نلحظ في فتاوى الإمام محمود شلتوت رحمه الله أبعاداً اجتماعية تتعلق بجوانب حياة الإنسان المعاصرة، وهذا ما يعكس عقلية فقهية فذة قادرة على مواجهة متغيرات الحياة الإنسانية المعاصرة وإيجاد الحلول المعاصرة لها في ضوء التشريع الإسلامي. فمن ذلك، فتوى الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله حول علاقة الجن والإنسان، ففي سؤال وجه لفضيلة الإمام الأكبر عن ظهور الجن للإنسان العادي؟ وما رأيكم فيه؟، فبين رحمه الله: يذكر الكثير من الناس أن في هذا العالم، ما وراء الإنسان المفكر الناطق العامل، نوعاً آخر غيبياً لا تظهر ذاته، ولكن يعرف بآثاره وأفعاله، وله من السلوكيات ما يتعلق بالإنسان وبمختلف نواحي الحياة، وله خلف ذلك خاصية الإخبار بالمغيبات، والقدرة على أن يتلبس في جسم الإنسان، فينطق بلسان الإنسان، ويتحرك الإنسان بتحركه، كما أن للإنسان وسائل - تلاوات وأدعية، وتعاويذ، يستعين بها على استحضاره كلما أراد، وعلى استخدامه في قضاء ما يريد من حاجات وأنباء، وأن هذا النوع هو المعروف في مصطلحات الناس والكتب السماوية باسم (الجن)، وبينما يعتقد هذا الفريق من الناس هذا الرأي يعتقد فريق آخر منهم: أنه ليس في العالم، وراء الإنسان المرئي المشاهد الذي ينطق و يفكر ويعمل، نوع ماله هذه الخواص، وأنه ليس في الكون سوى الإنسان. والرأيان في الواقع يمثلان الفكرة الإنسانية المعروفة من قديم في "المادية والمثالية". [1]
وبينما يتقاسم الناس هذين الرأيين في الجن وما وراء المـادة، وهما كما نلاحظ على طرفي نقيض، من الإفراط والتفريط، تبين الكتب السماوية، وتحدد الواقع الذي يعلمه خالق الكون ومنزل تلك الكتب، وتجعل الأمر في (الجن)، إلى الحد الوسط، وتقرر الواقع الذي فرطت فيه الفكرة الإنسانية، وهو أصل الوجود لهذا النوع، فتقرر وجوده، وتقرر له خواص ذاتية أخرى، وتنفي عنه هذه الخواص التي أضافتها إليه الفكرة الإنسانية في جانب الإفراط. جاءت الكتب السماوية، بعبارات واضحة لا تحمل التأويل، بأن في العالم خلقاً آخر غير الإنسان لا ترى الأشباح فيه، ولا تعرف حقيقته. فذكرت الملائكة وجعلت الإيمان بها عنصراً من عناصر الإيمان، ثم ذكرت أعمالهم وبينتها بتفصيل، ثم وصفتهم بالطاعة الدائمة التي خلقوا بها وأنهم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴿٦﴾} (التحريم: 6)، وذكرت الجن وجعلتهم نوعاً مقابلاً للإنسان، يندرجون معه تحت عنوان د الثقلين، وخاطبتهم وتحدثت عنهم، في المسؤولية، والحساب، والمصير، كما خاطبت الإنسان وتحدثت عنه في كل ذلك { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ﴿١٣٠﴾} (سورة الإنعام: 130). [2]
ويبين الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله أنه بإخبار القرآن والكتب السماوية هكذا بوجود الجن كان إنكارهم تكذيبا لإخبار الله سبحانه، وبذلك يكون من لم يؤمن بهم غير مؤمن بالقرآن، ولا برسالات السماء، وتكون محاولة تأويل هذه العبارات الواضحة تحريفا للكلم عن مواضعه، وصرفاً للألفاظ عن معانيها، وإفساداً لهذه الأمور التي جاءت بها تلك الكتب السماوية بين «الإنس والجن». ولذلك، فليس في وجود الجن شك، وليس في مسئوليتهم عن التكاليف ومؤاخذتهم على التقصير شك، وليس في استعدادهم لاستماع القرآن وتلقيه وفهمه وتدبره والتأثر به شك. فكل هذا حق ولا شك فيه. وكما جاء القرآن بأصل وجودهم جاء بما يرشد إلى صلتهم بالناس، وأنها لا تعدو «الوسوسة والتزيين، على نحو ما يحدث للناس من الناس، واقرأ في ذلك من سورة الناس: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴿٤﴾ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴿٥﴾ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴿٦﴾} (سورة الناس: 4 -6). واقرأ في ذلك أيضاً ما جاء على لسان الشيطان نفسه – وهو من الجن بنص القرآن - - {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٢٢﴾} (سورة إبراهيم: 22). [3]
ويعتقد الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله أنه ليس للجن مع الإنسان شيء وراء الدعوة، والوعد، والوسوسة والإغراء والتزيين، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ } ﴿الأعراف: ٢٠﴾، وكما ورد هذا في القرآن، ورد فيه أيضاً ما يقطع بأن الذين يتأثرون بوسوسة الجن وإغوائهم إنما هم فقط ضعاف العقول والإيمان، أما أقوياؤهما فهم بعقولهم وإيمانهم بعيدون عن التأثر بها، وقد استثنى الله من المتأثرين بها عباده المخلصين، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} ﴿الحجر: ٤٢﴾. أما ما وراء الوسوسة والإغواء – من ظهورهم للإنسان العادي بصورتهم الأصلية، أو بصورة أخرى يتشكلون بها، ومن دخولهم في جسمه، واستيلائهم على حواسه، ومن استخدامه إياهم في جلب الخير ودفع الشر، واستحضارهم كلما أراد، ومن استطلاع الغيب عن طريقهم، ومن التزوج بهم ومعاشرتهم، وغير ذلك مما شاع على ألسنة الناس – فهذا كله مصدره خارج عن نطاق المصادر الشرعية ذات القطع واليقين، وقد صدق كثير من الناس - في كل العصور - كثيراً مما يسمع من أحاديث الجن، أو يتخيل من تصرفات منسوبة إليهم، صدقوا ظهورهم للإنسان العادي وتشكلهم بغير صورتهم، وصدقوا. [4]
