العلم هذه النعمة العظيمة التي حباها الله سبحانه وتعالى للإنسان، وشرفه على سائر الكائنات بالمعرفة منذ أن علم آدم الأسماء كلها، قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿٣١﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿٣٢﴾ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿٣٣﴾} (البقرة: ٣١-٣٣).
سيزداد اهتمامك بالعلم، أي علم نافع تنتفع منه الإنسانية، وخصوصا العلم الشرعي إذا انتبهت إلى ما ورد في الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح من نصوص تمنح قيمة استثنائية وفائقة للعلم.. قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿١١﴾} (المجادلة: ١١).
وقال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} ﴿الزمر: ٩﴾. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} ﴿العنكبوت: ٤٣﴾. وفي الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. [1]
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن يزيد، أخبرنا عاصم بن رجاء بن حيوة، عن قيس بن كثير، قال: قدم رجل من المدينة إلى أبي الدرداء، وهو بدمشق، فقال: ما أقدمك، أي أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أما قدمت لتجارة؟ قال: لا. قال: أما قدمت لحاجة؟ قال: لا. قال: ما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم من في السماوات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، لم يورثوا (1) دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ (2) به، أخذ بحظ وافر ". [2]
ومعنى: "طريقًا من طرق الجنة" إشارة إلى أنَّ طرق الجنة كثيرة؛ فكل عمل صالح طريق من طرق الجنة، وطلب العلم أقرب طريق إلى الجنة، وأعظم وأفضل عمل من الأعمال المرضية عند الله؛ لأن صحة الأعمال وقبولها موقوف على العلم، فمن ليس له علم الصلاة لا تصح صلاته، وكذلك الصوم والحج وجميع الأعمال الصالحة. قوله: "وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم"، يعني: أن الملائكة تفرش وتبسط أجنحتها تحت قدمي طالب العلم تواضعًا له، ولتحمله ليبلغه حيث يمشي. [3]
ويحتمل أن يريد بوضع الأجنحة: التقرب والتواضع له من غير حقيقة وضع الأجنحة؛ يعني: تدور الملائكة حول طالب العلم ويزورونه ويحفظونه من الآفات، وذلك لعظم قدر العلم. قوله: "وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان" جمع حوت؛ يعني: أهل السموات وأهل الأرض حتى الحيتان في الماء يدعون لأهل العلم بالخير ويستغفرون لهم، وذلك لأن مَن طلبَ العلم يطلبُ إحياءَ الدين مما يرضاه الله ورسوله وأهل السموات والأرض، فلأجل هذا يدعون له، ولأن نفع العلم يصل إلى جميع الحيوانات. أما وصول نفع العلم إلى الملائكة؛ فالملائكة عباد الله، فهذا الاعتقاد شيء يحبه الله وملائكته فتدعوا الملائكة لأهل العلم؛ لأنهم يقولون فيهم ما هو حقهم لا زيادة فيه ولا نقصان. وأما وصول نفع العلم إلى أهل الأرض من الإنس والجن؛ فهو أن خلاصهم من النار بسبب العلم. وأما سائر الحيوانات؛ فلأن أهل العلم يبيِّنون ما هو الحلال وما هو الحرام، ويبيِّنون فيما يحل أكله كيف يُذبح حتى يجوز أكله، وكل ذلك نفع للحيوانات؛ لأن مَنْ لا علم له يظن أن قتل جميع الحيوانات غير الإنسان جائز فيقتلهم فيلحقهم ضرر بذلك، فلأجل أن العالم يصل منه نفع إلى الحيوانات تدعو الحيوانات له شكرًا لإنعامه عليها. قوله: "كفضل القمر ليلة البدر"، (ليلة البدر): وهي الليلة الرابع عشرة من الشهر، ونور القمر في هذه الليلة أكثر من نوره في جميع الشهر؛ يعني: بقدر. [4]
والتفاوت بين نور القمر ليلة البدر وبين نور الكواكب، يكون التفاوت بين فضل العالم وفضل العابد، والمراد بـ (العالم) العالم الذي له اعتقاد صحيح وله أداء فرائض الله تعالى، ولكن لا يشتغل بنافلة الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات لاشتغاله بتحصيل العلم، والمراد بـ (العابد) هنا: هو الذي يَعلم من العلم ما تصح به عباداته، ولكن لا يشتغل بالعلم الذي ليس عليه فرض؛ لاشتغاله بالعبادات. قوله: "وإن العلماء ورثة الأنبياء"؛ يعني: كما أن أولاد الرجل يرثون ويأخذون ماله بعد وفاته، فالعلماء يرثون ويأخذون العلم من الأنبياء، وينقلون العلم عنهم وينشرونه ويظهرون دينهم، ومحبة الأنبياء للعلماء أكثر من محبة الآباء للأولاد؛ لأن وصول النفع من العلماء إلى الأنبياء أكثر من وصول النفع من الأولاد لآبائهم. قوله: "أخذ بحظ وافر"، (الحَظُّ): النصيب، و (الوافر): التام الكامل؛ يعني: فمن أخذ العلم من الأنبياء يكون حظه أكثر من حظ الذي أخذ المال. [5]
إذا كلما تعمقت في فهم الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، وابتغيت بالعلم وجه الله سبحانه وتعالى زاد تقديرك لقيمة العلم، وأصبحت متعلقا به بشكل كبير، وارتبطت به حياتك ارتباطا كبيرا تعلما وتعليما.. [6]
[1] ينظر: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي، التميمي السمرقندي (المتوفى: 255هـ): “مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي”، تحقيق نبيل هاشم الغمري، الناشر: دار البشائر (بيروت)، الطبعة: الأولى، 1434هـ - 2013م، ص 650.
[2] ينظر: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ): “مسند الإمام أحمد بن حنبل”، المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م، 36/ 45-46.
[3] الحسين بن محمود بن الحسن، مظهر الدين الزَّيْدَانيُّ الكوفي الضَّريرُ الشِّيرازيُّ الحَنَفيُّ المشهورُ بالمُظْهِري (المتوفى: 727 هـ): “المفاتيح في شرح المصابيح”، تحقيق ودراسة: لجنة مختصة من المحققين بإشراف: نور الدين طالب، الناشر: دار النوادر، وهو من إصدارات إدارة الثقافة الإسلامية - وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة: الأولى، 1433 هـ - 2012 م، 1/ 313.
[4] المظهري: "“المفاتيح في شرح المصابيح”، 1/ 315.
[5] المظهري: "“المفاتيح في شرح المصابيح”، 1/ 316.
[6] ينظر حول المعاني والنصوص أعلاه: الإمام القاضي بدر الدين بن جماعة (ت 733ه): "تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم"، وبذيله ثلاثة ملاحق مفيدة، اعتنى به محمد بن مهدي العجمي، ط 3، دار البشائر الإسلامية، 1433 ه- 2012م، ص 31 وما بعد.