توجب القطيعة بين العبد والرب، والمعاصي تمحق البركة، والمعصية تجعل صاحبها من السفلة، والمعاصي تجرئ على الإنسان أعداءه، والمعاصي تضعف العبد أمام نفسه، والمعاصي تعمي القلب، والمعصية تنسي العبد نفسه، وهي تزيل النعم، وتباعد بين العبد والملك، وتجلب الهلاك، وغير ذلك من المفاسد العظيمة (ينظر فهرس كتاب الداء والدواء لابن القيم).
ما الدواء؟
إذاً نحن أمام قضية مهمة جداً تخص المسلم قديماً وحديثاً، أي قضية (الداء والدواء).. فالمعصية هي الداء، والدواء في ترك المعصية، والقرب من الله سبحانه وتعالى، والتوبة والإنابة إلى الله عز وجل.
يبين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أن أهم شيء يعين الإنسان على ترك المعصية خوف الله عز وجل، وأن يؤمن ويوقن بأن أي عمل يعمله فإنه سيلاقي ربه بذلك.
ثانياً: أن يفكر في العاقبة، ما هي العاقبة من المعصية؟ عواقب المعاصي سيئة؛ لأنها تهون على العبد معصية الله عز وجل، فلا يزال مع الشيطان حتى يوصله إلى الشرك، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن المعاصي بريد الكفر.
أي: أن الإنسان يرتحل منها مرحلة مرحلة حتى يصل إلى غايته -والعياذ بالله. فإذا تأمل الإنسان في عواقب المعصية فإن هذه من أسباب تركها.
ثالثاً: أن يعلم أن المعصية لا تزيده من الله إلا بعداً، وإذا أبعد عن الله أبعد الناس عنه، لأن الإنسان إذا أبعد عن الله -والعياذ بالله- أصبح في قلبه وحشة، وأصبح كأن صفحة أمامه يقرؤها الناس بمعايبه ومعاصيه، وتجده قد كتب عليه الذل، فيتأمل مثل هذه الأشياء وهذا مما يقويه على ترك المعصية.
رابعاً: إذا كانت المعصية بسبب معاشرة بعض أهل السوء فليبتعد عنهم ويجتنبهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مثّل جليس السوء بنافخ الكير، قال: (إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة) (ينظر: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ): "لقاء الباب المفتوح، لقاءات كان يعقدها الشيخ بمنزله كل خميس. بدأت في أواخر شوال 1412هـ وانتهت في الخميس 14 صفر، عام 1421هـ، مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، http://www.islamweb.net، 6/ 103).