ومع هذا كله قد تغلب الوهم على الناس، واستمر المشعوذون في كل العصور على التلبيس على الناس، وعلى غرس هذه الأوهام في نفوس الناس، استغلوا بها ضعاف العقول والإيمان، واقنعوهم أن الجن يتلبس جسم الإنسان، وأن لهم قدرة على استخراجه، ومن ذلك كانت بدعة الزار، وكانت حفلاته الساخرة المزرية، ووضعوا في نفوسهم أن لهم القدرة على استخدام الجن: في الحب والبغض، والزواج والطلاق، وجلب الخير ودفع الشر، وبذلك كانت « التحويطة والمندل وخاتم سليمان، استخدموهم في إظهار الغيب، من مسروق ضائع، أو مستقبل مجهول، واستخدموهم في العلاج. استغلوهم بكل ذلك في كل شيء، وصارت لديهم مهنة منهـا يتكسبون، وللمال يجمعون، وبالعقول يعبثون وقد ساعدهم على ذلك طائفة من المتسمين بالعلم والدين، وأيدوهم بحكايات وقصص موضوعة أفسدوا بها حياة الناس، وصرفوهم عن السنن الطبيعية في العلم والعمل، وعن الجهد النافع المفيد. وجدير بالناس أن يشتغلوا يما يعنيهم، وبما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وألا يجعلوا لدجل المشعوذين طريقاً إلى قلوبهم، فليحاربوهم وليطاردوهم حتى يطهر المجتمع منهم، وليعرفوا ما أوجب الله عليهم معرفته مما يفتح لهم أبواب الخير والسعادة. [5]
وينبغي التنبيه أن العلماء والفقهاء المسلمين نبهوا قديماً على خطر وسواس الشيطان، وحذروا منه، فنجد ابن الجوزي في مقدمة كتابه: "تلبيس ابليس" يقول: " وأعلم أن الأنبياء جاءوا بالبيان الكافي وقابلوا الأمراض بالدواء الشافي وتوافقوا عَلَى منهاج لم يختلف فأقبل الشَّيْطَان يخلط بالبيان شبها وبالدواء سما وبالسبيل الواضح جردا١ مضلا وما زال يلعب بالعقول إِلَى أن فرق الجاهلية فِي مذاهب سخيفة وبدع قبيحة فأصبحوا يعبدون الأصنام فِي البيت الحرام ويحرمون السائبة والبحيرة والوصيلة والحام ويرون وأد البنات ويمنعونهن الميراث إِلَى غير ذلك من الضلال الذي سوله لهم إبليس فابتعث الله سبحانه وتعالى محمدا فرفع المقابح وشرع المصالح فسار أصحابه معه وبعده فِي ضوء نوره سالمين من العدو وغروره فلما انسلخ نهار وجودهم أقبلت أغباش الظلمات فعادت الأهواء تنشىء بدعا وتضيق سبيلا مَا زال متسعا ففرق الأكثرون دينهم وكانوا شيعا ونهض إبليس يلبس ويزخرف ويفرق ويؤلف وإنما يصح لَهُ التلصص فِي ليل الجهل فلو قد طلع عَلَيْهِ صبح العلم افتضح. فرأيت أن أحذر من مكايده وأدل عَلَى مصايده فَإِن فِي تعريف الشر تحذيرا عَنِ الوقوع فيه...". [6]
وقال الإمام ابن قيم الجوزية في مقدمة كتابه: "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان": " ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه، أجلب عليه بالوساوس، وأقبل بوجوه الشهوات إله، وزين له من الأقوال والأعمال ما يصده عن الطريق، وأمده من أسباب الغى بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصائده ومكائده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعريض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسكناته، والتحقق بذل العبودية الذى هو أولى ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول في ضمان { ِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: ٤٢] فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين، وحصولها يسبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين، وإشعار القلب...". [7]
[1] الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت: "الفتاوى: دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة"، ط 18، دار الشروق، مصر، 1424 ه- 2004، ص 21.
[2] الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت: "الفتاوى"، ص 22.
[3] الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت: "الفتاوى"، ص 22 – 23.
[4] الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت: "الفتاوى"، ص 24.
[5] الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت: "الفتاوى"، ص 27.
[6] جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (ت ٥٩٧هـ): "تلبيس إبليس"، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة: الطبعة الأولى، ١٤٢١هـ/ ٢٠٠١م، ص 4 – 5.
[7] محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت ٧٥١هـ): "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان"، المحقق: محمد حامد الفقي، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1/ 5.